41- وإن أمارات العذاب والهزيمة قائمة ، ألم ينظروا إلي أنّا نأتي الأرض التي قد استولوا عليها ، يأخذها منهم المؤمنون جزءا بعد جزء ؟ وبذلك ننقص عليهم الأرض من حولهم ، والله - وحده - هو الذي يحكم بالنصر أو الهزيمة ، والثواب أو العقاب ، ولا راد لحكمه ، وحسابه سريع في وقته ، فلا يحتاج الفصل إلي وقت طويل ، لأن عنده علم كل شيء ، فالبينات قائمة{[104]} .
قوله تعالى : { أو لم يروا } يعني : أهل مكة ، الذين يسألون محمدا صلى الله عليه وسلم الآيات ، { أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } ، أكثر المفسرين على أن المراد منه فتح ديار الشرك ، فإن ما زاد في ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك ، يقول : { أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } ، فنفتحها لمحمد أرضا بعد أرض حوالي أرضهم ، أفلا يعبرون ؟ هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة .
وقال قوم : هو خراب الأرض ، معناه : أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ، ونهلك أهلها ، أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك ؟ قال مجاهد : هو خراب الأرض وقبض أهلها . وعن عكرمة قال : قبض الناس . وعن الشعبي مثله . وقال عطاء وجماعة : نقصانها موت العلماء ، وذهاب الفقهاء .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني مالك ، عن هشام بن عروة عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " . وقال الحسن : قال عبد الله بن مسعود : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : عليكم بالعلم قبل أن يقبض ذهاب أهله . وقال علي رضي الله عنه : إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد . وقال سليمان : لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر ، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس . وقيل لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس ؟ قال : هلاك علمائهم . { والله يحكم لا معقب لحكمه } ، لا راد لقضائه ، ولا ناقض لحكمه . { وهو سريع الحساب * }
ثم قال متوعدا للمكذبين { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } قيل بإهلاك المكذبين واستئصال الظالمين ، وقيل : بفتح بلدان المشركين ، ونقصهم في أموالهم وأبدانهم ، وقيل غير ذلك من الأقوال .
والظاهر -والله أعلم- أن المراد بذلك أن أراضي هؤلاء المكذبين جعل الله يفتحها ويجتاحها ، ويحل القوارع بأطرافها ، تنبيها لهم قبل أن يجتاحهم النقص ، ويوقع الله بهم من القوارع ما لا يرده أحد ، ولهذا قال : { وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } ويدخل في هذا حكمه الشرعي والقدري والجزائي .
فهذه الأحكام التي يحكم الله فيها ، توجد في غاية الحكمة والإتقان ، لا خلل فيها ولا نقص ، بل هي مبنية على القسط والعدل والحمد ، فلا يتعقبها أحد ولا سبيل إلى القدح فيها ، بخلاف حكم غيره فإنه قد يوافق الصواب وقد لا يوافقه ، { وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : فلا يستعجلوا بالعذاب فإن كل ما هو آت فهو قريب .
ثم وبخ - سبحانه - المشركين لعدم تفكرهم وتدبرهم واتعاظهم بآثار من قبلهم ، فقال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا . . . }
والهمزة للاستفهام الإِنكارى ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام .
والخطاب لمشركى مكة ومن كان على شاكلتهم في الكفر والضلال .
والمراد بالأرض هنا : أرض الكفرة والظالمين .
والأطراف جمع طرف وهو جانب الشئ .
والمعنى : أعمى هؤلاء الكافرين عن التفكير والاعتبار ، ولم يروا كيف أن قدرة الله القاهرة ، قد أتت على الأمم القوية الغنية - حين كفرت بنعمه - سبحانه - ، فصيرت قوتها ضعفا وغناها فقرا ، وعزها ذلا ، وأمنها خوفا . . وحصرتها في رقعة ضيقة من الأرض ، بعد أن كانت تملك الأراضى الفسيحة ، والأماكن المترامية الأطراف .
فالآية الكريمة بشارة للمؤمنين ، وإنذار للكافرين .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون } قال الآلوسى ما ملخصه : " وروى عن ابن عباس أن المراد بانتقاص الأرض : موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها . وعليه يكون المراد بالأرض جنسها وبالأطراف الأشراف والعلماء ، وشاهده قول الفرزدق :
واسأل بنا وبكم ، إذا وردت منى *** أطراف كل قبيلة ، من يتبع ؟
وتقرير الآية عليه : أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة ، وموتا بعد حياة ، وذلا بعد عز . . فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله - تعالى - الأمر عليهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة . .
والأول - وهو أن يكون المراد بالأرض : أرض الكفر ، وبالأطراف الجوانب - أوفق بالمقام ، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة ، وجملة " ننقصها " في موضع الحال من فاعل نأتى . . " .
وقوله - سبحانه - : { والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } بيان لعلو شأن حكمه - تعالى - ونفاذ أمره .
والمعقب : هو الذي يتعقب فعل غيره ، أو قوله فيبطله أو يصححه .
أى : والله - تعالى - يحكم ما يشاء أن يحكم به في خلقه ، لاراد لحكمه ، ولا دافع لقضائه ، ولا يتعقب أحد ما حكم به بتغيير أو تبديل ، وقد حكم - سبحانه - بعزة الإِسلام ، وعلو شأنه وشأن أتباعه على سائر الأمم والأديان . .
وقوله { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } أى : وهو - سبحانه - سريع المحاسبة والمجازاة ، لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من الإِحصاء والعد ، إذ هو - سبحانه - محيط بكل شئ ، فلا تستبطئ . عقابهم - أيها الرسول الكريم - فإن ما وعدناك به واقع لا محالة .
وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } قال ابن عباس : أو لم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض ؟
وقال في رواية : أو لم يروا إلى القرية تخرب ، حتى يكون العمران في ناحية ؟
وقال مجاهد وعِكْرِمة : { نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } قال : خرابها .
وقال الحسن والضحاك : هو ظهور المسلمين على المشركين .
وقال العوفي عن ابن عباس : نقصان أهلها وبركتها .
وقال مجاهد : نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض .
وقال الشعبي : لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حُشُّك ، ولكن تنقص الأنفس والثمرات . وكذا قال عِكْرِمة : لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكانا تقعد فيه ، ولكن هو الموت .
وقال ابن عباس في رواية : خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها . وكذا قال مجاهد أيضا : هو موت العلماء .
وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز أبي القاسم المصري الواعظ{[15727]} سكن أصبهان ، حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المرئي بدمشق ، أنشدنا أبو بكر الآجري بمكة قال : أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه :
الأرض تحيَا إذا ما عَاش عالمها *** مَتَى يمُتْ عَالم منها يمُت طَرفُ
كالأرض تحْيَا إذا ما الغيث حَل بها *** وإن أبى عَاد في أكنافهَا التَّلَفُ
والقول الأول أولى ، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية ، [ وكَفْرًا بعد كَفْر ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى } [ الأحقاف : 27 ] الآية ، وهذا اختيار ابن جرير ، رحمه الله ]{[15728]}
عطف على جملة { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } [ الرعد : 40 ] المتعلقة بجملة { لكل أجل كتاب } . عقبت بهذه الجملة لإنذار المكذبين بأن ملامح نصر النبي صلى الله عليه وسلم قد لاحت وتباشير ظَفَره قد طلعت ليتدبروا في أمرهم ، فكان تعقيب المعطوف عليها بهذه الجملة للاحتراس من أن يتوهموا أن العقاب بطيء وغيرُ واقع بهم . وهي أيضاً بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله مظهر نصره في حياته وقد جاءت أشراطه ، فهي أيضاً احتراس من أن ييأس النبي صلى الله عليه وسلم من رؤية نصره مع علمه بأن الله متم نوره بهذا الدّين .
والاستفهام في { أولم يروا أنا } إنكاري ، والضمير عائد إلى المكذبين العائد إليهم ضمير { نعدهم } . والكلام تهديد لهم بإيقاظهم إلى ما دب إليهم من أشباح الاضمحلال بإنقاص الأرض ، أي سكانها .
والرؤية يجوز أن تكون بصرية . والمراد : رؤية آثار ذلك النقص ؛ ويجوز أن تكون علمية ، أي ألم يعملوا ما حل بأرضي الأمم السابقة من نقص .
وتعريف { الأرض } تعريف الجنس ، أي نأتي أية أرض من أرضي الأمم . وأطلقت الأرض هنا على أهلها مجازاً ، كما في قوله تعالى : { واسأل القرية } [ سورة يوسف : 82 ] بقرينة تعلق النقص بها ، لأن النقص لا يكون في ذات الأرض ولا يرى نقص فيها ولكنه يقع فيمن عليها . وهذا من باب قوله تعالى : { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها } [ سورة محمد : 10 ] .
وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد ب{ الأرض } أرض الكافرين من قريش فيكون التعريف للعهد ، وتكون الرؤية بصرية ، ويكون ذلك إيقاظاً لهم لما غلب عليه المسلمون من أرض العدوّ فخرجت من سلطانه فتنقص الأرض التي كانت في تصرفهم وتزيد الأرض الخاضعة لأهل الإسلام . وبنوا على ذلك أن هذه الآية نزلت بالمدينة وهو الذي حمل فريقاً على القول بأن سورة الرعد مدنية فإذا اعتبرت مدنية صح أن تفسر الأطراف بطرفين وهما مكة والمدينة فإنهما طرفا بلاد العرب ، فمكة طرفها من جهة اليَمن ، والمدينة طرف البلاد من جهة الشام ، ولم يزل عدد الكفار في البلدين في انتقاص بإسلام كفارها إلى أن تمحضت المدينة للإسلام ثم تمحضت مكة له بعد يوم الفتح .
وأيّاً ما كان تفسير الآية وسبب نزولها ومكانه فهي للإنذار بأنهم صائرون إلى زوال وأنهم مغلوبون زائلون ، كقوله في الآية الأخرى في سورة الأنبياء : { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون } [ سورة الأنبياء : 51 ] ، أي ما هم الغالبون . وهذا إمهال لهم وإعذار لعلهم يتداركون أمرهم .
وجملة { والله يحكم لا معقب لحكمه } [ سورة الرعد : 41 ] عطف على جملة { أولم يروا أنا } مؤكدة للمقصود منها ، وهو الاستدلال على أن تأخير الوعيد لا يدل على بطلانه ، فاستدل على ذلك بجملة { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } ثم بجملة { أولم يروا أنا نأتي الأرض } ثم بجملة { والله يحكم } ، لأن المعنى : أن ما حكم الله به من العقاب لا يبطله أحد وأنه واقع ولو تأخر .
ولذلك فجملة { لا معقب لحكمه } في موضع الحال ، وهي المقيدة للفعل المراد إذ هي مصب الكلام إذ ليس الغرض الإعلام بأن الله يحكم إذ لا يكاد يخفى ، وإنما الغرض التنبيه إلى أنه لا معقب لحكمه . وأفاد نفي جنس المعقب انتفاء كل ما من شأنه أن يكون معقباً من شريك أو شفيع أو داع أو راغب أو مستعصم أو مفتد .
والمعقب : الذي يعقب عملاً فيبطله ، مشتق من العَقِب ، وهو استعارة غلبت حتى صارت حقيقة . وتقدم عند قوله تعالى : { له معقبات } [ سورة الرعد : 11 ] في هذه السورة ، كأنه يجيء عقب الذي كان عمل العمل .
وإظهار اسم الجلالة بعد الإضمار الذي في قوله : أنا نأتي الأرض } لتربية المهابة ، وللتذكير بما يحتوي عليه الاسم العظيم من معنى الإلهية والوحدانية المقتضية عدم المنازع ، وأيضاً لتكون الجملة مستقلة بنفسها لأنها بمنزلة الحكمة والمثل .
وجملة { وهو سريع الحساب } يجوز أن تكون عطفاً على جملة { والله يحكم } فتكون دليلاً رابعاً على أن وعده واقع وأن تأخره وإن طال فما هو إلا سريع باعتبار تحقق وقوعه ؛ ويجوز أن يكون عطفاً على جملة الحال . والمعنى : يحكم غير منقوص حكمه وسريعاً حسابه . ومآل التقديرين واحد .
والحساب : كناية عن الجزاء والسرعة : العجلة ، وهي في كل شيء بحسبه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولم يروا}، يعني كفار مكة، {أنا نأتي الأرض}، يعني أرض مكة، {ننقصها من أطرافها}، يعني ما حولها، يقول: لا يزال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يغلبون على ما حول مكة من الأرض، فكيف لا يعتبرون بما يرون أنه ينقص من أهل الكفر ويزداد في المسلمين، {والله يحكم لا معقب لحكمه}، يقول: والله يقضي لا راد لقضاء في نقصان ما حول مكة ونصر محمد صلى الله عليه وسلم، {وهو سريع الحساب} يقول: كأنه قد جاء فحاسبهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: أو لم ير هؤلاء المشركون من أهل مكة الذين يسألون محمدا الآيات، أنا نأتي الأرض فنفتحها له أرضا بعد أرض حوالي أرضهم، أفلا يخافون أن نفتح له أرضهم كما فتحنا له غيرها...
وقال آخرون: بل معناه: أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخرّبها، أو لا يخافون أن نفعل بهم وبأرضهم مثل ذلك فنهلكهم ونخرب أرضهم...
وقال آخرون: بل معناه: ننقص من بركتها وثمرتها وأهلها بالموت...
وقال آخرون: معناه: أنا نأتي الأرض ننقصها من أهلها، فنتطرّفهم بأخذهم بالموت... وقال آخرون: ننقصها من أطرافها بذهاب فقهائها وخيارها... وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال:"أو لَمْ يَرَوْا أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أطْرَافِها" بظهور المسلمين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عليها وقهرهم أهلها، أفلا يعتبرون بذلك فيخافون ظهورهم على أرضهم وقهرهم إياهم؟ وذلك أن الله توعد الذين سألوا رسوله الآيات من مُشركي قومه بقوله: "وإمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِيَ نَعِدُهُمْ أوْ نَتَوَفّيَنّكَ فإنّما عَلَيْكَ البَلاغُ وَعَلَيْنا الحسابُ". ثم وبخهم تعالى ذكره بسوء اعتبارهم ما يعاينون من فعل الله بضربائهم من الكفار، وهم مع ذلك يسألون الآيات، فقال: "أو لَمْ يَرَوْا أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أطْرَافِها "بقهر أهلها، والغلبة عليها من أطرافها وجوانبها، وهم لا يعتبرون بما يرون من ذلك.
وأما قوله: "واللّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ" يقول: والله هو الذي يحكم فينفذ حكمه، ويقضي فيمضي قضاؤه، وإذا جاء هؤلاء المشركين بالله من أهل مكة حكم الله وقضاؤه لم يستطيعوا ردّه.
ويعني بقوله: "لا مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ": لا رادّ لحكمه، والمعقّب في كلام العرب: هو الذي يَكُرّ على الشيء.
وقوله: "وَهُوَ سَرِيعُ الحِسابِ" يقول: والله سريع الحساب يحصي أعمال هؤلاء المشركين لا يخفى عليه شيء ومن وراء جزائهم عليها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض} أرض الكفر {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بما نفتح على المسلمين من بلادهم، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام، وذلك من آيات النصرة والغلبة ونحوه {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون} [الأنبياء: 44]،
والمعنى: عليك بالبلاغ الذي حملته؛ ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره؛ فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها، ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر... {لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} لا رادّ لحكمه.
والمعقب: الذي يكرّ على الشيء فيبطله، وحقيقته: الذي يعقبه أي يقفيه بالردّ والإبطال. ومنه قيل لصاحب الحق: معقب؛ لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب...
والمعنى: أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا.
فإن قلت: ما محل قوله "لا معقب لحكمه"؟ قلت:... كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وجملة معنى هذه الآية: الموعظة وضرب المثل، أي ألم يروا فيقع منهم اتعاظ. وأليق ما يقصد لفظ الآية هو تنقص الأرض بالفتوح على محمد...
وقوله: {لا معقب} أي لا راد ولا مناقض يتعقب أحكامه، أي ينظر في أعقابها، أمصيبة هي أم لا؟ وسرعة حساب الله واجبة لأنها بالإحاطة ليست بعدد...
اعلم أنه تعالى لما وعد رسوله بأن يريه بعض ما وعدوه أو يتوفاه قبل ذلك، بين في هذه الآية أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت...
[والمعنى:] أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة فيجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين، ويجعلهم مقهورين بعد أن كانوا قاهرين...
{وهو سريع الحساب} قال ابن عباس: يريد سريع الانتقام، يعني أن حسابه للمجازاة بالخير والشر يكون سريعا قريبا لا يدفعه دافع...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز... "وهو سريع الحساب "أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن. وقيل: لا يحتاج في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{والله يَحْكُمُ} ما يشاء وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال، وعلى الكفر بالذلة والإدبار حسبما يشاهَد من المخايل والآثار، وفي الالتفات من التكلم إلى الغَيبة وبناءِ الحُكم على الاسم الجليل من الدِلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى، وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها، وقوله تعالى: {لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} اعتراضٌ في اعتراض لبيان علوّ شأن حكمِه جل جلاله، وقيل: نصبٌ على الحالية، كأنه قيل: والله يحكمُ نافذاً حكمُه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن يد الله القوية لبادية الآثار فيما حولهم، فهي تأتي الأمم القوية الغنية -حين تبطر وتكفر وتفسد- فتنقص من قوتها وتنقص من ثرائها وتنقص من قدرها؛ وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وذات امتداد، وإذا حكم الله عليها بالانحسار فلا معقب لحكمه، ولا بد له من النفاذ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عقبت بهذه الجملة لإنذار المكذبين بأن ملامح نصر النبي صلى الله عليه وسلم قد لاحت وتباشير ظَفَره قد طلعت ليتدبروا في أمرهم، فكان تعقيب المعطوف عليها بهذه الجملة للاحتراس من أن يتوهموا أن العقاب بطيء وغيرُ واقع بهم. وهي أيضاً بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله مظهر نصره في حياته وقد جاءت أشراطه، فهي أيضاً احتراس من أن ييأس النبي صلى الله عليه وسلم من رؤية نصره مع علمه بأن الله متم نوره بهذا الدّين.
والاستفهام في {أولم يروا أنا} إنكاري، والضمير عائد إلى المكذبين العائد إليهم ضمير {نعدهم}. والكلام تهديد لهم بإيقاظهم إلى ما دب إليهم من أشباح الاضمحلال بإنقاص الأرض، أي سكانها. والرؤية يجوز أن تكون بصرية. والمراد: رؤية آثار ذلك النقص؛ ويجوز أن تكون علمية، أي ألم يعملوا ما حل بأرضي الأمم السابقة من نقص. وتعريف {الأرض} تعريف الجنس، أي نأتي أية أرض من أرضي الأمم. وأطلقت الأرض هنا على أهلها مجازاً، كما في قوله تعالى: {واسأل القرية} [سورة يوسف: 82] بقرينة تعلق النقص بها، لأن النقص لا يكون في ذات الأرض ولا يرى نقص فيها ولكنه يقع فيمن عليها... فهي للإنذار بأنهم صائرون إلى زوال وأنهم مغلوبون زائلون... وجملة {والله يحكم لا معقب لحكمه} [سورة الرعد: 41] عطف على جملة {أولم يروا أنا} مؤكدة للمقصود منها، وهو الاستدلال على أن تأخير الوعيد لا يدل على بطلانه، فاستدل على ذلك بجملة {وإما نرينك بعض الذي نعدهم} ثم بجملة {أولم يروا أنا نأتي الأرض} ثم بجملة {والله يحكم}، لأن المعنى: أن ما حكم الله به من العقاب لا يبطله أحد وأنه واقع ولو تأخر...
وجملة {وهو سريع الحساب} يجوز أن تكون عطفاً على جملة {والله يحكم} فتكون دليلاً رابعاً على أن وعده واقع وأن تأخره وإن طال فما هو إلا سريع باعتبار تحقق وقوعه؛ ويجوز أن يكون عطفاً على جملة الحال. والمعنى: يحكم غير منقوص حكمه وسريعاً حسابه. ومآل التقديرين واحد...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} الاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع بمعنى النفي، ونفي النفي إثبات، فالاستفهام الإنكاري داخل على "لم "والمعنى التنبيه على ما هو واقع بهم، والواقع أنهم يرون أن الله أتى الأرض ينقصها من أطرافها عليهم، وإسناد الإتيان للأرض إلى الله تعالى للدلالة على أن الله تعالى مع جيش المسلمين الذي يأتي الأرض التي لهم النفوذ، والسلطان فيها، ويتلاقون مع سكانهم في الشرك الذي يجمعهم و {ننقصها} نأخذها جزءا فجزءا من دائرة الكفر، حتى تضيق حوزتهم، وتضيق الدائرة عليهم شيئا فشيئا حتى يحيط بهم، ويصلح الرسل من الأرض، وكذلك كان الأمر... {وهو سريع الحساب}، أي أن الحساب آت لا ريب، وكل آت فهو سريع، لأنه مؤكد الوقوع، وعدد السنين والشهور لا قيمة له ما دام مؤكد الوقوع، وما يكون سريع الحساب يكون شديد؛ لأنه يفاجئ المنكرين من حيث لا يحتسبون؛ ولأن سرعة الحساب يكون لأجل غرض العقاب، ولتحقيق معنى الجزاء، وذلك يكون على قدر ما ارتكب المسيئ، والله عزيز ذو انتقام...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} كناية عما يصيب البلاد العامرة من خراب، وما يصيب الأراضي الخصبة من قحط وجدب، عقابا من الله لأهلها على الظلم والفساد، السائدين في البلاد،... قوله تعالى: {والله يحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب} إشارة إلى يوم القيامة حيث ينفرد الحق سبحانه وتعالى بالملك الحقيقي والحكم النهائي...
و "يروا "هنا بمعنى "يعلموا"، ولم يقل ذلك؛ لأن العلم قد يكون علماً بغيب، ولكن "يروا تعني أنهم قد علموا ما جاء بالآية علم مشهد ورؤية واضحة، وليس مع العين أين...
{أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} وهذا قول للحاضر المعاصر لهم. وتعريف الأرض هنا يجعلها مجهولة، لأننا حين نرغب في أن نعرف الأرض؛ قد يتجه الفكر إلى الأرض التي نقف عليها؛ وبالمعنى الأوسع يتجه الفكر إلى الكرة الأرضية التي يعيش عليها كل البشر. وقد تنسب الأرض إلى بقعة خاصة وقع فيها حدث ما؛ مثل قول الحق سبحانه عن قارون: {فخسفنا به وبداره الأرض} (سورة القصص)...
{من أطرافها} أي: من كل نقطة من دائرة المحيط تعتبر طرفاً. ومعنى ذلك أنه سبحانه قد شاء أن تضيق أرض الكفار، وأن يوسع أرض المؤمنين من كل جهة تحيط بمعسكر الكفر، وهذا القول يدل على أنه عملية محدثة، ولم تكن كذلك من قبل...
ويتابع سبحانه من بعد ذلك: {والله يحكم ولا معقب لحكمه} أي: أن الموضوع قد بت فيه وانتهى أمره...
. {وهو سريع الحساب} فكأن الله ينبهنا بهذا القول إلى أن الحكم بالعدل يحتاج إلى سرعة تنفيذ، ونحن نرى في حياتنا اليومية: كيف يرهق من له حكم بحق عادل؛ ولو أننا نسرع بتنفيذ الأحكام لسادت الطمأنينة قلوب أفراد المجتمع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من الواضح أنّ المقصود من الأرض هنا هم أهل الأرض، يعني أنّ هؤلاء لا ينظرون إلى هذا الواقع من أنّ الأقوام والحضارات والحكومات في حال الزوال والإبادة، الأقوام الذين كانوا أكثر منهم قوّة وآثاراً قد أُلحدوا تحت الثرى حتّى العلماء والعظماء الذين هم قوام الأرض التحقوا بالرفيق الأعلى. فهل أنّ هذا القانون العامّ للحياة الذي يسري على جميع الأفراد وكلّ المجتمع البشري صغيره وكبيره، غير كاف لإيقاظهم وتفهيمهم أنّ هذه الأيّام القلائل للحياة ليست أبدية؟! ثمّ يضيف: (والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب) ولذلك فإنّ قانون الفناء مكتوب على جبين كلّ الأفراد والأمم من جهة، ومن جهة أُخرى لا يستطيع أحد أن يغيّر هذا الحكم ولا الأحكام الأُخرى، ومن جهة ثالثة أنّ حساب العباد سريع جدّاً، وبهذا الترتيب يكون جزاؤه قاطعاً...