45- وفرضنا على اليهود في التوراة شرعة القصاص ، لنحفظ بها حياة الناس فحكمنا بأن تؤخذ النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح يقتص فيها إذا أمكن . فمن عفا وتصدق بحقه في القصاص على الجاني ، كان هذا التصدق كفارة له ، يمحو الله بها قدراً من ذنوبه . ومن لم يحكم بما أنزل الله من القصاص وغيره ، فأولئك هم الظالمون .
قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها } ، أي : أوجبنا على بني إسرائيل في التوراة .
قوله تعالى : { أن النفس بالنفس } ، يعني : من نفس القاتل بنفس المقتول وفاءً يقتل به . قوله تعالى : { والعين بالعين } ، تفقأ بها .
قوله تعالى : { والأنف بالأنف } ، يجدع به .
قوله تعالى : { والأذن بالأذن } ، تقطع بها ، قال ابن عباس : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة وهو : أن النفس بالنفس ، واحدة بواحدة إلى آخرها ، فما بالهم يخافون فيقتلون بالنفس النفسين ، ويفقؤون بالعين العينين ، وخفف نافع الأذن في جميع القرآن ، ونقلها الآخرون .
قوله تعالى : { والسن بالسن } ، تقلع بها ، وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص . قوله تعالى : { والجروح قصاص } ، فهذا تعميم بعد تخصيص ، لأنه ذكر العين ، والأنف ، والأذن ، والسن ثم قال : { والجروح قصاص } ، أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد ، والرجل ، واللسان ، ونحوها . وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم ، أو جرح لحم ، كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه ، لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته ، وقرأ الكسائي : { والعين } وما بعدها بالرفع ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو : { والجروح } بالرفع فقط ، وقرأ الآخرون كلها بالنصب كالنفس .
قوله تعالى : { فمن تصدق به } ، أي بالقصاص .
قوله تعالى : { فهو كفارة له } ، قيل : الهاء في { له } كناية عن المجروح ، وولي القتيل ، أي : كفارة للمتصدق ، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري ، أنا عمر ابن الخطاب ، أنا عبد الله بن الفضل ، أخبرنا أبو خيثمة ، أنا جرير عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه ) .
وقال جماعة : هي كناية عن الجارح والقاتل ، يعني : إذا عفا المجني عليه عن الجاني فعفوه كفارة لذنب الجاني ، لا يؤاخذ به في الآخرة ، كما أن القصاص كفارة له ، فأما أجر العافي فعلى الله عز وجل ، قال الله تعالى : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } [ الشورى : 40 ] ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو قول إبراهيم ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم .
قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } .
{ 45 } { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
هذه الأحكام من جملة الأحكام التي في التوراة ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار . إن الله أوجب عليهم فيها أن النفس -إذا قتلت- تقتل بالنفس بشرط العمد والمكافأة ، والعين تقلع بالعين ، والأذن تؤخذ بالأذن ، والسن ينزع بالسن .
ومثل هذه ما أشبهها من الأطراف التي يمكن الاقتصاص منها بدون حيف . { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } والاقتصاص : أن يفعل به كما فعل . فمن جرح غيره عمدا اقتص من الجارح جرحا مثل جرحه للمجروح ، حدا ، وموضعا ، وطولا ، وعرضا وعمقا ، وليعلم أن شرع من قبلنا شرع لنا ، ما لم يرد شرعنا بخلافه .
{ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ } أي : بالقصاص في النفس ، وما دونها من الأطراف والجروح ، بأن عفا عمن جنى ، وثبت له الحق قبله .
{ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } أي : كفارة للجاني ، لأن الآدمي عفا عن حقه . والله تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه ، وكفارة أيضا عن العافي ، فإنه كما عفا عمن جنى عليه ، أو على من يتعلق به ، فإن الله يعفو عن زلاته وجناياته .
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قال ابن عباس : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، فهو ظلم أكبر ، عند استحلاله ، وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له .
ثم بين - سبحانه - بعض ما اشتملت عليه التوراة من أحكام فقال { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .
فالآية الكريمة معطوفة على ما سبقها وهو قوله - تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة } .
وقوله : ( كتبنا ) بمعنى فرضنا وقررنا . والمراد بالنفس : الذات .
أي : أنزلنا التوراة على موسى لتكون هداية ونوراً لبني إسرائيل ، وفرضنا عليهم ( أن النفس بالنفس ) أي : مقتولة أو مأخوذة بها إذا قتلتها بغير حق . وأن { والعين } مفقوءة { العين } وأن { والأنف } مجدوع { بالأنف } وأن { والأذن } مقطوعة { بالأذن } وأن { والسن } مقلوعة { بالسن } وأن { والجروح قِصَاصٌ } أي : ذات قصاص ، بأن يقتص فيها إذا أمكن ذلك ، وإلا فما لا يمكن القصاص فيه - ككسر عظم وجرح لحم لا يمكن الوقوف على نهايته - ففهي حكومة عدل .
وعبر - سبحانه - عما فرض عليهم من عقوبات في التوراة بقوله : ( كتبنا ) للإشارة إلى أن هذه العقوبات وتلك الأحكام لا يمكن جحدها أو محوها ، لأنها مكتوبة والكتابة تزيد الكلام توثيقاً وقوة .
قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - { والعين بالعين والأنف بالأنف } إلخ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف .
وقرأ ابن كثير وانب عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح ؛ فإنه بالرفع على القطع عما قبله والاستئناف به - أي أن الجروح مبتدأ وقصاص خبره .
وقرأ الكسائي وأبو عبيد : { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح } بالرفع فيها كلها .
قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير ، عن عقيل عن الزهري ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .
والرفع من ثلاث جهات ، بالابتداء والخبر . والوجه الثاني : بالعطف على المعنى على موضع ( أن النفس ) لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس والوجه الثالث - قاله الزجاج - يكون عطفا على المضمر في النفس . لأن الضمير في النفس في موضع رفع ، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي .
وقوله : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } ترغيب في العفو والصفح .
والضمير في ( به ) يعود إلى القصاص . والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الحث عليه فإنه أدعى إلى صفاء النفوس ، وإلى فتح باب التسامح بين الناس .
وقوله : ( فهو ) يعود إلى التصدق المدلول عليه بالفعل ( تصدق ) والضمير في قوله ( له ) يعود إلى العافي المتصدق وهو المجني عليه أو من يقوم مقامه .
والمعنى : { فَمَن تَصَدَّقَ } بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني فإن هذا التصدق يكون كفارة لذنوب هذا المتصدق ، حيث قدم العفو مع تمكنه من القصاص .
وقيل إن الضمير في ( له ) يعود على الجاني فيكون المعنى : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني ، فإن هذا التصدق يكون كفارة له . أي لذنوب الجاني ، بأن لا يؤاخذه الله بعد ذلك العفو . وأما المتصدق فأجره على الله .
وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى العافي المتصدق وهو المجني عليه أو ولى دمه فقال : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب : قول من قال : عني به : فمن تصدق به فهو كفارة له أي المجروح ، ولأنهلأن تكون الهاء في قوله ( له ) عائدة على ( من ) أولى من أن تكون عائدة على ما لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات .
وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } تذييل قصد به التحذير من مخالفة حكم الله . أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ، حيث تركوا الحكم العدل واتجهوا إلى الحكم الجائر الظالم .
قال الرازي : وفيه سؤال وهو أنه - تعالى - . قال : أولا : { فأولئك هُمُ الكافرون } وثانياً { هُمُ الظالمون } والكفر أعظم من الظلم ، فلماذا ذكر أعظم التهديدات أولا وأي فائدة في ذكر الأخف بعده ؟
وجوابه : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس . ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق - سبحانه - وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه .
هذا ، ومما أخذه العلماء من هذه الآية ما يأتي :
1 - أن الآية الكريمة - ككثيرة غيرها - تنعى على بني إسرائيل إهمالهم لأحكام الله - تعالى - وتهافتهم على ما يتفق مع أهوائهم .
قال ابن كثير : هذه الآية وبخت به اليهود أيضاً وقرعت عليه ، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس . وقد خالفوا حكم ذلك عمداً وعناداً فأقادوا النضرى من القرظى ، ولم يقيدوا القرظي من النضرى وعدولا إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن ، وعدولا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإِشهار . ولهذا قال هناك { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعناداً وعمداً . وقال هنا في تتمة الآية { فأولئك هُمُ الظالمون } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخانوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض .
ثم قال : واستدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا بهذه الآية . وذلك إذا حكى مقررا ولم ينسخ . والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة . وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة .
2 - استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة . ويؤيد ذلك ما رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : أن الرجل يقتل بالمرأة . . وفي رواية للإِمام أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل تجب ديتها .
قال الآلوسي : واستدل بعموم { أَنَّ النفس بالنفس } من قال : يقتل المسلم بالكافر ، والحر بالعبد ، والرجل بالمرأة ومن خالف استدل بقوله - تعالى :
{ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وبقوله صلى الله عليه وسلم " لا يقتل مؤمن بكافر " .
وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه . والمراد بما روى في الحديث الكافر الحربي وق دروى أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمى .
3 - استدل العلماء بجريان القصاص في الأطراف لقوله - تعالى - { والعين بالعين } { والأنف بالأنف } إلخ . إلا أنهم قالوا بوجوب استيفاء ما يماثل فعل الجاني بدون تعد أو ظلم فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها ، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى .
وقالوا : إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمداً . فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية : إن أصاب العينين معاً خطأ ففيهما الدية الكاملة .
ويرى بعضهم أن في عين الدية كاملة لأن منفعته بها كمنفعة ذي عينين أو قريبة منها .
وقد توسع الإِمام القرطبي في بسط هذه المسائل فارجع إليه إن شئت .
4 - أخذ العلماء من هذه الآية أن الله - تعالى - رغب في العفو ، وحض عليه ، وأجزل المثوبة لمن يقوم به فقد قال - تعالى - { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } .
أي : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص فتصدقه كفارة لذنوبه .
وقد وردت في الحض على العفو نصوص كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } وقوله - تعالى - { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } وروى الإِمام أحمد عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به " .
وروى ابن جرير عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته . فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألح عليه الرجل قال معاوية : شأنك وصاحبك قال : وأبوالدرداء عند معاوية . فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة " فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي - فخلى سبيل القرشي . فقال معاوية : " مروا له بمال " .
ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإِسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة فقد شرع القصاص زجراً للمعتدى . وإشعاراً له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده ، جبرا لخاطر المعتدى عليه ، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه .
ومع هذا التمكين التام للمجني عليه من الجاني فقد رغب الإِسلام المجني عليه في العفو عن الجاني حتى تشيع المحبة والمودة بين أفراد الأمة ، ووعده على ذلك بتكفير خطاياه ، وارتفاع درجاته عند الله - تعالى - .
وهذا أيضًا مما وُبّخَتْ به اليهود وقرعوا عليه ، فإن عندهم في نص التوراة : أن النفس بالنفس . وهم يخالفون ذلك عمدًا وعنادًا ، ويُقيدون النضري من القرظي ، ولا يُقيدون القرظي من النضري ، بل يعدلون إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن ، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ؛ ولهذا قال هناك : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } لأنهم جحدوا حكم الله قصدًا منهم وعنادًا وعمدًا ، وقال هاهنا : { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخالفوا وظلموا ، وتعدى بعضهم على بعض . {[9873]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن يونس بن يزيد ، عن أبي علي بن يزيد - أخي يونس بن يزيد - عن الزهري ، عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } نصب النفس ورفع العين .
وكذا رواه أبو داود ، والترمذي والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الله بن المبارك{[9874]} وقال الترمذي : حسن غريب .
وقال البخاري : تفرد ابن المبارك بهذا الحديث . {[9875]}
وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إذا حكي مقررًا ولم ينسخ ، كما هو المشهور عن الجمهور ، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية ، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة .
وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة . رواه ابن أبي حاتم .
وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها : أن شرع إبراهيم حجة دون غيره ، وصحح منها عدم الحجية ، ونقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالا عن الشافعي ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا ، فالله أعلم .
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ ، رحمه الله ، في كتابه " الشامل " إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه ، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة ، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : " أن الرجل يقتل بالمرأة " وفي الحديث الآخر : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " {[9876]} وهذا قول جمهور العلماء .
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية ؛ لأن ديتها على النصف من دية الرجل ، وإليه ذهب أحمد في روايته [ عنه ]{[9877]} وحكي{[9878]} [ هذا ]{[9879]} عن الحسن [ البصري ]{[9880]} وعطاء ، وعثمان البتي ، ورواية عن أحمد{[9881]} [ به ]{[9882]} أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل تجب{[9883]} ديتها .
وهكذا احتج أبو حنيفة ، رحمه الله تعالى ، بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي ، وعلى قتل الحر بالعبد ، وقد خالفه الجمهور فيهما ، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقتل مسلم بكافر " {[9884]} وأما العبد فعن السلف في{[9885]} آثار متعددة : أنهم لم يكونوا يُقيدون العبد من الحر ، ولا يقتلون حرًا بعبد ، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح ، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك ، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة .
ويؤيد ما قاله{[9886]} ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، حدثنا حُمَيْد ، عن أنس بن مالك : أن الرُّبَيع عَمّة أنس كسرت ثَنيَّة جارية ، فطلبوا إلى القوم العفو ، فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " القصاص " . فقال أخوها أنس بن النضر : يا رسول الله تكسر ثنية فلانة ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أنس ، كتاب الله القصاص " . قال : فقال : لا والذي بعثك بالحق ، لا تكسر ثنية فلانة . قال : فرضي القوم ، فعفوا وتركوا القصاص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَّره " .
أخرجاه في الصحيحين{[9887]} وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري ، في الجزء المشهور من حديثه ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ؛ أن الرُّبَيع بنت النضر عَمَّته لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرضوا عليهم الأرش ، فأبوا فطلبوا الأرش والعفو فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بالقصاص ، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أنس كتاب الله القصاص " . فعفا القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " . رواه البخاري عن الأنصاري . فأما الحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن أبي نَضرة ، عن عمران بن حصين ، أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء ، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا أناس فقراء ، فلم يجعل عليه شيئًا . وكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه ، عن معاذ بن هشام الدستوائي ، عن أبيه عن قتادة ، به{[9888]} وهذا إسناد قوي رجاله كلهم ثقات فإنه حديث مشكل ، اللهم إلا أن يقال : إن الجاني كان قبل البلوغ ، فلا قصاص عليه ، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء ، أو استعفاهم عنه .
وقوله تعالى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : تقتل النفس بالنفس ، وتفقأ العين بالعين ، ويقطع الأنف بالأنف ، وتنزع السن بالسن ، وتقتص الجراح بالجراح .
فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين [ به ]{[9889]} فيما بينهم ، رجالهم ونساؤهم ، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس ، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدًا ، في النفس وما دون النفس ، رواه ابن جرير{[9890]} وابن أبي حاتم .
الجراح تارة تكون في مَفْصِل ، فيجب فيه القصاص بالإجماع ، كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك . وأما إذا لم تكن الجراح{[9891]} في مفصل بل في عظم ، فقال مالك ، رحمه الله : فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها ؛ لأنه مخوف خطر . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يجب القصاص في شيء من العظام{[9892]} إلا في السن . وقال الشافعي : لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقًا ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس . وبه يقول عطاء ، والشعبي ، والحسن البصري ، والزهري ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وعمر بن عبد العزيز . وإليه ذهب سفيان الثوري ، والليث بن سعد . وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد .
وقد احتج أبو حنيفة ، رحمه الله ، بحديث الرُّبَيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن . وحديثُ الربيع لا حجة فيه ؛ لأنه ورد بلفظ : " كَسَرَتْ ثَنيَّة جارية " وجائز أن تكون{[9893]} سقطت من غير كسر ، فيجب القصاص - والحالة هذه - بالإجماع . وتمموا الدلالة . بما رواه ابن ماجه ، من طريق أبي بكر بن عَيَّاش ، عن دهْثَم{[9894]} بن قُرَّان ، عن نِمْرَان بن جارية ، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي ؛ أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل ، فقطعها ، فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر له بالدية ، فقال : يا رسول الله ، أُريد القصاص . فقال : " خذ الدية ، بارك الله لك فيها " . ولم يقض له بالقصاص . {[9895]}
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ، وَدَهْثَم{[9896]} بن قُرَّان العُكلي ضعيف أعرابي ، ليس حديثه مما يحتج به ، ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضًا ، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة . {[9897]}
ثم قالوا : لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تَنْدَمِل جراحة المجني عليه ، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه ، فلا شيء له ، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، فذكر حديثًا ، قال ابن إسحاق : وذكر عَمْرو{[9898]} بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقدني . فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تعجل حتى يبرأ جرحك " . قال : فأبى الرجل إلا أن يستقيد ، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، قال : فعرج المستقيد وبرأ المستقاد منه ، فأتى المستقيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله ، عرجت وبرأ صاحبي . فقال : " قد نهيتك فعصيتني ، فأبعدك الله وبطل عرجك " . ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه . تفرد به أحمد . {[9899]}
فلو اقتص المجني عليه من الجاني ، فمات من القصاص ، فلا شيء عليه عند مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم . وقال أبو حنيفة : تجب الدية في مال المقتص . وقال عامر الشعبي ، وعطاء ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، والحارث العُكْلِي ، وابن أبي ليلى ، وحماد بن أبي سليمان ، والزهري ، والثوري : تجب الدية على عاقلة المقتص له . وقال ابن مسعود ، وإبراهيم النَّخعي ، والحكم بن عتَيبة{[9900]} وعثمان البَتِّيّ : يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ، ويجب الباقي في ماله .
وقوله : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } يقول : فمن عفا عنه ، وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب ، وأجر للطالب .
وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : كفارة للجارح ، وأجر المجروح{[9901]} على الله ، عز وجل . رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن ، ومجاهد ، وإبراهيم - في أحد قوليه - وعامر الشعبي ، وجابر بن زيد - نحو ذلك الوجه الثاني ، ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا حماد بن زاذان ، حدثنا حرمي - يعني ابن عمارة - حدثنا شعبة ، عن عمارة - يعني ابن أبي حفصة - عن رجل ، عن جابر بن عبد الله ، في قول الله ، عز وجل{[9902]} { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : للمجروح . وروى عن الحسن البصري ، وإبراهيم النخعي - في أحد قوليه - وأبي إسحاق الهمداني ، نحو ذلك .
وروى ابن جرير ، عن عامر الشعبي وقتادة ، مثله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن قيس - يعني بن مسلم - قال : سمعت طارق بن شهاب يحدث ، عن الهيثم أبي{[9903]} العريان النخعي قال : رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيهًا بالموالي ، فسألته عن قول الله [ عز وجل ]{[9904]} { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تَصدق به .
وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم . وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة .
وقال ابن مَرْدُويَه : حدثني محمد بن علي ، حدثنا عبد الرحيم بن محمد المُجَاشِعي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري ، حدثنا يحيى بن سليمان الجُعْفي ، حدثنا مُعلَّى - يعني ابن هلال{[9905]} - أنه سمع أبان بن تغلب ، عن أبي العريان الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو - وعن أبان بن تغلب ، عن الشعبي ، عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : هو الذي تكسر سنه ، أو تقطع يده ، أو يقطع الشيء{[9906]} منه ، أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك ، وقال فَيُحَطّ عنه قدر خطاياه ، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه ، وإن كان الثلث فثلث خطاياه ، وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك . {[9907]}
ثم قال{[9908]} ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السَّفَر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية ، فلما ألح عليه الرجل قال : شأنك وصاحبك . قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه ، إلا رفعه الله به درجة ، وحط عنه به خطيئة " . فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي ، فخلى سبيل القرشي ، فقال معاوية : مروا له بمال .
هكذا رواه ابن جرير{[9909]} ورواه الإمام أحمد فقال : حدثنا وَكِيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السَّفر قال : كسر رجل من قريش سنّ رجل من الأنصار ، فاستعدى عليه معاوية ، فقال القرشيُّ : إن هذا دق سنّي ؟ قال معاوية : إنا سنرضيه . فألح الأنصاري ، فقال معاوية : شأنك بصاحبك ، وأبو الدرداء جالس ، فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء في{[9910]} جسده ، فيتصدق به ، إلا رفعه الله به درجة أو حط عنه بها خطيئة " . فقال الأنصاري : فإني ، يعني : قد عفوت .
وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك ، وابن ماجه من حديث وَكِيع ، كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق ، به{[9911]} ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ولا أعرف لأبي السَّفَر سماعًا من أبي الدرداء .
وقال [ أبو بكر ]{[9912]} بن مردويه : حدثنا دَعْلَج بن أحمد ، حدثنا محمد بن علي بن زيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا سفيان ، عن عمران بن ظبيان ، عن عدي بن ثابت ؛ أن رجلا هَتَم فمه رجل ، على عهد معاوية ، رضي الله عنه ، فأعْطِي دية ، فأبى إلا أن يقتص ، فأعطي ديتين ، فأبى ، فأعطي ثلاثًا ، فأبى ، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن{[9913]} رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من تصدق بدم فما دونه ، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت " . {[9914]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج بن النعمان ، حدثنا هُشَيْم ، عن المغيرة ، عن الشعبي ؛ أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل يجرح من{[9915]} جسده جراحة ، فيتصدق بها ، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به .
ورواه النسائي ، عن علي بن حُجْر ، عن جرير بن عبد الحميد ، ورواه ابن جرير ، عن محمود بن خِدَاش ، عن هُشَيْم ، كلاهما عن المغيرة ، به . {[9916]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن مجالد ، عن عامر ، عن المحرَّر بن أبي هريرة ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أصيب بشيء من جسده ، فتركه لله ، كان كفارة له " . {[9917]}
وقوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا كُفْر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لّهُ وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك يا محمد ، وعندهم التوراة فيها حكم الله . ويعني بقوله : كَتَبْنا : فرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النفس إذا قتلت نفسا بغير حقّ بالنفس ، يعني : أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة . والعَيْنَ بالعَيْن يقول : وفرضنا عليهم فيها أن يفقئوا العين التي فقأ صاحبها مثلها من نفس أخرى بالعين المفقوءة ، ويجدع الأنف بالأنف ، ويقطع الأذن بالأذن ، ويقلع السنّ بالسنّ ، ويقتصّ من الجارح غيره ظلما للمجروح . وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود ، وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوّته وإدباره عنه بعد إقباله ، وتعريف منه له جراءتهم قديما وحديثا على ربهم وعلى رسل ربهم وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل يقول تعالى ذكره له : وكيف يرضى هؤلاء اليهود يا محمد بحكمك إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصَنين ، وقضائي بينهم أن من قتل نفسا ظلما فهو بها قَوَد ، ومن فقأ عينا بغير حقّ فعينه بها مفقوءة قصاصا ، ومن جدع أنفا فأنفه به مجدوع ، ومن قلع سنَا فسنه بها مقلوعة ، ومن جرح غيره جرحا فهو مقتصّ منه مثل الجرح الذي جرحه ، ثم هم مع الحكم الذي عنده في التوراة من أحكامي يتولون عنه ويتركون العمل به يقول : فهم بترك حكمك وبسخط قضائك بينهم أحرى وأولى .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما رأت قُرَيظة النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه في كتابهم ، نهضت قريظة ، فقالوا : يا محمد اقض بيننا وبين إخواننا بني النضير وكان بينهم دم قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت النضير يتعزّزون على بني قريظة ودياتهم على أنصاف ديات النضير ، وكانت الدية من وُسُوق التمر أربعين ومئة وسق لبني النضير وسبعين وسقا لبني قريظة . فقال : «دَمُ القُرَضِيّ وَفَاءٌ مِنْ دَمه النّضِيريّ » . فغضب بنو النضير ، وقالوا : لا نطيعك في الرجم ، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنا عليها فنزلت : أفَحُكْمَ الجاهِلِيّةِ يَبْغونَ ، ونزل : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . الاَية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالَعيْنَ بالعَيْنِ وَالأنْفَ بالأنْفِ وَالأُذُنَ بالأُذُنِ وَالسّنّ بالسّنّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ قال : فما بالهم يخالفون ، يقتلون النفسين بالنفس ، ويفقئون العينين بالعين ؟ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا خلاد الكوفيّ ، قال : حدثنا الثوريّ ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، قال : كان بين حَيّين من الأنصار قتال ، فكان بينهم قتلي ، وكان لأحد الحَيّين على الاَخر طَوْلٌ . فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعل يجعل الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والمرأة بالمرأة فنزلت : الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ . قال سفيان : وبلغني عن ابن عباس أنه قال : نسختها : النّفْسَ بالنّفس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قا : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ فيها في التوراة ، وَالعينَ بالعينِ حتى : وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ قال مجاهد عن ابن عباس ، قال : كان علي بني إسرائيل القصاص في القتلى ، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح . قال : وذلك قول الله تعالى ذكره : وكَتَبْا عَلَيْهِمْ فِيها في التوراة ، فخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فجعل عليم الدية في النفس والجراح ، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة ، فمن تصدّق به فهو كفارة له .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالعَيْنَ بالعَيْنِ وَالأنْفَ بالأنْف والأُذُن بالأذُن وَالسّنّ بالسّنّ والجُرُوحَ قِصَاصٌ قال : إن بني إسرائيل لم يجعل لهم دية فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت ، أو جرح ، أو سنّ ، أو عين ، أو أنف ، إنما هو القصاصُ أو العفو .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أبي في التوراة ، أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أي في التوراة ، أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . حتى بلغ : والجُرُوحَ قَصَاصٌ بعضها ببعض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أنّ النّفْسي قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . حتى بلغ : والجُرُوحَ قَصَاصٌ بعضها ببعض .
حدثني المثنى ، قا : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أنّ النّفْسما بينهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ .
اختلف أهل التأويل في المعنّى به : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ فقال بعضهم : عُني بذلك المجروحُ وولىّ القتيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهثيم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : يُهدم عنه يعني المجروح مثل ذلك من ذنوبه .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو بنحوه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود أبي العريان ، قال : رأيت معاوية قاعدا على السرير وإلى جنبه رجل آخر كأنه مولى ، وهو عبد الله بن عمرو ، فقال في هذه الاَية : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : يُهدم عنه من ذنوبه مثل ما تصدّق به .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن أبي عقبة ، عن جابر بن زيد : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني حِرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عمارة ، عن رجل قال حرمي : نسيت اسمه عن جابر بن زيد بمثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال : دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار ، فاندقت ثَنِيّته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألحّ عليه الرجل ، قال معاوية : شأنَك وصاحَبك قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ إلاّ رَفَعَهُ اللّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً » . فقال له الأنصاريّ : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعتْه أذناني ووعاه قلبي . فخّلى سبيل القرشيّ ، فقال معاوية : مروا له بمال .
حدثنا محمود بن خِداش ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : قال ابن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدّقَ بِها ، كُفّرَ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِمِثْلِ ما تَصَدّقَ بِهِ » .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن في قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للمجروح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، قال : سمعت عامرا يقول : كفارة لمن تصدّق به .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : لوليّ القتيل الذي عفا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني شبيب بن سعيد ، عن شعبة بن الحجاج ، عن قيس بن مسلم ، عن الهيثم أبي العريان ، قال : كنت بالشام ، وإذا برجل مع معاوية قاعد على السرير كأنه مولى ، قال : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال فمن تصدّق به هدم الله عنه مثله من ذنوبه . فإذا هو عبد الله بن عمرو .
وقال آخرون : عَنَى بذلك الجارحَ ، وقالوا معنى الاَية : فمن تصدّق بما وجب له من قَوَدَ أو قصاص على من وجب ذلك له عليه ، فعفا عنه ، فعفوه ذلك عن الجاني كفارة لذنب الجاني المجرم ، كما القصاص منه كفارة له قالوا : فأما أجر العافي المتصدّق فعلى الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للجارح ، وأجر الذي أصبب على الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت مجاهدا يقول لأبي إسحاق : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يا أبا إسحاق ؟ قال أبو إسحاق : للمتصدّق . فقال مجاهد : للمذنب الجارح .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : قال مغيرة ، قال مجاهد : للجارح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا هناد وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ومجاهد : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قالا : الذي تصدّق عليه ، وأجر الذي أصبيب على الله . قال هناد في حديثه ، قالا : كفارة للذي تصدّق به عليه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد بن حميد ، عن منصور ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن عامر ، قال : كفارة لمن تصدق به عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم ، قالا : كفارة للجارج ، وأجر الذي أصيب على الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، قال : سمعت زيد أسلم يقول : إن عفا عنه أو اقتصّ منه ، أو قبل منه الدية ، فهو كفارة له .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : كفارة للجارح وأجر للعافي ، لقوله : فَمَنْ عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ على اللّهِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للمتصدّق عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، قال : حدثنا حصين ، عن ابن عباس : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : هي كفارة للجارح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : فالكفارة للجارح ، وأجر المتصدّق على الله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، أنه كان يقول : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : للقاتل ، وأجر للعافي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عمران بن ظبيان ، عن عديّ بن ثابت ، قال : هُتِم رجل على عهد معاوية ، فأُعطي دية فلم يقبل ، ثم أُعطي ديتين فلم يقبل ، ثم أُعطي ثلاثا فلم يقبل . فحدّث رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوله : «فمن تَصَدّقَ بِدَمٍ فما دُونَهُ ، كانَ كَفّارَةً له مِنْ يَوْمِ تَصَدّقَ إلى يَوْمِ وُلِدَ » . قال : فتصدّق الرجل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : من جُرح فتصدّق بالذي جرح به على الجارح ، فليس على الجارح سبيل ولا قود ولا عقل ولا جرح عليه من أجل أنه تصدّق عليه الذي جرح ، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظلم .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عني به : فمن تصدّق به فهو كفارة له المجروح ، فلأن تكون الهاء في قوله «له » عائدة على من أولى من أن تكون من ذكر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدّق عليه في سائر الصدقات غير هذه ، فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات .
فإن ظنّ ظانّ أن القصاص إذ كان يكفر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلما ، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أخذ البيعة على أصحابه : «أنْ لا تَقْتُلُوا وَلا تَزْنُوا وَلا تَسْرِقوا » ثم قال : «فَمَنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدّهُ ، فَهُوَ كَفّارَتُه » . فالواجب أن يكون عفو العافي المجني عليه أو وليّ المقتوقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، ومعصيته التي أتاها ، وذلك ما لا نعلم قائلاً من أهل العلم يقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه .
فإن قال قائل : أو ليس لمجروح عندكقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه .
فإن قال قائل : أو ليس لمجروح عندك أخذ جارحه بدية جرحه مكان القصاص ؟ قيل له : بلى . فإن قال : أفرأيت لو اختار الدية ثم عفا عنها ، أكانت له قِبَله في الاَخرة تبعة ؟ قيل له : هذا كلام عندنا محال ، وذلك أنه لا يكون عندنا مختار الدية إلا وهو لها آخذ . فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم . وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غير هذا بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع . إلا أن يكون مرادا بذلك هبتها لمن أخذت منه بعد الأخذ ، مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صحّ لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوّ له عنها بريئا من عقوبة ذنبه عند الله لأن الله تعالى ذكره أو عد قاتل المؤمن بما أوعده به ، إن لم يتب من ذنبه ، والدية مأخوذة منه ، أحبّ أم سَخِط ، والتوبة من التائب إنما تكون توبة إذا اختارها وأرادها وآثرها على الإصرار . فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك ، فقد يجب أن يكون له كفارة كما جاز القصاص كفّارة فإنا إنما جعلنا القصاص له كفّارة مع ندمه وبذله نفسه لأخذ الحقّ منها تنصلاً من ذنبه ، بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم . فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه ، فيكون ممن دخل في حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله : «فمن أُقيم عليه الحَدّ فهو كَفّارَتُهُ » . ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك ، الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : «فمن تَصَدّق بدَمٍ » ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل . وقد يجوز أن يكون القائلون أنه عنى بذلك الجارح ، أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير ، الذي :
حدثني به الحرث بن محمد ، قال : حدثنا ابن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : إذا أصاب رجل رجلاً ولا يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب ، قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة ابن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون ، فقال له : يا هذا أنا عروة بن الزبير ، فإن كان بعينك بأس فأنا بها .
وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله ، فلا تبعة له حينئذٍ قبل المصيب في الدنيا ولا في الاَخرة لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص وقد أبرأه منه ، فإبراؤه منه كفّارة له من حقه الذي كان له أخذه به ، فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الاَخرة ، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه من أصابه ، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به فيكون بفعله إنما يستحقّ به العقوبة من ربه لأن الله عزّ وجلّ قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطئوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم ، فقال في كتابه : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ . وقد يراد في هذا الموضع بالدم : العفو عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ لمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ .
يقول تعالى ذكره : ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوارة من قود النفس القائلة قصاصا بالنفس المقتولة ظلما . ولم يفقأ عين الفاقيء بعين المفقوءة ظلما قصاصا ممن أمه الله به بذلك في كتابه ، ولكن أقاد من بعض ولم يُقِد من بعض ، أو قتل في بعضِ اثنين بواحد ، وإن من يفعل ذلك من الظالمين ، يعني ممن جاء على حكم الله ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعا .
«الكتب » في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح ، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام ، والضمير في { عليهم } لبني إسرائيل وفي { فيها } للتوراة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { أن النفس بالنفس } بنصب النفس على اسم { أن } وعطف ما بعد ذلك منصوباً على { النفس } ويرفعون «والجروحُ قصاص » على أنها جملة مقطوعة . وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله . و { قصاص } خبر { أن } وروى الواقدي عن نافع أنه رفع «والجروحُ » وقرأ الكسائي «أن النفسَ بالنفس » نصباً ورفع ما بعد ذلك ، فمن نصب «والعينَ » جعل عطف الواو مشركاً في عمل «أن » ولم يقطع الكلام مما قبله . ومن رفع «والعينُ » فيتمثل ذلك من الاعراب أن يكون قطع مما قبل ، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في عامل ، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن معنى قوله : { وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس } قلنا لهم النفس بالنفس ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى : { يطاف عليهم بكأس من معين }{[4563]} يمنحون كأساً من معين عطف وحوراً عيناً على ذلك ، ويحتمل أن يعطف قوله { والعين } على الذكر المستتر{[4564]} في الطرق الذي هو الخبر ، وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى : { إنه يراكم هو قبيلة من حيث لا ترونهم }{[4565]} وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى : { ما أشركنا ولا آباؤنا }{[4566]} .
قال القاضي أبو محمد : ولسيبويه رحمه الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب { لا } في قوله : { ولا آباؤنا } فكانت { لا } عوضاً من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة ، قال ابو علي : وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضاً إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضاً من الضمير الواقع قبل حرف العطف ، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير ، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم ، لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه .
قال القاضي أبو محمد : وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية ، لأن { لا } ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ، ونفت هي أيضاً عن الآباء فتمكن العطف ، قال أبو علي ومن رفع «والجروحُ قصاص » فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع [ والعين ] ويجوز أن يستأنف : [ والجروح ] ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة ، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة .
ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصُب من نصبه . وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ «أنْ النفسُ بالنفس » بتخفيف «أن » ورفع «النفسُ » ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية . وقرأ أبيّ بن كعب بنصب «النفس » وما بعدها ثم قرأ : «وأن الجروح قصاص » بزيادة «أن » الخفيفة ورفع «الجروحُ » .
ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضاً على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه . ومضى عليه إجماع الناس ، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله : { النفس بالنفس } فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي ، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين . وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يقتل مسلم بكافر »{[4567]} وقال ابن عباس رضي الله عنه : رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزز بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم ، وحكى الطبري عن ابن عباس : كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد{[4568]} . قال الثوري : وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها { النفس بالنفس } .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك قوله تعالى : { والجروح قصاص } هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود ، وهي التي لا يخاف منها على النفس ، فأما ما خيف منه كالمأمومة{[4569]} وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها . و «القصاص » مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه . فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل ، وقوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يحتمل ثلاثة معان ، أحدها أن تكون «من » للجروح أو ولي القتيل . ويعود الضمير في قوله : { له } عليه أيضاً ، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه ، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :«ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة{[4570]} » ، وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم .
وقال به أيضاً قتادة والحسن ، والمعنى الثاني أن تكون «من » للجروح أو ولي القتيل ، والضمير في { له } يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه : فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب ، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة ، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى ، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه ، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم ، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في { له } يعود عليه أيضاً ، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه ، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهداً قال إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب ، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير . فإن كان بعينك بأس فأنا بها .
قال القاضي أبو محمد : وانظر َأن { تصدق } على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق ، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوماً تأولوا الآية أن المعنى { والجروح قصاص } فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل قلق . وقد تقدم القول على قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله } الآية . وفي مصحف أبيّ بن كعب «ومن يتصدق به فإنه كفارة له » .