19- وجاءت جهة البئر جماعة كانت تسرع في السير إلى مصر ، فأرسلوا مَن يرد الماء منهم ويعود إليهم من البئر بما يسقيهم ، فألقى دلوه فيه ورفعه منه فإذا يوسف متعلق به . . قال واردهم يعلن ابتهاجه وفرحه : يا للخير ويا للخبر السار . . هذا غلام . . وأخفوه في أمتعتهم ، وجعلوه بضاعة تُباع ، والله محيط علمه بما كانوا يعملون .
قوله تعالى : { وجاءت سيارة } ، وهم القوم المسافرون ، سموا سيارة لأنهم يسيرون في الأرض ، كانت رفقة من مدين تريد مصر ، فأخطأوا الطريق فنزلوا قريبا من الجب ، وكان الجب في قفر بعيد من العمران للرعاة والمارة ، وكان ماؤه مالحا فعذب حين ألقي يوسف عليه السلام فيه ، فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر ، لطلب الماء .
قوله تعالى : { فأرسلوا واردهم } والوارد الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء . { فأدلى دلوه } ، أي : أرسلها في البئر ، يقال : أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ، ودلوتها إذا أخرجتها ، فتعلق يوسف بالحبل فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أعطي يوسف شطر الحسن " . ويقال : إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة ، وكانت قد أعطيت سدس الحسن وقال ابن إسحاق ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن . فلما رآه مالك بن ذعر ، { قال يا بشرى } ، قرأ الأكثرون هكذا بالألف وفتح الياء ، والوجه أن بشراي مضافة إلى ياء المتكلم ، وهو منادى مضاف ، فموضعه نصب ، وقرأ أهل الكوفيون : يا بشرى ، بغير ياء الإضافة على فعلى ، وأمال الراء حمزة والكسائي ، وفتحها عاصم ، والوجه في إفرادها عن ياء المتكلم هو أن بشرى نكرة هاهنا ، فناداها كما تنادي النكرات ، نحو قولك : يارجلا ويا راكبا ، إذا جعلت النداء شائعا فيكون موضعه نصبا مع التنوين ، ويجوز أن يكون بشرى منادى تعرف بالقصد ، نحو يا رجل ، يريد نادى المستقى رجلا من أصحابه اسمه بشرى ، فتكون بشرى في موضع رفع ، وقيل : بشر المتقي أصحابه ، يقول أبشروا .
قوله تعالى : { هذا غلام } وروى ابن مجاهد عن أبيه : أن جدران البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها . { وأسروه } ، أخفوه ، { بضاعةً } ، قال مجاهد : أسره مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين معهم وقالوا هو بضاعة استبضعها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا منهم فيه المشاركة . وقيل : أراد أن إخوة يوسف أسروا شأن يوسف وقالوا هذا عبد لنا أبق منا .
قوله تعالى : { والله عليم بما يعملون } ، فأتى يهوذا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر ، فأخبر بذلك إخوته ، فطلبوه فإذا هم بمالك وأصحابه نزولا ، فأتوهم فإذا هم بيوسف ، فقالوا هذا عبد آبق منا . ويقال : إنهم هددوا يوسف حتى لم يعرف حاله . وقال مثل قولهم ، ثم باعوه .
{ 19 - 20 } { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ }
أي : مكث يوسف في الجب ما مكث ، حتى { جَاءَتْ سَيَّارَةٌ } أي : قافلة تريد مصر ، { فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ } أي : فرطهم ومقدمهم ، الذي يعس لهم المياه ، ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض ونحو ذلك ، { فَأَدْلَى } ذلك الوارد { دَلْوَهُ } فتعلق فيه يوسف عليه السلام وخرج . { قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ } أي : استبشر وقال : هذا غلام نفيس ، { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } وكان إخوته قريبا منه ، فاشتراه السيارة منهم ،
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، لتقص علينا مرحلة أخرى من مراحل حياة يوسف - عليه السلام - حيث حدثتنا عن انتشاله من الجب ، وعن بيعه بثمن بخس وعن وصية الذي اشتراه لامرأته ، وعن مظاهر رعاية الله - تعالى - له فقال - سبحانه -
{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فأدلى دَلْوَهُ . . . }
قوله - سبحانه - : { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فأدلى دَلْوَهُ . . . } شروع في الحديث عما جرى ليوسف من أحداث بعد أن ألقى به إخوته في الجب .
والسيارة : جماعة المسافرين ، وكانوا - كما قيل - متجهين من بلاد الشام إلى مصر .
والوارد : هو الذي يرد الماء ليستقى للناس الذين معه . ويقع هذا اللفظ على الفرد والجماعة ، فيقال لكل من يرد الماء وارد ، كما يقال للماء مورود .
وقوله { فأدلى } من الإِدلاء بمعنى إرسال الدول في البئر لأخذ الماء .
والدلو : إناء معروف يوضع فيه الماء .
وفى الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام ، والتقدير :
وبعد أن ألقى إخوة يوسف به في الجب وتركوه وانصرفوا لشأنهم ، جاءت إلى ذلك المكان قافلة من المسافرين ، فأرسلوا واردهم ليبحث لهم عن ماء ليستقوا ، فوجد جبا ، فأدلى دلوه فيه ، فتعلق به يوسف ، فلما خرج ورآه فرح به وقال : يا بشرى هذا غلام .
وأوقع النداء على البشرى ، للتعبير عن انتهاجه وسروره ، حتى لكأنها شخص عاقل يستحق النداء ، أى : يا بشارتى أقبلى فهذا أوان إقبالك .
وقيل المنادى محذوف والتقدير : يا رفاقى في السفر أبشروا فهذا غلام ، وقد خرج من الجب .
وقرأ أهل المدينة ومكة : يا بشراى هذا غلام . بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم . والضمير المنصوب وهو الهاء في قوله : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } يعود إلى يوسف .
أما الضمير المرفوع فيعود إلى السيارة ، وأسر من الإِسرار الذي هو ضد الإِعلان .
والبضاعة : عرضو التجاة ومتاعها . وهذا اللفظ مأخذو من البضع بمعنى القطع ، وأصله جملة من اللحم تبضع أى : تقطع . وهو حال من الضمير المنصوب في { وأسروه } .
والمعنى : وأخفى جماعة المسافرين خبر التقاط يوسف من الجب مخافة أن يطلبه أحد من السكان المجاورين للجب ، واعتبره بضاعة سرية لهم ، وعزموا على بيعه على أنه من العبيد الأرقاء .
ولعل يوسف - عليه السلام - قد أخبرهم بقصته بعد إخراجه من الجب .
ولكنهم لم يلتفتوا إلى ما أخبرهم به طمعا في بيعه والانتفاع بثمنه .
ومن المفسرين من يرى أن الضمير المرفوع في قوله { وأسروه } يعود على الوارد ورفاقه ، فيكون المعنى :
وأسر الوارد ومن معه أمر يوسف عن بقية أفراد القافلة ، مخافة أن يشاركهوهم في ثمنه إذا علموا خبره ، وزعموا أن أهل هذا المكان الذي به الجب دفعوه إليهم ليبيعوه لهم في مصر على أنه بضاعة لهم .
ومنهم من يرى أن الضمير السابق يعود إلى إخوة يوسف .
قال الشوكانى ما ملخصه : وذلك أن يهوذا كان يأتى إلى يوسف كل يوم بالطعام ، فأتاه يوم خروجه من الجب فلم يجده ، فأخبر إخوته بذلك ، فأتوا إلى السيارة وقالوا لهم : " إن الغلام الذي معكم عبد لنا قد أبق ، فاشتروه منهم بثمن بخس ، وسكت يوسف مخافة أن يأخذه إخوته فيقتلوه " .
وعلى هذا الرأى يكون معنى { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } : أخفى إخوة يوسف كونه أخا لهم ، واعتبروه عرضا من عروض التجارة القابلة للبيع والشراء .
ويكون المراد بقوله - تعالى - بعد ذلك { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } الشراء الحقيقى ، بمعنى أن السيارة اشتروا يوسف من إخوته بثمن بخس .
والحق أن الرأى الأول هو الذي تطمئن إليه النفس ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية ، ولأنهبعيد عن التكلف الذي يرى واضحا في القولين الثانى والثالث .
وقوله : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أى : لا يخفى عليه شئ من إسرارهم . ومن عملهم السئ في حق يوسف . حيث إنهم استرقوه وباعوه بثمن بخس ، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، كما جاء في الحديث الشريف .
يقول تعالى مخبرًا عما جرى ليوسف ، عليه السلام ، حين ألقاه إخوته ، وتركوه في ذلك الجب فريدا وحيدًا ، فمكث في البئر ثلاثة أيام ، فيما قاله أبو بكر بن عياش{[15092]} وقال محمد بن إسحاق : لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك ، ينظرون ما يصنع وما يُصنع به ، فساق الله له سَيَّارة ، فنزلوا قريبًا من تلك{[15093]} البئر ، وأرسلوا واردهم - وهو الذي يتطلب لهم الماء - فلما جاء تلك{[15094]} البئر ، وأدلى دلوه فيها ، تشبث يوسف ، عليه السلام ، فيها ، فأخرجه واستبشر به ، وقال : { يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ }
وقرأ بعض القراء : " يا بشرى " ، زعم السدي أنه اسم رجل ناداه ذلك الرجل الذي أدلى دلوه ، معلما له أنه أصاب غلامًا . وهذا القول من السدي غريب ؛ لأنه لم يُسبَق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس ، والله أعلم . وإنما معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى ، ويكون قد أضاف البشرى إلى نفسه ، وحذف ياء الإضافة وهو يريدها ، كما تقول العرب : " يا نفسُ اصبري " ، و " يا غلام أقبل " ، بحذف حرف الإضافة ، ويجوز الكسر حينئذ والرفع ، وهذا منه ، وتفسرها القراءة الأخرى { يَا بُشْرَى " } والله أعلم .
وقوله : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } أي : وأسره الواردون من بقية السيارة وقالوا : اشتريناه وتبضّعناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره . قاله مجاهد ، والسدي ، وابن جرير . هذا قول .
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } يعني : إخوة يوسف ، أسروا شأنه ، وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، واختار البيع . فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه : { يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ } يباع ، فباعه إخوته .
وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : يعلم ما يفعله إخوة يوسف ومشتروه ، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه ، ولكن له حكمة وقَدرَ سابق ، فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه ، ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين .
وفي هذا تعريض لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم{[15095]} ، وإعلامه له بأنني عالم بأذى قومك ، وأنا قادر على الإنكار عليهم ، ولكني سأملي لهم ، ثم أجعل لك العاقبة والحكم عليهم ، كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( 19 ) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وجاءت مارَّةُ الطريق من المسافرين ، { فأرسلوا واردهم } ، وهو الذي يرد المنهل والمنزل ، و " وروده إياه " ، مصيره إليه ، ودخوله . { فأدلى دلوه } ، يقول : أرسل دلوه في البئر .
يقال : " أدليت الدلو في البئر " : إذا أرسلتها فيه ، فإذا استقيت فيها ، قلت : " دلوْتُ أدْلُو دلوًا " .
وفي الكلام محذوف ، استغنى بدلالة ما ذكر عليه ، فترك ، وذلك : : { فأدلى دلوه } ، فتعلق به يُوسف ، فخرج ، فقال المدلي : { يا بشرى هذا غلام } .
وبالذي قلنا في ذلك ، جاءت الأخبار عن أهل التأويل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي : { وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه } ، فتعلق يوسف بالحبل ، فخرج ، فلما رآه صاحب الحبل نادَى رجلا من أصحابه ، يقال له : " بُشرى " : { يا بشرى هذا غلامٌ } .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه } ، فتشبث الغلام بالدلو ، فلما خرج قال : { يا بشرى هذا غلام } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فأرسلوا واردهم } ، يقول : أرسلوا رسولهم ، فلما أدلى دلوه تشبث بها الغلام ، { قال يا بشرى هذا غلام } .
واختلفوا في معنى قوله : { يا بشرى هذا غلام } :
فقال بعضهم : ذلك تبشير من المدلي دلوَه أصحابَه ، في إصابته يوسف بأنه أصاب عبدًا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { قال يا بشرى هذا غلام } ، تباشروا به حين أخرجوه . وهي بئر بأرض بيت المقدس معلومٌ مكانها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { يا بشرى هذا غلام } ، قال : بشّرهم واردهم حين وجدَ يوسف .
وقال آخرون : بل ذلك اسم رجل من السيَّارة بعينه ، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلِّقًا بالحبل .
ذكر من قال ذلك : فخرج ، فلما رآه صاحب الحبل نادَى رجلا من أصحابه ، يقال له : " بُشرى " : { يا بشرى هذا غلامٌ } .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه } ، فتشبث الغلام بالدلو ، فلما خرج قال : { يا بشرى هذا غلام } .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( يا بشرى هذا غلام ) قال : بشّرهم واردهم حين وجدَ يوسف .
وقال آخرون : بل ذلك اسم رجل من السيَّارة بعينه ، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلِّقًا بالحبل .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد قال ، جدثنا أسباط ، عن السدي : { يابشرى هذا غلام } ، قال : نادى رجلا من أصحابه ، يقال له : " بشرى " ، فقال : { يا بشرى هذا غلام } .
حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا خلف بن هشام قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس بن الربيع ، عن السدي في قوله : { يابشرى هذا غلام } ، قال : كا اسم صاحبه : " بشرى " .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال ، حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي في قوله : { يابشرى هذا غلام } ، قال : اسم الغلام : " بشرى " ، قال : { يابشرى } ، كما تقول : " يا زيد " .
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة : { يا بُشْرَيَّ } ، بإثبات ياء اٌضافة ، غير أنه أدغم الألف في الياء طلبا للكسرة التي تلزم ما قبل ياء الإضافة من المتكلم ، في قوله : " غلامي " ، و " جاريتي " ، في كل حال . وذلك من لغة طيء ، كما قال أبو ذؤيب :
سَبَقُوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ *** فَتُخُرِّمُوا ولكل جَنب مَصْرَعُ
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : { يا بُشْرَى } ، بإرسال الياء وترك الإضافة .
وإذا قرئ ذلك كذلك احتمل وجهين من التأويل :
أحدهما ما قاله السدي ، وهو أن يكون اسم رجل دعاه المستقي باسمه ، كما يقال : " يا زيد " ، و " يا عمرو " ، فيكون " بشرى " في موضع رفع بالنداء .
والآخر : أن يكون أرادَ إضافة البشرى إلى نفسه ، فحذف الياء وهو يريدها ، فيكون مفردًا وفيه نيَّة الإضافة ، كما تفعل العرب في النداء فتقول : " يا نفس اصبري " ، و " يا نفسي اصبري " ، و " يا بُنَيُّ لا تفعل " ، و " يا بُنَيِّ لا تفعل " ، فتفرد وترفع ، وفيه نية الإضافة . وتضيف أحيانًا فتكسر ، كما تقول : " يا غلامِ أقبل " ، و " يا غلامي أقبل " .
قال أبو جعفر : وأعجب القراءة في ذلك إليَّ قراءةُ من قرأه بإرسال الياء وتسكينها ؛ لأنه إن كان اسم رجل بعينِه كان معروفًا فيهم ، كما قال السدي ، فتلك هي القراءة الصحيحة لا شك فيها . وإن كان من التبشير ، فإنه يحتمل ذلك إذا قرئ كذلك على ما بيَّنت .
وأما التشديد والإضافة في الياء ، فقراءة شاذة ، لا أرى القراءة بها ، وإن كانت لغة معروفة ؛ لإجماع الحجة من القرأة على خلافها .
وأما قوله : { وأسروه بضاعة } ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .
فقال بعضهم : وأسرَّه الوارد المستقي وأصحابُه من التجار الذين كانوا معهم ، وقالوا لهم : " هو بضاعة استبضعناها بعضَ أهل مصر " ؛ لأنهم خافوا إن علموا أنهم اشتروه بما اشتروه به أن يطلبوا منهم فيه الشركة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وأسروه بضاعة } ، قال : صاحب الدلو ومن معه ، قالوا لأصحابهم : " إنما استبضعناه " ، خيفةَ أن يشركوهم فيه إن علموا بثمنه . وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثق منه لا يأبَقْ ! حتى وَقَفوه بمصر ، فقال : من يبتاعني ويُبَشَّر ؟ فاشتراه الملك ، والملك مُسلم .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، غير أنه قال : خيفة أن يستشركوهم إن علموا به ، واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثقوا منه لا يأبق ! حتى واقفوه بمصر . وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ،
. . . . قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه ؛ غير أنه قال : خيفة أن يشاركوهم فيه ، إن علموا بثمنه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه ؛ إلا أنه قال : خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا ثمنه . وقال أيضًا : حتى أوقفوه بمصر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وأسروه بضاعة } ، قال : لما اشتراه الرجلان فَرَقًا من الرفقة أن يقولوا : " اشتريناه " ، فيسألونهم الشركة ، فقالا إن سألونا ما هذا ؟ قلنا بضاعة استبضَعَناه أهل الماء . فذلك قوله : { وأسروه بضاعة } بينهم . وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأسرّه التجار بعضهم من بعض .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : { وأسروه بضاعة } ، قال : أسرّه التجار بعضهم من بعض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : { وأسروه بضاعة } ، قال : أسرّه التجار بعضهم من بعض .
وقال آخرون : معنى ذلك : أسرُّوا بيعَه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { وأسروه بضاعة } ، قال : أسروا بيعه .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن جابر ، عن مجاهد : { وأسروه بضاعة } ، قال : قالوا لأهل الماء : إنما هو بضاعة .
وقال آخرون : إنما عني بقوله : { وأسروه بضاعة } ، إخوة يوسف ، أنهم أسرُّوا شأن يوسف أن يكون أخَاهم ، قالوا : هو عبدٌ لنا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وأسروه بضاعة ، يعني : إخوة يوسف أسرُّوا شأنه ، وكتموا أن يكون أخاهم ، فكتم يوسف شأنه مخافةَ أن تقتله إخوته ، واختار البيع . فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه قال : يا بشرى ! هذا غلامٌ يباع . فباعه إخوته . قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب : قولُ من قال : " وأسرَّ وارد القوم المدلي دلوَه ومن معه من أصحابه ، من رفقته السيارة ، أمرَ يوسف أنهم اشتروه ، خيفةً منهم أن يستشركوهم ، وقالوا لهم : هو بضاعة أبضَعَها معنا أهل الماء ؛ وذلك أنه عقيب الخبر عنه ، فلأن يكون ما وليه من الخبر خبرًا عنه ، أشبهُ من أن يكون خبرًا عمَّن هو بالخبر عنه غيرُ متَّصِل .
وقوله : { والله عليم بما يعملون } ، يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بما يعمله باعَةُ يوسف ومشتروه في أمره ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولكنه ترك تغيير ذلك ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه ، وليري إخوة يوسف ويوسف وأباه قدرتَه فيه .
وهذا ، وإن كان خبرًا من الله تعالى ذكره عن يوسف نبيّه صلى الله عليه وسلم ، فإنه تذكير من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وتسلية منه له عما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه ، يقول : فاصبر ، يا محمد ، على ما نالك في الله ، فإنّي قادرٌ على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون ، كما كنت قادرًا على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا ، ولم يكن تركي ذلك لهوان يوسف عليّ ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته ، فكذلك تركي تغييرَ ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوان بك عليّ ، ولكن لسابق علمي فيك وفيهم ، ثم يصير أمرُك وأمرهم إلى عُلوّك عليهم ، وإذعانهم لك ، كما صار أمر إخوة يوسف إلى الإذعان ليوسف بالسؤدد عليهم ، وعلوِّ يوسف عليهم .
{ وجاءت سيّارةٌ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا من الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه . { فأرسلوا واردهم } الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي . { فأدلى دلوهُ } فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه . { قال يا بشرى هذا غلام } نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعال فهذا أوانك . وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه . وقرأ غير الكوفيين " يا بشراي " بالإضافة ، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي . وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ { يا بشرى } بالإدغام وهو لغة و " بشراي " بالسكون على قصد الوقف . { وأسرّوه } أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة . وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر . وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلامنا أبق منا فاشتروه ، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه . { بضاعةً } نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة ، واشتقاقه من البضع فإنه ما بضع من المال للتجارة . { والله عليم بما يعملون } لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم .
قيل إن «السيارة » جاءت في اليوم الثاني من طرحه في الجب ، { سيارة } : جمع سيار ، كما قالوا بغال وبغالة ، وهذا بعكس تمرة وتمر ، و { سيارة } : بناء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق . وروي أن هذه «السيارة » كانوا قوماً من أهل مدين ، وقيل : قوم أعراب . و «الوارد » هو الذي يأتي الماء ليسقي منه لجماعة ، ويروى أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن ذعر ، ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب ، ويقال : «أدلى الدلو » : إذا ألقاه في البئر ليستقي الماء . ودلاه يدلوه : إذا استقاه من البئر . وفي الكلام هنا حذف تقديره : فتعلق يوسف بالحبل فلما بصر به المدلي قال : يا بشرأي ، وروي أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين ، ويرجح هذا لفظة { غلام } ، فإنه ما بين الحولين إلى البلوغ ، فإن قيلت فيما فوق ذلك فعلى استصحاب حال وتجوز ؛ وقيل : كان ابن سبع عشرة سنة - وهذا بعيد - .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يا بشرأيَ » بإضافة البشرى إلى المتكلم وبفتح الياء على ندائها كأنه يقول : احضري ، فهذا وقتك ، وهذا نحو قوله : { يا حسرة على العباد }{[6604]} وروى ورش عن نافع «يا بشرأيْ » بسكون الياء ، قال أبو علي : وفيها جمع بين ساكنين على حد دابة وشابة{[6605]} ، ووجه ذلك أنه يجوز أن تختص بها{[6606]} الألف لزيادة المد الذي فيها على المد الذي في أختيها{[6607]} ، كما اختصت في القوافي بالتأسيس ، واختصت في تخفيف الهمزة نحو هبأة{[6608]} وليس شيء من ذلك في الياء والواو .
وقرأ أبو الطفيل والجحدري وابن أبي إسحاق والحسن «يا بشريَّ » تقلب الألف ياء ثم تدغم في ياء الإضافة ، وهي لغة فاشية ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهمُ*** فتخرموا ولكل جنب مصرع{[6609]}
وأنشد أبو الفتح وغيره في ذلك :
يطوّف بيَّ كعب في معد*** ويطعن بالصملة في قفيا
فإن لم تثأروا لي في معد*** فما أرويتما أبداً صديا{[6610]} أراد : هواي ، وقفاي ، وصداي{[6611]} .
وقرأ حمزة والكسائي «يا بشرِي » ويميلان ولا يضيفان . وقرأ عاصم كذلك إلا أنه يفتح الراء ولا يميل ، واختلف في تأويل هذه القراءة فقال السدي : كان في أصحاب هذا «الوارد » رجل اسمه بشرى ، فناداه وأعلمه بالغلام{[6612]} ، وقيل : هو على نداء البشرى - كما قدمنا - والضمير في قوله : { وأسروه } ظاهر الآيات أنه ل «وارد » الماء ، - قاله مجاهد ، وقال : إنهم خشوا من تجار الرفقة إن قالوا : وجدناه أن يشاركوهم في الغلام الموجود .
قال القاضي أبو محمد : هذا إن كانوا فسقة أو يمنعوهم من تملكه إن كانوا خياراً ، فأسروا بينهم أن يقولوا : أبضعه معنا بعض أهل المصر .
و { بضاعة } حال ، و «البضاعة » : القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح ، مأخوذة من قولهم : بضعت أي قطعت . وقيل : إنهم أسروا في أنفسهم يتخذونه بضاعة لأنفسهم أي متجراً ، ولم يخافوا من أهل الرفقة شيئاً ، ثم يكون الضمير في قوله : { وشروه } لهم أيضاً ، أي باعوه بثمن قليل ، إذ لم يعرفوا حقه ولا قدره ، بل كانوا زاهدين فيه ، وروي - على هذا - أنهم باعوه من تاجر . وقال مجاهد : الضمير في { أسروه } لأصحاب «الدلو » ، وفي { شروه } لإخوة يوسف الأحد عشر ، وقال ابن عباس : بل الضمير في { أسروه } و { شروه } لإخوة يوسف .
قال القاضي أبو محمد : وذلك أنه روي أن إخوته لما رجعوا إلى أبيهم وأعلموه رجع بعضهم إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ، ويقفوا على الحقيقة من فقده فلما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم فقالوا : هذا عبد أبق لأمنا ووهبته لنا ونحن نبيعه منكم ، فقارهم{[6613]} يوسف على هذه المقالة خوفاً منهم ، ولينفذ الله أمره ؛ فحينئذ أسره إخوته إذ جحدوا إخوته فأسروها ، واتخذوه { بضاعة } أي متجراً لهم ومكسباً { وشروه } أيضاً { بثمن بخس } ، أي باعوه .
وقوله { والله عليم بما يعملون } إن كانت الضمائر لإخوة يوسف ففي ذلك توعد ، وإن كانت الضمائر للواردين ففي ذلك تنبيه على إرادة الله تعالى ليوسف ، وسوق الأقدار بناء حاله ، فهو - حينئذ - بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يدبر ابن آدم والقضاء يضحك » .
وفي الآية - أيضاً - تسلية للنبي عليه السلام عما يجري عليه من جهة قريش ، أي العاقبة التي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة .
عطف على { وجاءوا أباهم عشاء يبكون } [ سورة يوسف : 16 ] عطف قصة على قصة . وهذا رجوع إلى ما جرى في شأن يوسف عليه السّلام ، والمعنى : وجاءت الجبّ .
والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم .
والإدلاء : إرسال الدلو في البئر لنزع الماء .
والدلو : ظرف كبير من جلد مخيط له خرطوم في أسفله يكون مطوياً على ظاهر الظرف بسبب شده بحبل مقارن للحبل المعلقة فيه الدلو . والدلو مؤنثة .
وجملة قال يا بشراي مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ذكر إدلاء الدلو يهيّىء السامع للسؤال عمّا جرى حينئذٍ فيقع جوابه قال يا بشراي .
والبشرى : تقدمت في قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } في سورة يونس ( 64 ) .
ونداء البشرى مجاز ، لأنّ البشرى لا تنادى ، ولكنها شبّهت بالعاقل الغائب الذي احتيج إليه فينادى كأنه يقال له : هذا آن حضورك . ومنه : يا حسرتَا ، ويا عجباً ، فهي مكنية وحرف النداء تخييل أو تبعية .
والمعنى : أنه فرح وابتهج بالعثور على غلام .
وقرأ الجمهور { يا بشّرَايَ } بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بدون إضافة .
واسم الإشارة عائد إلى ذات يوسف عليه السّلام ؛ خاطب الواردُ بقية السيّارة ، ولم يكونوا يرون ذات يوسف عليه السّلام حين أصعده الوارد من الجب ، إذ لو كانوا يرونه لما كانت فائدة لتعريفهم بأنه غلام إذ المشاهدة كافية عن الإعلام ، فتعين أيضاً أنهم لم يكونوا مشاهدين شبح يوسف عليه السّلام حين ظهر من الجب ، فالظاهر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام لا يقصد به الدلالة على ذات معيّنة مرئية بل يقصد به إشعار السامع بأنه قد حصَل شيءٌ فرح به غير مترقب ، كما يقول الصائد لرفاقه : هذا غزال وكما يقول الغائص : هذه صدقة أو لؤلؤة ويقول الحافر للبئر : هذا الماء قال النابغة يصف الصائد وكلابه وفرسه :
يقول راكبه الجنيّ مرتفقاً *** هذا لكُنّ ولحم الشاة محجور
وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون . قال النابغة :
أو درّة صدفاته غوّاصها *** بهج متى يُرها يهلّ ويسجد
والمعنى : وجدت في البئر غلاماً ، فهو لقطة ، فيكون عبداً لمن التقطه . وذلك سبب ابتهاجه بقوله : { يا بشراي هذا غلام } .
والغلام : مَن سنهُ بين العشر والعشرين . وكان سنّ يوسف عليه السّلام يومئذٍ سبع عشرة سنة .
وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيليين كما في التّوراة ، أي أبناء إسماعيل بن إبراهيم . وقيل : كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها ، ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب .
ومعنى { أسَرُّوه } أخْفَوْه . والضمير للسيارة لا محالة ، أي أخْفوا يوسف عليه السّلام ، أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردّى في الجب ، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت ، وكان الشأن أن يعرّفوا من كان قريباً من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللّقطة ، ولذلك كان قوله : { وأسرّوه } مشعراً بأن يوسف عليه السّلام أخبرهم بقصته ، فأعرضوا عن ذلك طمعاً في أن يبيعوه .
وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين .
و { بضاعةً } منصوب على الحال المقدّرة من الضمير المنصوب في { أسرّوه } ، أي جعلوه بضاعة . والبضاعة : عروض التجارة ومتاعها ، أي عزموا على بيعه .
وجملة { والله عليم بما يعملون } معترضة ، أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حقّ في استرقاقه ، ومن كان حقّه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم ، لأنهم قد علموا خبره ، أو كان من حقهم أن يسْألوه لأنه كان مستطيعاً أن يخبرهم بخبره .
وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف عليه السّلام آية من لطف الله به .