المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (165)

165- بعثنا هؤلاء الرسل جميعاً ، مبشرين من آمن بالثواب ، ومنذرين من كفر بالعقاب ، حتى لا يكون للناس على الله حُجة يتعللون بها بعد إرسال الرسل ، والله قادر على كل شيء ، غالب لا سلطان لأحد معه ، حكيم في أفعاله .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (165)

قوله تعالى : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ، فيقولوا : ما أرسلت إلينا رسولاً ، وما أنزلت إلينا كتابا .

وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسول ، قال الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } [ الإسراء :15 ] ،

قوله تعالى : { وكان الله عزيزاً حكيماً } .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، ثنا موسى بن إسماعيل ، أنا أبو عوانة ، أنا عبد الملك ، عن وراد كاتب المغيرة قال : قال سعد بن عبادة رضي الله عنه : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أتعجبون من غيرة سعد ؟ والله لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (165)

وذكر أن الرسل منهم من قصه الله على رسوله ، ومنهم من لم يقصصه عليه ، وهذا يدل على كثرتهم وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم ، بالسعادة الدنيوية والأخروية ، ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا : { مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ }

فلم يبق للخَلْق على الله حجة لإرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم ، ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار ، فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه .

وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب ، وذلك أيضا من فضله وإحسانه ، حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا الاضطرار ، فله الحمد وله الشكر . ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم ، أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم ، إنه جواد كريم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (165)

وقوله : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } .

بيان لوظيفة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وللحكمة من إرسالهم . وقوله : { رُّسُلاً } منصوب على المدح ، أو بفعل مقدر قبله ، أى : وأرسلنا رسلا . والمراد بالحجة هنا : المعذرة التى يعتذر بها الكافرون والعصاة .

أى : وكما أوحينا إليك يا محمد بما أوحينا من قرآن وهدايات . وأرسلناك للناس رسولا ، فقد أرسلنا من قبلك رسلا كثيرين مبشرين من آمن وعمل صالحا يرضاه الله عنه فى الدنيا والآخرة ، ومنذرين من كفر وعصى بسوء العقبى ، وقد أرسل - سبحانه - الرسل مبشرين ومنذرين لكى { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ } يوم القيامة ، أى لكى لا تكون لهم معذرة يعتذرون بها كأن يقولوا . يا ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا فيبين لنا شرائعك ، ويعلمنا أحكامك وأوامرك ونواهيك ، فقد أرسلنا إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لكى لا تكون لهم حجة يحتجون بها ، كما قال - تعالى - { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } قال الآلوسى : فالآية ظاهرة فى أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل . وأن العقل لا يغنى عن ذلك . وزعم المعتزلة أن العقل كان وأن مسألة الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التى تعترى الإِنسان من دون اختيار . فمعنى الآية عندهم : لئلا يبقى للناس على الله حجة .

وتسمية ما يقال عند ترك الإِرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه - سبحانه - حجة مجاز . بتنزيل المعذرة فى القبول عنده - تعالى - بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التى لا مرد لها .

وقوله : { حُجَّةٌ } اسم يكون . وخبره قوله " للناس " وقوله : على الله حال من حجة .

وقوله : { بَعْدَ الرسل } أى : بعد إرسال الرسل وتبليغ الشريعة على ألسنتهم وهو متعلق بالفنى أى : لتنفى حجتهم واعتذارهم بعد إرسال الرسل .

قال ابن كثير : وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أحد أغير من الله ، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولا أحد أحب إليه المدح من الله ، ومن أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحبن إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين " وفى لفظ آخر : " ومن أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه " .

وقوله : { وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } تذييل قصد به بيان قدرته التى لا تغالب وحكمته التى لا تحيط أحد بكنهها . أى : وكان الله - تعالى - وما زال هو القادر الغالب على كل شئ ، الحكيم فى جميع أفعاله وتصرفاته ، وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى .

هذا وللمرحوم الأستاذ الإِمام محمد عبده كلام نفس فى كتابه ( رسالة التوحيد ) عن : حاجة البشر إلى إرسال الرسل ، وعن وظيفتهم - عليهم الصلاة والسلام - وما قاله فى ذلك : الرسل يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته . ويبينون الحد الذى يجب أن ييقف عنده فى طلب ذلك العرفان . على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه ، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة .

الرسل يبينون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم . وتنازعته مصالحهم ولذاتهم . فيفصلون فى تلك المخاصمات بأمر الله الصادع . ويؤيدون بما يبلغون عنه ما تقوم به المصالح الخاصة .

الرسل يضعون لهم بأمر الله حدودا عامة . يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم . كاحترام الدماء البشرية إلا بحق . مع بيان الحق الذى تهدر له ، وحظر تناول شئ ما كسبه الغير إلا بحق . مع بيان الحق الذى يبيح تناوله . واحترام الأعراض . مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع .

يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية إلى طلب الرغائب السامية آخذين فى ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب والإِنذار والتبشير حسبما أمرهم الله - جل شأنه - .

يفصلون فى جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله عنهم وما يعرضهم لسخطه عليهم . ثم يحيطون بيانهم بنبأ الدار الآخرة ، وما أعد الله فيها من الثواب وحسن العقبى ، لمن وقف عند حدوده . وأخذ بأوامره .

وبهذا تطمئن النفوس ، وتثلج الصدور ، ويعتصم المرزوء بالصبر ، انتظارا لجزيل الأجر . أو إرضاء لمن بيده الأمر . وبهذا ينحل أعظم مشكل فى الاجتماع اللإِنسانى ، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم فى حلة إلى اليوم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (165)

وقوله : { رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } أي : يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات ، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب .

وقوله : { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } أي : أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة ، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه ؛ لئلا يبقى لمعتذر عذر ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } [ طه : 134 ] ، وكذا قوله تعالى : { وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ]{[8752]} } [ القصص : 47 ] .

وقد ثبت في الصحيحين{[8753]} عن ابن مسعود ، [ رضي الله عنه ]{[8754]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أحَدَ أغَيْرَ من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظَهَر منها وما بطن ، ولا أحدَ أحبَّ إليه المدحُ من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحدَ أحَبَّ إليه العُذر من الله ، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين " وفي لفظ : " من أجل ذلك أرسل رسله ، وأنزل كتبه " .


[8752]:زيادة من د، أ، وفي هـ: "الآية".
[8753]:صحيح البخاري برقم (4634) وصحيح مسلم برقم (2760).
[8754]:زيادة من أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (165)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ رّسُلاً مّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } . .

يعني جلّ ثناؤه بذلك : إنّا أوْحَيْنا إلَيْكَ كمَا أوْحَيْنا إلى نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِنْ بَعْدِه ومن ذكر من الرسل رُسُلاً فنصب به الرسل على القطع من أسماء الأنبياء الذين ذكر أسماءهم . مُبَشّرِينَ يقول : أرسلتهم رسلاً إلى خلقي وعبادي مبشرين بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدّق رسلي ، وَمُنْذِرِينَ عقابي من عصاني وخالف أمري وكذّب رسلي . لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ على اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ يقول : أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين ، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني ، أو ضلّ عن سبيلي بأن يقول إن أردت عقابه : لَوْلاَ أرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنتَبّعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أنْ نَذِلّ وَنَخْزَى ، فقطع حجة كل مبطل ألحد في توحيده وخالف أمره بجميع معاني الحجج القاطعة عذره ، إعذارا منه بذلك إليهم ، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ على اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ فيقولوا : ما أرسلت إلينا رسلاً .

وكانَ اللّهُ عَزِيرا حَكِيما يقول : ولم يزل الله ذا عزّة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على كفره به ومعصيته إياه بعد تثبيته حجته عليه برسله وأدلته ، حكيما في تدبيره فيهم ما دبره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (165)

{ رسلاً } بدل من الأول قبل . و { مبشرين ومنذرين } حالان أي يبشرون بالجنة من آمن وأطاع ، وينذرون بالنار من كفر وعصى ، وأراد الله تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول : لو بعث إليَّ الرسول لآمنت ، والله تعالى عزيز لا يغالبه شيء ولا حجة لأحد عليه ، وهو مع ذلك حكيم تصدر أفعاله عن حكمة ، فكذلك قطع الحجة بالرسل حكمة منه تعالى{[4384]} .


[4384]:- يؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك}
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (165)

قوله : { رُسُلاً } حال من المذكورين ، وقد سمّاهم رسلاً لما قدّمناه ، وهي حال موطّئة لصفتها ، أعني مبشّرين ؛ لأنَّه المقصود من الحال .

وقوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } تعليل لقوله : { مبشرين ومنذرين } ولا يصحّ جعله تعليلاً لقوله : { إنا أوحينا إليك } لأنّ ذلك مسوق لبيان صحّة الرسالة مع الخُلُوّ عن هبوط كتاب من السماء ردّاً على قولهم : { حتّى تُنزّل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] . فموقع قوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } موقع الإدماج تعليماً للأمّة بحكمة من الحكم في بعثته الرسل .

والحجّة ما يدُلّ على صدق المدّعي وحقّيّة المعتذر ، فهي تقتضي عدم المؤاخذة بالذنب أو التقصير . والمراد هنا العذر البيّن الذي يوجب التنصّل من الغضب والعقاب . فإرسال الرسل لقطع عذر البشر إذا سئلوا عن جرائم أعمالهم ، واستحقّوا غضب الله وعقابه . فعلم من هذا أنّ للنّاس قبل إرسال الرسل حجّة إلى الله أن يقولوا : { لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك ونكون من المؤمنين } [ القصص : 47 ] .

وأشعرت الآية أنّ من أعمال النّاس ما هو بحيث يُغضب الله ويعاقب عليه ، وهي الأفعال التي تدلّ العقول السليمة على قبْحها لإفضائها إلى الفساد والأضرار البيّنة . ووجه الإشعار أنّ الحجّة إنَّما تُقابِل محاولةَ عمل مّا ، فلمّا بعث الله الرسل لقطع الحجّة علمنا أنّ الله حين بعث الرسل كان بصدد أنْ يؤاخذ المبعوث إليهم ، فاقتضت رحمته أن يقطع حجّتهم ببعثة الرسل وإرشادهم وإنذارهم ، ولذلك جعل قطع الحجّة علّة غائيّة للتبشير والإنذار : إذ التبشير والإنذار إنَّما يبيّنان عواقب الأعمال ، ولذلك لم يعلّل بعثه الرسل بالتنبيه إلى ما يرضي الله وما يسخطه .

فهذه الآية ملجئة جميعَ الفرق إلى القول بأنّ بعثة الرسل تتوقّف عليها المؤاخذة بالذنوب ، وظاهرها أنّ سائر أنواع المؤاخذة تتوقّف عليها ، سواء في ذلك الذنوب الراجعة إلى الاعتقاد ، والراجعة إلى العمل ، وفي وجوب معرفة الله . فإرسال الرسل عندنا من تَمَام العدل من الله لأنّه لو لم يرسلهم لكانت المؤاخذة بالعذاب مجرّد الإطلاق الذي تقتضيه الخالقية إذْ لا يسأل عمّا يفعل ، وكانت عدلاً بالمعنى الأعمّ .

فأمّا جمهورُ أهل السنّة ، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري ، فعمّموا وقالوا : لا يثبت شيء من الواجبات ، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلاّ ببعثة الرسل حتّى معرفة الله تعالى ، واستدلّوا بهذه الآية وغيرها : مثل { وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] وبالإجماع . وفي دعوى الإجماع نظر ، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر ، وفي الاستدلال بالآيات ، وهي ظواهر ، على أصل من أصول الدين نظر ثالث ، إلاّ أن يقال : إنَّها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع ، وهذا أيضاً مجال للنظر ، وهم ملجَئُون إلى تأويل هذه الآية ، لأنّهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله . والجواب أن يقال : إنّ الرسل في الآية كلٌّ إفْرادِي ، صادق بالرسول الواحد ، وهو يختلف باختلاف الدعوة . فأمّا الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فَقد تقرّرت بالرسل الأوّلين ، الّذين تقرّر من دعواتهم عند البشر وجوبُ الإيمان والتوحيد ، وأمّا الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع ، فهي تتقرّر بمجيء الرسل الذين يختصّون بأمم معروفة .

وأمّا المعتزلة فقد أثبتوا الحسن والقبح الذاتيين في حالة عدم إرسال رسول ؛ فقالوا : إنّ العقل يثبت به وجوب كثير من الأحكام ، وحرمة كثير ، لا سيما معرفة الله تعالى ، لأنّ المعرفة دافعة للضرّ المظنون ، وهو الضرّ الأخروي ، من لحاق العذاب في الآخرة ، حيث أخبر عنه جمع كثير ، وخوف ما يترتَّب على اختلاف الفِرق في معرفة الصانع قبل المعرفة الصحيحة من المحاربات ، وهو ضرّ دنيويّ ، وكلّ ما يدفع الضرّ المظنونَ أو المشكوك واجب عقلاً ، كمن أراد سلوك طريق فأخبر بأنّ فيه سَبُعاً ، فإنّ العقل يقتضي أن يتوقّف ويبحث حتّى يعلم أيسلك ذلك الطريق أم لا ، وكذلك وجوب النظر في معجزة الرسل وسائر ما يؤدّي إلى ثبوت الشرائع .

فلذلك تأوّلوا هذه الآية بما ذكره في « الكشاف » إذ قال : « فإن قلت : كيف يكون للنّاس على الله حجّة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلّة التي النظر فيها موصّل إلى المعرفة ، والرسلُ في أنفسهم لم يتوصّلوا إلى المعرفة بالنظر في تلك الأدلّة ، أي قبل الرسالة . قلت : الرسل منبِّهون عن الغفلة وباعثون على النظر مع تبليغ ما حمّلوه من أمور الدّين وتعليم الشرائع ؛ فكان إرسالهم إزاحة للعلّة وتتميماً لإلزام الحجّة » . يعني أنّ بعثة الرسل رحمة من الله لا عدل ، ولو لم يبعثهم لكانت المؤاخذة على القبائح عدلاً ، فبعثة الرسل إتمام للحجّة في أصل المؤاخذة ، وإتمام للحجّة في زيادة التزكية أن يقول النّاس : ربّنا لِمَ لَمْ ترشدنا إلى ما يرفع درجاتنا في مراتب الصدّيقين وقصرتنا على مجرّد النجاة من العذاب ، حين اهتدينا لأصل التّوحيد بعقولنا .

وقال الماتريدي بموافقة الجمهور فيما عدا المعرفة بالله تعالى عند إرادة إفحام الرسل خاصّة لأنّه رآه مبنَى أصول الدّين ، كما يشير إليه قول صدر الشريعة في « التوضيح » « أي يكون الفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذمّ ويعاقب لأجلها ؛ لأنّ وجوب تصديق النبي إنْ توقّف على الشرع يلزم الدور » وصرّح أيضاً بأنَّها تعرف بالشرع أيضاً .

وقد ضايق المعتزلةُ الأشاعرة في هذه المسألة بخصوص وجوب المعرفة فقالوا : لو لم تجب المعرفة إلاّ بالشرع للزم إفحامُ الرسل ، فلم تكن للبعثة فائدة . ووجه اللزوم أنّ الرسول إذا قال لأحد : انظرْ في معجزتي حتّى يظهر صدقي لديك ، فله أن يقول : لا أنظر ما لم يجب عليّ ، لأنّ ترك غير الواجب جائز ، ولا يجب عليّ حتّى يثبتَ عندي الوجوب بالشرع ، ولا يثبت الشرع ما دمتُ لم أنظر ، لأنّ ثبوت الشرع نَظَريّ لا ضروري . وظَاهَرَهم الماتريديّةُ وبعضُ الشافعيّة على هذا الاستدلال .

ولم أر للأشاعرة جواباً مقنعاً ، سوى أنّ إمام الحرمين في « الإرشاد » أجاب : بأنّ هذا مشترك الإلزام لأنّ وجوب التأمّل في المعجزة نظري لا ضروريّ لا محالة ، فلمن دعاه الرسول أن يقول : لا أتأمل في المعجزة ما لم يجب ذلك عليّ عقلاً ، ولا يجب عليّ عقلاً ما لم أنظر ، لأنّه وجوب نظري ، والنّظري يحتاج إلى ترتيب مقدّمات ، فأنا لا أرتّبها .

وتبعه على هذا الجواب جميع المتكلّمين بعده من الأشاعرة مثل البيضاوي والعضد والتفتزاني . وقال ابن عرفة في « الشامل » : إنّه اعتراف بلزوم الإفحام فلا يزيل الشبهة بل يعمّمها بيننا وبينهم ، فلم يحصل دفع الإشكال وكلام ابن عرفة ردٌّ متمكّن . والظاهر أنّ مراد إمام الحرمين أن يُسقط استدلال المعتزلة لأنفسهم على الوجوب العقلي بتمحّض الاستدلال بالأدلة الشرعيّة وهو مطلوبنا .

وأنَا أرى أن يكون الجواب بأحد طريقين :

أولهما : بالمنع ، وهو أن نمنع أن يكون وجوب سماع دعوة الرسول متوقّفاً على الإصغاء إليه ، والنظر في معجزته ، وأنّه لو لم يثبت وجوب ذلك بالعقل يلزم إفحام الرسول ، بل ندّعي أنّ ذلك أمر ثبت بالشرائع الّتي تعاقب ورودها بين البشر ، بحيث قد علم كلّ مَن له علاقة بالمدنيَّة البشرية بأنّ دُعاة أتَوا إلى النّاس في عصور مختلفة ، ودعوتهم واحدة : كلّ يقول إنّه مبعوث من عند الله ليدعو النّاس إلى ما يريده الله منهم ، فاستقرّ في نفوس البشر كلّهم أنّ هنالك إيماناً وكفراً ، ونجاة وارتباقاً ، استقراراً لا يجدون في نفوسهم سبيلاً إلى دفعه ، فإذا دعا الرسول النّاس إلى الإيمان حضرت في نفس المدعوّ السامعِ تلك الأخبار الماضية والمحاورات ، فوجب عليه وجوباً اضطرارياً استماعُه والنظرُ في الأمر المقرّر في نفوس البشر ، ولذلك آخذَ الله أهل الفترة بالإشراك كما دلّت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة . ولذلك فلو قَدّرْنا أحداً لم يخالط جماعات البشر ، ولم يسبق له شعور بأنّ النّاس آمنوا وكفروا وأثبتوا وعطّلوا ، لَما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأنّ ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده . وعلى هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي ، ولا عقلي نظري ، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمّد مخالفتها .

وثاني الجوابين : بالتسليم ، غير أنّ ما وقِر في جبلّة البشر من استطلاع الحوادث والأخبار الجديدة ، والإصغاء لكلّ صاحب دعوة ، أمر يحمل كلّ من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه ، ويتلقّى دعوته وتحدّيهُ ومعجزته ، فلا يشعر إلاّ وقد سلكت دعوته إلى نفس المدعوِّ ، فحرّكت فيه داعية النظر ، فهو ينجَذب إلى تلقّي الدعوة ، رويداً رويداً ، حتّى يجد نفسه قد وعاها وَعَلِمها علماً لا يستطيع بعدَه أن يقول : إنّي لا أنظر المعجزة ، أو لا أصغي إلى الدعوة . فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى ، فكان مؤاخذاً ، فلو قدّرنا أحداً مَرّ برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرّف أمره والإصغاء لكلامه والنظر في أعماله ، لسلّمنا أنّه لا يكون مخاطباً ، وأنّ هذا الواحد وأمثاله إذا أفحَم الرسولَ لا تتعطّل الرسالة ، ولكنّه خسر هديه ، وسَفِه نفسه .

ولا يَرِد علينا أنّ من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه وأعرض هارباً حينئذٍ ، لا يتوجّه إليه وجوبُ المعرفة ، لأنّ هذا ما صنع صنعه إلاّ بعد أن علم أنّه قد تهيَّأ لتوجّه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى ، وكفى بهذا شعوراً منه بتوجّه التكليف إليه فيكون مؤاخذاً على استحبابِه العمى على الهدى ، كما قال تعالى في قوم نوح : { وإنّي كلَّما دعوتُهم- أي إلى الإيمان- لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشَوْا ثيابهم } [ نوح : 7 ] .

والإظهار في مقام الإضمار في قوله : { بعدَ الرسل } دون أن يقال : بعدَهم ، للاهتمام بهذه القضيّة واستقلالها في الدلالة على معناها حتّى تسير مسرى الأمثال .

ومناسبة التذييل بالوصفين في قوله : { عزيزاً حكيماً } : أمّا بوصف الحكيم فظاهرة ، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليلُ حكمته تعالى ، وأمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّتَه أن يكون غالباً من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة ، لا يُسأل عما يفعل ، وغالب من طريق المعقولِيّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلاّ بعد الأدلّة والبراهين والآيات . وتأخيرُ وصف الحكيم لأنّ إجراء عزّته على هذا التمام هو أيضاً من ضروب الحكمة الباهرة .