إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ يَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (41)

ثم طيَّب نفسَه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشيره فقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } استفهامٌ إنكاري والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي أأنكروا نزولَ ما وعدناهم أو أشكّوا أو ألم ينظرُوا في ذلك ولم يرَوا { أَنَّا نأتي الأرض } أي أرضَ الكفر { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بأن نفتحها على المسلمين شيئاً فشيئاً ونُلحقَها بدار الإسلام ونُذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاءِ ، أليس هذا من ذلك ؟ ومثلُه قوله عز سلطانه : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نأتي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون } [ الأنبياء ، الآية 44 ] وقوله : ننقُصها حالٌ من فاعل نأتي أو من مفعوله ، وقرئ نُنَقصها بالتشديد وفي لفظ الإتيان المؤذِن بالاستواء المحتوم والاستيلاءِ العظيم من الفخامة ما لا يخفى كما في قوله عز وجل : { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء منثُوراً } [ الفرقان ، الآية 23 ] .

{ والله يَحْكُمُ } ما يشاء وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال ، وعلى الكفر بالذلة والإدبار حسبما يشاهَد من المخايل والآثار ، وفي الالتفات من التكلم إلى الغَيبة وبناءِ الحُكم على الاسم الجليل من الدِلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى ، وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها ، وقوله تعالى : { لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } اعتراضٌ في اعتراض لبيان علوّ شأن حكمِه جل جلاله ، وقيل : نصبٌ على الحالية ، كأنه قيل : والله يحكمُ نافذاً حكمُه ، كما تقول : جاء زيد لا عمامةٌ على رأسه أي حاسراً ، والمعقّب من يكُرّ على الشيء فيبطله وحقيقتُه مِن يعقّيه ويقفّيه بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق : معقّب لأنه يقفّي غريمَه بالاقتضاء والطلب { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } فعما قليلٍ يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بأفانينِ العذاب غِبّ ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاءِ حسبما يُرى . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : سريعُ الانتقام .