72- هؤلاء المشركون إذا تلا أحد عليهم آياتنا الواضحات ، وفيها الدليل على صحة ما تدعو إليه - أيها النبي - وفساد عبادتهم ، تلحظ في وجوههم الحنق والغيظ الذي يستبد بهم ، حتى ليكاد يدفعهم إلى الفتنة بالذين يتلون عليهم هذه الآيات . قل لهم - أيها النبي - تبكيتا وإنذاراً : هل تستمعو إليّ فأخبركم بشيء هو أشد عليكم شراً من الغيظ الذي يحرق نفوسكم ؟ إنه هو النار التي توعَّد اللَّه بها الذين كفروا أمثالكم يوم القيامة ، وما أسوأها مصيراً ومقاماً .
قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } يعني : القرآن { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } يعني الإنكار يتبين ذلك في وجوههم من الكراهية والعبوس ، { يكادون يسطون } يعني : يقعون ويبسطون إليهم أيديهم بالسوء . وقيل : يبطشون { بالذين يتلون عليهم آياتنا } أي : بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ . يقال : سطا عليه وسطا به ، إذا تناوله بالبطش والعنف ، وأصل السطو القهر { قل } يا محمد ، { أفأنبئكم بشر من ذلكم } أي : بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون { النار } يعني : هي النار . { وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير* }
ذكر ذلك بقوله : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } التي هي آيات الله الجليلة ، المستلزمة لبيان الحق من الباطل ، لم يلتفتوا إليها ، ولم يرفعوا بها رأسا ، بل { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ } من بغضها وكراهتها ، ترى وجوههم معبسة ، وأبشارهم مكفهرة ، { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي : يكادون يوقعون بهم القتل والضرب البليغ ، من شدة بغضهم وبغض الحق وعداوته ، فهذه الحالة من الكفار بئس الحالة ، وشرها بئس الشر ، ولكن ثم ما هو شر منها ، حالتهم التي يؤولون إليها ، فلهذا قال : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } فهذه شرها طويل عريض ، ومكروهها وآلامها تزداد على الدوام .
ثم بين - سبحانه - أنهم بجانب ضلالهم ، تأخذهم العزة بالإثم إذا ما نصحهم الناصحون بالإقلاع عن هذا الضلال فقال : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا . . . } .
وقوله { يَسْطُونَ } من السطو ، بمعنى الوثب والبطش بالغير . يقال : سلطا فلان على فلان ، إذا بطش به بضرب أو شتم أو سرقة أو ما يشبه ذلك .
أى : وإذا تتلى على هؤلاء الظالمين ، آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، من قبل عبادنا المؤمنين { تَعْرِفُ } - أيها الرسول الكريم - { فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ } بهذه الآيات البينات { المنكر } أى : ترى فى وجوههم الإنكار لها ، والغضب منها ومن قارئها ، والكراهية والعبوس عند سماعها .
بل ويكادون فوق ذلك ، يبطشون بالمؤمنين الذين يتلون عليهم آياتنا ، ويعتدون عليهم بالسب تارة ، والضرب تارة أخرى .
وذلك لأن هؤلاء الظالمين ، حين عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة لجأوا إلى السطو والعدوان ، وهذا شأن الطغاة الجاهلين فى كل زمان ومكان .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهؤلاء الطغاة على سبيل التهديد والوعيد ، ما من شأنه أن يردعهم عن سطوهم وبغيهم فقال : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم } .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الظالمين ألا أخبركم بما هو أشد ألما من غيظكم على من يتلو عليكم آياته ، ومن همكم بالسطو عليه ؟
أشد من كل ذلك { النار } التى { وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } أى : وعدهم بدخولها ، و بالاصطلاء بسعيرها { وَبِئْسَ المصير } مصير هؤلاء الكافرين .
قال الجمل : وقوله : { النار } خبر مبتدأ محذوف ، كأن سائلا سأل فقال : وما الأشر ؟ فقيل : النار ، أى : هو النار . وحينئذ فالوقف على ذلكم ، أو على النار .
ويصح أن يكون لفظ النار مبتدأ ، والخبر : وعدها الله ، وعلى هذا فالوقف على : كفروا . . .
ثم قال : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي : وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله ، وأنه لا إله إلا هو ، وأن رسله الكرام حق وصدق ، { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي : يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن ، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء ! { قُلْ } أي : يا محمد لهؤلاء . { أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا{[20414]} } أي : النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا ، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم ، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم .
وقوله : { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : وبئس النار منزلا ومقيلا ومرجعا وموئلا ومقاما ، { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذَلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا تُتلى على مشركي قريش العابدين من دون الله ما لم ينزل به سلطانا آياتُنا يعني : آيات القرآن ، بَيّناتٍ يقول : واضحات حججها وأدلتها فيما أنزلت فيه . تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ كَفَرُوا المُنْكَرَ يقول : تتبين في وجوههم ما ينكره أهل الإيمان بالله من تغيرها ، لسماعهم بالقرآن .
وقوله : يَكادُونَ يَسْطُونَ بالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا يقول : يكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم آيات كتاب الله من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لشدّة تكرّههم أن يسمعوا القرآن ويُتْلى عليهم .
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله يَسْطُونَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَكادُونَ يَسْطُونَ يقول : يبطشون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يَكادُونَ يَسْطُونَ يقول : يقعون بمن ذكرهم .
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : يَكادُونَ يَسْطُونَ بالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قال : يكادون يقعون بهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَكادُونَ يَسْطُونَ قال : يبطشون كفار قريش .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يَكادُونَ يَسْطُونَ بالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا يقول : يكادون يأخذونهم بأيديهم أخذا .
وقوله : قُلْ أفأُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مِنْ ذَلِكُم يقول : أفأنبئكم أيها المشركون بأكره إليكم من هؤلاء الذين تتكرّهون قراءتهم القرآن عليكم ، هي النّارُ وعدها الله الذين كفروا . وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقول : إن المشركين قالوا : والله إن محمدا وأصحابه لشرّ خلق الله فقال الله لهم : قل أفأنبئكم أيها القائلون هذا القول بشرّ من محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أنتم أيها المشركون الذين وعدهم الله النار . ورفعت «النار » على الابتداء ، ولأنها معرفة لا تصلح أن ينعت بها الشرّ وهو نكرة ، كما يقال : مررت برجلين : أخوك وأبوك ، ولو كانت مخفوضة كان جائزا وكذلك لو كان نصبا للعائد من ذكرها في وعدها وأنت تنوي بها الاتصال بما قبلها . يقول تعالى ذكره : فهؤلاء هم أشرار الخلق لا محمد وأصحابه . )
وقوله : وَبِئْسَ المَصِيرُ يقول : وبئس المكان الذي يصير إليه هؤلاء المشركون بالله يوم القيامة .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا } من القرآن . { بينات } واضحات الدلالة على العقائد الحقية والحكام الإلهية . { تعرف في وجوه الذين كفروا والمنكر } الإنكار لفرط نكيرهم للحق وغيظهم لأباطيل أخذوها تقليدا ، وهذا منتهى الجهالة وللإشعار بذلك وضع الذين كفروا موضع الضمير أو ما يقصدونه من الشر { يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا } يثبون ويبطشون بهم . { قل أفأنبئكم بشر من ذلكم } من غيظكم على التالين وسطوتكم عليهم ، أو مما أصابكم من الصخر بسبب ما تلوا عليكم . { النار } أي هو النار كأنه جواب سائل قال : ما هو ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره : { وعدها الله الذين كفروا } وقرئ بالنصب على الاختصاص وبالجر بدلا من شر فتكون الجملة استئنافا كما إذا رفعت خبرا أو حالا منها { وبئس المصير } النار .
والضمير في { عليهم } عائد على كفار قريش ، والمعنى أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن من النبي عليه السلام أو من أحد من أصحابه وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم والدعاء إلى التوحيد عرفت المساءة في وجوههم والمنكر من معتقدهم وعداوتهم وأنهم يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتالي ، والمعنى أنهم { يكادون يسطون } دهرهم أجمع ، وأما في الشاذ من الأوقات فقد سطا بالتالين نحو ما فعل بعبد الله بن مسعود وبالنبي عليه السلام حين أغاثه ، وحل الأمر أبو بكر ، وبعمر حين أجاره العاصي بن وائل وأبي ذر وغير ذلك ، والسطو : إيقاع بمباطشة أو أمر بها ، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع { أأنبئكم } أي أخبركم { بشر من ذلكم } والإشارة ب { ذلك } إلى السطو ثم ابتدأ ينبىء كأن قائلاً قال له وما هو قال { النار } أي نار جهنم ، وقوله { وعدها الله الذين كفروا } ، يحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعدهم بالنار فيكون الوعد في الشر ونحو ذلك لما نص عليه ، ولم يجىء مطلقاً ، ويحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعد النار بأن يطعمها الكفار فيكون الوعد على بابه إذ الذي يقتضيه تسرعها إلى الكفار وقولها هل من مزيد{[8432]} ونحوه أن ذلك من مسارها ، و { المصير } مفعل من صار إذا تحول من حال إلى حال ع ، ويقتضي كلام الطبري في هذه الآية أن الإشارة ب { بذلكم } هي إلى أصحاب محمد التالين ثم قال : ألا أخبركم بأكره إليكم من هؤلاء أنتم الذين وعدتم النار{[8433]} وأسند نحو هذا القول إلى قائل لم يسمه وهذا كله ضعيف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات} يعني: واضحات {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} ينكرون القرآن أن يكون من الله عز وجل {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا} يقول: يكادون يقعون بمحمد صلى الله عليه وسلم من كراهيتهم للقرآن وقالوا: ما شأن محمد وأصحابه أحق بهذا الأمر منا... فأنزل الله عز وجل {قل} لهم يا محمد: {أفأنبئكم بشر من ذلكم النار} يعنى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه {وعدها الله الذين كفروا} من وعده الله النار وصار إليها، يعني: الكفار، فهم شرار الخلق {وبئس المصير}، النار حين يصيرون إليها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا تُتلى على مشركي قريش العابدين من دون الله ما لم ينزل به سلطانا "آياتُنا "يعني: آيات القرآن، "بَيّناتٍ" يقول: واضحات حججها وأدلتها فيما أنزلت فيه، "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ كَفَرُوا المُنْكَرَ" يقول: تتبين في وجوههم ما ينكره أهل الإيمان بالله من تغيرها، لسماعهم بالقرآن.
وقوله: "يَكادُونَ يَسْطُونَ بالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا" يقول: يكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم آيات كتاب الله من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، لشدّة تكرّههم أن يسمعوا القرآن ويُتْلى عليهم...
عن ابن عباس، قوله: "يَكادُونَ يَسْطُونَ" يقول: يقعون بمن ذكرهم...
[عن] الضحاك يقول في قوله: "يَكادُونَ يَسْطُونَ بالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا" يقول: يكادون يأخذونهم بأيديهم أخذا.
وقوله: "قُلْ أفأُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مِنْ ذَلِكُم" يقول: أفأنبئكم أيها المشركون بأكره إليكم من هؤلاء الذين تتكرّهون قراءتهم القرآن عليكم، هي النّارُ وعدها الله الذين كفروا. وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقول: إن المشركين قالوا: والله إن محمدا وأصحابه لشرّ خلق الله، فقال الله لهم: قل أفأنبئكم أيها القائلون هذا القول بشرّ من محمد صلى الله عليه وسلم؟ أنتم أيها المشركون الذين وعدهم الله النار... وقوله: "وَبِئْسَ المَصِيرُ" يقول: وبئس المكان الذي يصير إليه هؤلاء المشركون بالله يوم القيامة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله:"وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ" يحتمل الآيات: الحجج والبراهين، ويحتمل: القرآن المنزل عليه.
"تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ": الإنكار؛ آثروا العناد، والرد لآياته، والكراهية والبغض له.
قوله تعالى: "يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا "يخبر عن سفههم وشدة تعنتهم وعتوهم عند تلاوة الآيات عليهم، وإقامة الحجج عليهم، حيث قال: "يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ"... قَالَ الْقُتَبِيُّ: "يَسْطُونَ"، أي: يتناولونهم بالمكروه من الشتم والضرب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالسطوة: إظهار الحال الهائلة للإخافة، والمعنى إن هؤلاء الكفار إذا سمعوا آيات الله تتلى عليهم، قاربوا أن يوقعوا بمن يتلوها المكروه. والإنسان يخاف سطوات الله ونقماته. والسطوة والاستطالة والبطشة نظائر في اللغة. والمعنى إن هؤلاء الكفار إذا سمعوا آيات الله تتلى عليهم، قاربوا أن يوقعوا بمن يتلوها المكروه. ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله) "قل "يا محمد "أفأنبؤكم بشر من ذلكم" أي بشر من اعتدائكم على التالي لآيات الله. وقيل: بشر عليكم مما يلحق التالي منهم، ثم ابتدأ فقال: "النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير" وقيل التقدير: كأن قائلا قال: ما ذلك الشر؟ فقيل "النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير" أي بئس الموضع.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لِسَمَاعِ الخطاب أَثّرٌ في القلوبِ من الاستبشارِ والبهجة، أو الإنكار والوحشةِ. ثم ما تخامره السرائرُ يلوحُ على الأسِرّةِ في الظاهر؛ فكانت الآياتُ عند نزولِها إذا تُلِيَتْ على الكافر يلوح على وجوهِهم دُخَانُ ما تنطوي عليه قلوبُهم من ظلماتِ التكذيب، فما كان يقع عليهم طَرْفٌ إلاَّ نَبَّأ عن جحودهم، وعادت إلى القلوب النُّبُوءَةُ عن إقلاعهم. ثم أخبر أنَّ الذي هم بصَدَدِه في الآخرةِ من أليم العقوبةِ شرٌّ بكل وجهٍ لهم مِمَّا يعود إلى الرائين لهم عند شهودهم. وإنّ المناظِرَ الوضيئة للرائين مُبْهِجةٌ، والمناظِرَ المُنْكَرَة للناظرين إليها موحِشَة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{المنكر}: الفظيع من التجهم والبسور، أو الإنكار... والسطو: الوثب والبطش. وقرىء: {النارُ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنّ قائلاً قال: ما هو؟ فقيل: النار، أي: هو النار. وبالنصب على الاختصاص. وبالجرّ على البدل من {بِشَرٍّ مّن ذلكم}: من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم، أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمعنى أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن من النبي عليه السلام أو من أحد من أصحابه، وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم والدعاء إلى التوحيد، عرفت المساءة في وجوههم، والمنكر من معتقدهم وعداوتهم،وأنهم يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتالي، والمعنى أنهم {يكادون يسطون} دهرهم أجمع، وأما في الشاذ من الأوقات فقد سطا بالتالين نحو ما فعل بعبد الله بن مسعود وبالنبي عليه السلام حين أغاثه وحل الأمر أبو بكر، وبعمر حين أجاره العاصي بن وائل وأبي ذر وغير ذلك، والسطو: إيقاع بمباطشة أو أمر بها.
ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع {أأنبئكم} أي أخبركم {بشر من ذلكم} والإشارة ب {ذلك} إلى السطو ثم ابتدأ ينبىء كأن قائلاً قال له وما هو قال {النار} أي نار جهنم، وقوله {وعدها الله الذين كفروا}، يحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعدهم بالنار فيكون الوعد في الشر ونحو ذلك لما نص عليه، ولم يجىء مطلقاً، ويحتمل أن يكون أراد أن الله تعالى وعد النار بأن يطعمها الكفار فيكون الوعد على بابه إذ الذي يقتضيه تسرعها إلى الكفار وقولها هل من مزيد...
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} يعني من تقدم ذكره وهذه الآيات هي القرآن، ووصفها بأنها بينات لكونها متضمنة للدلائل العقلية وبيان الأحكام، فبين أنهم مع جهلهم إذا نبهوا على الأدلة وعرضت عليهم المعجزة ظهر في وجوههم المنكر، والمراد دلالة الغيظ والغضب.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{يسطون} من السطوة وهي سرعة البطش...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي: وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله، وأنه لا إله إلا هو، وأن رسله الكرام حق وصدق، {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي: يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء! {قُلْ} أي: يا محمد لهؤلاء. {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم. وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: وبئس النار منزلا ومقيلا ومرجعا وموئلا ومقاما، {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر اعترافهم بما لا يعرف بنقل ولا عقل، ذكر إنكارهم لما لا يصح أن ينكر فقال: {وإذا تتلى} أي على سبيل التجديد والمتابعة من أيّ تالٍ كان {عليهم آياتنا} أي المسموعة على ما لها من العظمة والعلو، حال كونها {بينات} لا خفاء بها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع {تعرف} بالفراسة في وجوههم... {المنكر} أي الإنكار الذي هو منكر في نفسه لما حصل لهم من الغيظ؛ ثم بين ما لاح في وجوههم فقال: {يكادون يسطون} أي يوقعون السطوة بالبطش والعنف {بالذين يتلون عليهم آياتنا} أي الدالة على أسمائنا الحسنى، وصفاتنا العلى، القاضية بوحدانيتنا، مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا، لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها.
ولما استحقوا -بإنكارهم وما أرادوه من الأذى لأولياء الله- النكال، تسبب عنه إعلامهم بما استحقوه، فقال مؤذناً بالغضب بالإعراض عنهم، آمراً له صلى الله عليه وسلم بتهديدهم: {قل أفأنبئكم} أي أتعون فأخبركم خبراً عظيماً {بشر من ذلكم} الأمر الكبير من الشر الذي أردتموه بعباد الله التالين عليكم للآيات وما حصل لكم من الضجر من ذلك،...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} أي هم من شدة حنقهم على من يتلونه من المؤمنين يكادون يثبون عليهم ويبطشون بهم ويبسطون أيديهم وألسنتهم بالسوء. وقصارى ذلك: إنهم قد بلغوا من الجهالة حدا لا ينفع فيه العلاج، ولا تنفع فيه البينات والحجج. ثم ذكر لهم أن هذا الغيظ الكمين في نفوسهم ليس بشيء إذا قيس بما سيلاقونه من العذاب يوم القيامة فقال: {قل أفأنبئكم بشر من ذلكم}... {النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير} أي النار وعذابها أشق وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، ومما تنالون منهم إن نلتم بإرادتكم واختياركم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ذكر ذلك بقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} التي هي آيات الله الجليلة، المستلزمة لبيان الحق من الباطل، لم يلتفتوا إليها، ولم يرفعوا بها رأسا، بل {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} من بغضها وكراهتها، ترى وجوههم معبسة، وأبشارهم مكفهرة، {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي: يكادون يوقعون بهم القتل والضرب البليغ، من شدة بغضهم وبغض الحق وعداوته، فهذه الحالة من الكفار بئس الحالة، وشرها بئس الشر، ولكن ثم ما هو شر منها، حالتهم التي يؤولون إليها، فلهذا قال: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فهذه شرها طويل عريض، ومكرها وآلامها تزداد على الدوام...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأعجب شيء أنهم وهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا، وما ليس لهم به علم. لا يستمعون لدعوة الحق، ولا يتلقون الحديث عنها بالقبول. إنما تأخذهم العزة بالإثم، ويكادون يبطشون بمن يتلون عليهم كلام الله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا).. إنهم لا يناهضون الحجة بالحجة، ولا يقرعون الدليل بالدليل إنما هم يلجأون إلى العنف والبطش عندما تعوزهم الحجة ويخذلهم الدليل. وذلك شأن الطغاة دائما يشتجر في نفوسهم العتو، وتهيج فيهم روح البطش، ولا يستمعون إلى كلمة الحق لأنهم يدركون أن ليس لهم ما يدفعون به هذه الكلمة إلا العنف الغليظ! ومن ثم يواجههم القرآن الكريم بالتهديد والوعيد: (قل: أفأنبئكم بشر من ذلكم؟) بشر من ذلكم المنكر الذي تنطوون عليه، ومن ذلك البطش الذي تهمون به.. (النار).. وهي الرد المناسب للبطش والمنكر (وبئس المصير)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا}.
عطف على جملة {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً} [الحج: 71] لبيان جُرم آخر من أجرامهم مع جُرم عبادة الأصنام، وهو جرم تكذيب الرسول والتكذيب بالقرآن.
والآيات هي القرآن لا غيره من المعجزات لقوله {وإذا تتلى عليهم}.
والمنكر: إما الشيء الذي تُنكره الأنظار والنفوس فيكون هنا اسماً، أي دلائل كراهيتهم وغضبهم وعزمهم على السوء، وإما مصدر ميمي بمعنى الإنكار كالمُكْرم بمعنى الإكرام. والمَحْملان آيلان إلى معنى أنهم يلوح على وجوههم الغَيْظ والغضب عندما يُتلى عليهم القرآن ويُدعون إلى الإيمان. وهذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الإنكار والغيظ حتى تجاوز أثرُه بواطنهم فظهر على وجوههم. كما في قوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} [المطففين: 24] كناية عن وفرة نعيمهم وفرط مسرّتهم به. ولأجل هذه الكناية عدل عن التصريح بنحو: اشتدّ غيظهم، أو يكادون يتميزون غيظاً، ونحو قوله: {قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} [النحل: 22].
وتقييد الآيات بوصف البينات لتفظيع إنكارها إياها، إذ ليس فيها ما يعذر به منكروها.
والخطاب في قوله {تعرف} لكلّ من يصلح للخطاب بدليل قوله {بالذين يتلون عليهم آياتنا}.
والتعبير ب {الذين كفروا} إظهار في مقام الإضمار. ومقتضى الظاهر أن يكون {تعرف في وجوه الذين كفروا}، أي وجوه الذين يعبدون من دون الله ما لم يُنزّل به سلطاناً، فخولف مقتضى الظاهر للتسجيل عليهم بالإيماء إلى أن علّة ذلك هو ما يبطنونه من الكفر.
والسُّطُوّ: البطش، أي يقاربون أن يصولوا على الذين يتلون عليهم الآيات من شدّة الغضب والغيظ من سماع القرآن.
{والذين يتلون} يجوز أن يكون مراداً به النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق اسم الجمع على الواحد كقوله: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} [الفرقان: 37]، أي كذّبوا الرسول.
ويجوز أن يراد به من يقرأ عليهم القرآن من المسلمين والرسول، أما الذين سطوا عليهم من المؤمنين فلعلهم غير الذين قرأوا عليهم القرآن، أو لعلّ السطو عليهم كان بعد نزول هذه الآية فلا إشكال في ذكر فعل المقاربة.
وجملة {يكادون يسطون} في موضع بدل الاشتمال لجملة {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} لأن الهمّ بالسطو مما يشتمل عليه المنكر.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير}
استئناف ابتدائي يفيد زيادة إغاظتهم بأن أمرَ الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم ما يفيد أنهم صائرون إلى النار.
والتفريع بالفاء ناشىء من ظهور أثر المنكر على وجوههم فجعل دلالة ملامحهم بمنزلة دلالة الألفاظ. ففرع عليها ما هو جواب عن كلام فيزيدهم غيظاً.
ويجوز كون التفريع على التلاوة المأخوذة من قوله {وإذا تتلى عليهم آياتنا}، أي اتل عليهم الآيات المنذرة والمبيّنة لكفرهم، وفرع عليها وعيدهم بالنار
والاستفهام مستعمل في الاستئذان، وهو استئذان تهكمي لأنه قد نبأهم بذلك دون أن ينتظر جوابهم.
وشرّ: اسم تفضيل، أصله أشرّ: كثر حذف الهمزة تخفيفاً، كما حذفت في خير بمعنى أخير.
والإشارة ب {ذلكم} إلى ما أثار مُنكَرهم وحفيظتهم، أي بما هو أشد شرّاً عليكم في نفوسكم مما سمعتموه فأغضبكم، أي فإن كنتم غاضبين لما تُلي عليكم من الآيات فازدادوا غضباً بهذا الذي أنَبّئكم به.
وقوله {النّار} خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله {بشر من ذلكم}. والتقدير: شرّ من ذلكم النّارُ.
فالجملة استئناف بياني، أي إن سألتم عن الذي هو أشدّ شراً فاعلموا أنه النار.
وجملة {وعدها الله} حال من النّار، أو هي استئناف.
والتعبير عنهم بقوله: {الذين كفروا} إظهار في مقام الإضمار، أي وعدها الله إياكم لكفركم.
{وبئس المصير} أي بئس مصيرهم هي، فحرف التعريف عوض عن المضاف إليه، فتكون الجملة إنشاء ذمّ معطوفة على جملة الحال على تقدير القول. ويجوز أن يكون التعريف للجنس فيفيد العموم، أي بئس المصير هي لمن صار إليها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن هؤلاء الذين سيطرت عليهم الأوهام، وتحكمت فيهم الأهواء والتقليد الأعمى لا يلقون آيات الله تعالى بما يستحق من عناية، بل يقابلون بالاستنكار والسخرية، فلا يهتدون ولا يفتحون قلوبهم لدخول الهداية.. إن حال هؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا دليل عندهم يسوغ عبادته إلا أن تكون الأوهام التي تضلل الأفهام – من شأنهم ألا يستمعوا إلى الحق، بل يعرضون عنه إعراضا، ولذا قال عز من قائل: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر}... إذ لا يتلقون الحق بالتفهم والتدبر، بل يبادرون برده ردا عنيفا مستكبرين، قد غلظت أعناقهم، وتجهمت وجوههم {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} السطو: الوثب للفتك بالذين يتلون، كما حاولوا أن يسطوا بأبي بكر الصديق، وكما حاول الجاهلون بالسطو على المستضعفين من المؤمنين، وقال تعالى: {يكادون يسطون}، مع أنهم سطوا بالفعل، ونقول: إن ذلك حكم عام، والسطو الفعلي كان من بعضهم، لا من جميعهم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ووصف كتاب الله ما يكون عليه حال المشركين والمنافقين عندما تتلى عليهم آيات الذكر الحكيم، التي تكشف عن سرائرهم الستار، وتزعزع بحججها البالغة كل ما كان راسخا عندهم من باطل المعتقدات وسخيف الآراء والأفكار، حتى أنهم لتعلو وجوههم علامات الاستنكار ومظاهر التهجم، ولتكاد أيديهم تمتد إلى المومنين بالبطش والسطو والتهجم، لهول ما يقرع أسماعهم من إنذار ووعيد، وما ينتظرهم وأمثالهم من العذاب الشديد،...
تصور هذه الآية حال الكفار عند سماعهم لكتاب الله وآياته من رسول الله أو صحابته، فإذا سمعوها {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} أي: الكراهية تراها وتقرأها في وجوههم عبوسا وتقطيبا وغضبا وانفعالا، ينكر ما يسمعون، ويكاد أن يتحول الانفعال إلى نزوع غضبي يفتك بمن يقرأ القرآن لما بداخلهم من شر وكراهية لما يتلى عليهم...
لذلك قال تعالى بعدها: {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} والسطو: الفتك والبطش، لأن العمل الوجداني الذي يشغل نفوسهم يظهر أولا على وجوههم انفعالا ينبئ بشيء يريدون إيقاعه بالمؤمنين، ثم يتحول الوجدان إلى نزوع حركي هو الفتك والبطش...
{قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا} يعني: مالي أراكم مغتاظين من آيات الله كارهين لها الآن، والأمر ما يزال هينا؟ أمجرد سماع الآيات يفعل بكم هذا كله؟ فما بالكم حينما تباشرون النار في الآخرة، الغيظ الذي تظنونه شرا فتسطون علينا بسببه أمر بسيط، وهناك أشر منه ينتظركم {النار وعدها الله الذين كفروا}... الوعد دائما يكون بالخير، أما هنا فاستعملت على سبيل الاستهزاء بهم والتقليل من شأنهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} دون لبس أو غموض، وبوضوح يطل على الحقيقة، فإذا بالكافرين، بدلاً من الانفتاح على تلك الآيات ونتيجة العقدة النفسية الخانقة التي تضغط عليهم، يقفون حيارى بين إشراق الحقيقة على الفكر والروح وبين ظلمات ماضيهم وواقعهم، فيحاولون الهرب من هذا الصراع الداخلي بمواجهة المؤمنين الذين أحرجوهم وحاصروهم بالحقّ القادم من وحي الله، فإذا كانت المواجهة، برزت في ملامحهم هذه الصورة، {تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ} الذي يستبطن الرغبة في العدوان والتدمير، ويعبّر عن الحقد والكراهية،... {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ} الذي تحسبونه شرّاً، لتوازنوا بينه وبين ما يعدكم الله به يوم القيامة من عذاب، لتتخذوا الموقف على ضوء دراسة واعية تقارب بين موقفين: ترك عبادة ما تدعون من دون الله، أو النار، لتختاروا أهونهما على مستوى المصير، {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} جزاءً على كفرهم الذي لا يرجعون فيه إلى حجة ولا ينطلقون فيه من موقع علم، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الذي اختاروه لأنفسهم اتباعاً للأهواء والشهوات، في ما تقودهم إليه من الانحراف عن خط الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وهنا يسفر التناقض بين المنطق القرآني القويم وتعصّب الجاهلية الذي لا يرضخ للحقّ ولا يفتح قلبه لندائه الرحيم، فما تليت عليهم آيات ربّهم إلاّ ظهرت علائم الاستكبار عنها في وجوههم حتّى إنّهم (يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا) أي كأنّهم يريدون مهاجمة الذين يتلون عليهم آيات الله عز ّوجلّ وضربهم بقبضات أيديهم، تنفيساً عن التكبّر البغيض في قرارة أنفسهم...
ولو فكّر الإنسان منطقيّاً لما أغضبه حديث لا يرضاه، ولما ثار مقطّباً متهيّئاً للهجوم على محدّثه مهما خالفه. بل يحاول ردّه ببيان منطقي. وانفعال المشركين على النحو المتقدّم دليل على انهيار تفكيرهم وغلبة الجهل والباطل عليهم...
وقد أمر القرآن المجيد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب هؤلاء المتغطرسين هاتفاً (قل أفأنبئكم بشرّ من ذلكم النّار). أي إن زعمتم أنّ هذه الآيات البيّنات شرّ، لأنّها لا تنسجم مع أفكاركم المنحرفة، فإنّني اُخبركم بما هو شرّ منها، ألا وهو عقاب الله الأليم، النّار التي أعدّها الله جزاءً (وعدها الله الذين كفروا)، (وبئس المصير). أجل، إنّ النّار المحرقة لأسوأ مكان للمتشدّدين الحادّي المزاج الذين أحرقت نار عصبيّتهم ولجاجهم قلوبهم، لأنّ العقاب الإلهي يتناسب دائماً مع كيفية الذنب والعصيان...