البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ يَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (41)

الضمير في أو لم يروا عائد على الذين وعدوا ، وفي ذلك اتعاظ لمن اتعظ ، نبهوا على أنْ ينظروا بعض الأرض من أطرافها .

ونأتي يعني بالأمر والقدرة كقوله : { فأتى الله بنيانهم } والأرض أرض الكفار المذكورين ، ويعني بنقصها من أطرافها للمسلمين : من جوانبها .

كان المسلمون يغزون من حوالى أرض الكفار مما يلي المدينة ، ويغلبون على جوانب أرض مكة ، والأطراف : الجوانب .

وقيل : الطرف من كل شيء خياره ، ومنه قول علي بن أبي طالب : العلوم أودية ، في أي واد أخذت منها خسرت ، فخذوا من كل شيء طرفاً يعني : خياراً قاله ابن عطية ، والذي يظهر أن معنى طرفاً جانباً وبعضاً ، كأنه أشار إلى أنّ الإنسان يكون مشاركاً في أطراف من العلوم ، لأنه لا يمكنه استيعاب جميعها ، ولم يشر إلى أنه يستغرق زمانه في علم واحد .

وقال ابن عباس والضحاك : نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك ، فتنقصها بما يدخل في دينك من القبائل والبلاد المجاورة لهم ، فما يؤمنهم أن يمكنه منهم .

وهذا التفسير لا يتأتى إلا أن قدر نزول هذه الآية بالمدينة .

وقيل : الأرض اسم جنس ، والانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة .

وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ، ومجاهد ، وعنهما أيضاً : الانتقاص هو بموت البشر ، وهلاك الثمرات ، ونقص البركة .

وعن ابن عباس أيضاً : موت أشرافها وكبرائها ، وذهاب الصلحاء والأخيار ، فعلى هذا الأطراف هنا الأشراف .

وقال ابن الأعرابي : الطرف والطرف الرجل الكريم .

وعن عطاء بن أبي رباح : ذهاب فقهائها وخيار أهلها .

وعن مجاهد : موت الفقهاء والعلماء .

وقال عكرمة والشعبي : هو نقص الأنفس .

وقيل : هلاك من أهلك من الأمم قبل قريش ، وهلاك أرضهم بعدهم .

والمناسب من هذه الأقوال هو الأول .

ولم يذكر الزمخشري إلا ما هو قريب منه قال : نأتي الأرض أرض الكفر ننقصها من أطرافها بما يفتح على المسلمين من بلادهم ، فينقص دار الحرب ، ويزيد في دار الإسلام ، وذلك من آيات الغلبة والنصرة .

ونحوه : { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون } { سنريهم آياتنا في الآفاق } والمعنى : عليك بالبلاغ الذي حملته ، ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ، ونتم ما وعدناك من الظفر ، ولا يضجرك تأخره ، فإنّ ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ، ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر .

ويتجه قول من قال : النقص بموت الأشراف والعلماء والخيار وتقريره : أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراباً بعد عماره ، وموتاً بعد حياة ، وذلا بعد عز ، ونقصاً بعد كمال ، وهذه تغييرات مدركة بالحس .

فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله الأمر عليهم ويصيرون دليلين بعد أن كانوا قاهرين .

وقرأ الضحاك : ننقصها مثقلاً ، من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم ، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يعقبه أي : بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق : معقب ، لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب .

قال لبيد :

طلب المعقب حقه المظلوم *** والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس .

وقيل : تتعقب أحكامه أي : ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا ، والجملة من قوله : لا معقب لحكمه في موضع الحال أي : نافذ حكمه ، وهو سريع الحساب تقدم الكلام على مثل هذه الجملة .