قوله تعالى : { ما أشهدتهم } ما أحضرتهم ، وقرأ أبو جعفر ما أشهدتهم بالنون والألف على التعظيم ، أي : أحضرناهم يعني : إبليس وذريته . وقيل : الكفار . وقال الكلبي : يعني الملائكة ، { خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم } ، يقول : ما أشهدتهم خلقاً فأستعين بهم على خلقها وأشاورهم فيها ، { وما كنت متخذ المضلين عضداً { ، أي : الشياطين الذين يضلون الناس عضداً ، أي : أنصاراً وأعواناً .
{ 51-52 } { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا }
يقول تعالى : ما أشهدت الشياطين [ وهؤلاء المضلين ] ، خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم أي : ما أحضرتهم ذلك ، ولا شاورتهم عليه ، فكيف يكونون خالقين لشيء من ذلك ؟ ! بل المنفرد بالخلق والتدبير ، والحكمة والتقدير ، هو الله ، خالق الأشياء كلها ، المتصرف فيها بحكمته ، فكيف يجعل له شركاء من الشياطين ، يوالون ويطاعون ، كما يطاع الله ، وهم لم يخلقوا ولم يشهدوا خلقا ، ولم يعاونوا الله تعالى ؟ ! ولهذا قال : { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } أي : معاونين ، مظاهرين لله على شأن من الشئون ، أي : ما ينبغي ولا يليق بالله ، أن يجعل لهم قسطا من التدبير ، لأنهم ساعون في إضلال الخلق والعداوة لربهم ، فاللائق أن يقصيهم ولا يدنيهم .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال علمه وقدرته ، وعلى عجز وجهالة المعبودين من دونه ، فقال - تعالى - : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } .
والضمير فى قوله { ما أشهدتهم } يعود إلى إبليس وذريته ، والإِشهاد : بمعنى الإِحضار والإِعلام .
أى : ما أشهدت إبليس وذريته خلق السموات والأرض ، لأنى خلقتهما دون أن أستعين فى خلقهما بأحد ، أو لأنى خلقتهما قبل خلقهم ، { وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } أى : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، لأنى لا أستعين بأحد حين أخلق ما أشاء ، ولا أستشير أحدا حين أقدر ما أشاء .
وما دام الأمر كذلك فكيف تتخذونهم أولياء وشركاء من دونى وأنا الخالق لكل شئ والقاهر فوق كل شئ ؟ .
فالجملة الكريمة استئناف مسوق لبيان كمال علمه وقدرته - سبحانه - ، ولبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور فى أنفسهم ، بعد بيان المواقع والصوارف التى تمنع وتصرف عن اتخاذهم أولياء ، من خباثة أصلهم ، وفسوقهم عن أمر ربهم .
وهذا المعنى الذى صرحت به الآية الكريمة من تفرد الله - تعالى - بالخلق والقدرة . قد جاء فى آيات أخرى منها قوله - تعالى - { هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقوله - سبحانه - { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } مؤكد لما قبله من تفرده - سبحانه - بالخلق والقدرة والعلم .
والعضد - بفتح العين وضم الضاد - فى الأصل ، يطلق على العضد المعروف ما بين المرفق إلى الكتف ، ويستعار للمعين والناصر فيقال : فلان عضدى ، أى : نصيرى .
ومنه قوله - تعالى - لنبيه موسى - عليه السلام - { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أى : سنقويك ونعينك بأخيك هارون وذلك لأن اليد قوامها العضد ، فإذا فقدته أصابها العجز .
أى : وما كنت متخذ المضلين عن سبيلى أعوانا وأنصاراً فى شأن من شئونى ، وخص - سبحانه - المضلين بالذكر ، زيادة فى ذمهم وتوبيخهم ، وتقريعا لأمثالهم ، لأنه - عز وجل - ليس له أعوان ولا أنصار فيما يفعله لا من المضلين ولا من المهتدين .
ولم يقل - سبحانه - وما كنت متخذهم . . بالإِضمار ، كما قال : { ما أشهدتهم } بل أظهر فى مقام الإِضمار ، لتسجيل الضلال عليهم ، حتى ينصرف عنهم كل عاقل ، وللتنبيه على أن الضالين المضلين لا تصح الاستعانة بهم .
ولقد حكى الله - تعالى - عن نبيه موسى - عليه السلام - براءته من المجرمين فقال : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } والظهير : الناصر والمعين لغيره .
يقول تعالى : هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم ، لا يملكون شيئًا ، ولا أشهدتهم خلقي للسموات{[18270]} والأرض ، ولا كانوا إذ ذاك موجودين ، يقول تعالى : أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ، ومدبرها ومقدرها وَحْدي ، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ، ولا مشير ولا نظير ، كما قال : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } الآية [ سبا : 23 ، 22 ] ؛ ولهذا قال : { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } قال مالك : أعوانًا .
الضمير في { أشهدتهم } عائد علىلكفار ، وعلى الناس بالجملة ، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين ، وأهل الطبائع ، والمتحكمين من الأطباء ، وسواهم من كل من يتخوض في هذه الأشياء .
قال القاضي أبو محمد : وحدثني أبي رضي الله عنه ، قال : سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن معاد المهدوي بالمهدية ، يقول سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول ويتأول هذا التأويل في هذه الآية ، وأنها رادة على هذه الطوائف ، وذكر هذا بعض الأصوليين ، وقيل الضمير في { أشهدتهم } عائد على ذرية إبليس ، فهذه الآية ، على هذا تتضمن تحقيرهم ، والقول الأول أعظم فائدة ، وأقول : إن الغرض المقصود أولاً بالآية ، هم إبليس وذريته ، وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة وعلى الكهان والعرب المصدقين لهم والمعظمين للجن حين يقولون أعوذ بعزيز هذا الوادي ، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته ، وهم أضلوا الجميع ، فهم المراد الأول ب { المضلين } ، وتندرج هذه الطوائف في معناهم ، وقرأ الجمهور ، «وما كنتُ » وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف «وما كنتَ »{[7831]} ، والصفة ب { المضلين } ، تترتب في الطوائف المذكورة ، وفي ذرية إبليس لعنه الله ، و «العضد » استعارة للمعين المؤازر ، وهو تشبيه بالعضد للإنسان الذي يستعين به ، وقرأ الجمهور «عَضُداً » بفتح العين وضم الضاد ، وقرأ أبو عمرو والحسن بضمهما ، وقرأ الضحاك بكسر العين وفتح الضاد ، وقرأ عكرمة «عُضْداً » بضم العين وسكون الضاد ، وقرأ عيسى بن عمر «عَضَداً » بفتح العين والضاد ، وفيه لغات غير هذا لم يقرأ بها .