وقوله - تعالى - : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } تذييل مؤكد لما قبله . والدين : يطلق بمعنى العقيدة التى يعتقدها الإِنسان يدين بها ، وبمعنى الملة التى تجرى أقواله وأفعاله على مقتضاها ، وبمعنى الحساب والجزاء . ومنه قولهم : دنت فلانا بما صنع ، أي : جازيته على صنيعه .
واللفظ هنا شامل لكل ذلك ، أي : لكم - أيها الكافرون - دينكم وعقيدتكم التى تعتقدونها ، ولا تتجاوزكم إلى غيركم من المؤمنين الصادقين ، فضلا عن رسولهم ومرشدهم صلى الله عليه وسلم ، ولي دينى وعقيدتى التى هى عقيدة التوحيد ، والتى بايعنى عليها أتباعي المؤمنون ، وهي مقصورة علينا ، وأنتم محرومون منها ، وسترون سوء عاقبة مخالفتكم لي .
وقدم - سبحانه - المسند على المسند إليه ، لإِفادة القصد والاختصاص ، فكأنه قيل : لكم دينكم لا لغيركم ، ولى دينى لا لغيرى ، والله - تعالى - هو أحكم الحاكمين بينى وبينكم .
وبذلك نرى السورة الكريمة قد قطعت كل أمل توهم الكافرون عن طريقه الوصول إلى مهادنة النبى صلى الله عليه وسلم ، وإلى الاستجابة لشيء من مطالبهم الفاسدة ، وإنما هو صلى الله عليه وسلم بريء براءة تامة منهم ومن معبوداتهم وعباداتهم .
وقال البخاري : يقال : { لَكُمْ دِينَكُمْ } : الكفر ، { وَلِيَ دِينِ } : الإسلام . ولم يقل : " ديني " ؛ لأن الآيات بالنون ، فحذف الياء ، كما قال : { فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] و { يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] وقال غيره : لا أعبد ما تعبدون الآن ، ولا أجيبكم فيما بقي من عمري ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، وهم الذين قال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [ المائدة : 64 ] . انتهى ما ذكره . {[30656]}
ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد ، كقوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [ الشرح : 5 ، 6 ] وكقوله : { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } [ التكاثر : 6 ، 7 ] وحكاه بعضهم - كابن الجوزي ، وغيره - عن ابن قتيبة ، فالله أعلم . فهذه ثلاثة أقوال : أولها ما ذكرناه أولا . الثاني : ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد : { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } في الماضي ، { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } في المستقبل . الثالث : أن ذلك تأكيد محض .
وثم قول رابع ، نصره أبو العباس بن تَيمية في بعض كتبه ، وهو أن المراد بقوله : { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } نفى الفعل ؛ لأنها جملة فعلية ، { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } نفى قبوله لذلك بالكلية ؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد ، فكأنه نفى الفعل ، وكونه قابلا لذلك ، ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا . وهو قول حسن أيضا ، والله أعلم .
وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } على أن الكفر كله ملة واحدة تورثه{[30657]} اليهود من النصارى ، وبالعكس ؛ إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به ؛ لأن الأديان - ما عدا الإسلام - كلها كالشيء الواحد في البطلان . وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس ؛ لحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتوارث أهل ملتين شتى " . {[30658]}
وقوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } يقول تعالى ذكره : لكم دينكم فلا تتركونه أبدا ؛ لأنه قد خُتِمَ عليكم ، وقُضِي أن لا تنفكوا عنه ، وأنكم تموتون عليه ، ولي دينِ الذي أنا عليه ، لا أتركه أبدا ، لأنه قد مَضى في سابق علم الله أني لا أنتقل عنه إلى غيره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } قال : للمشركين . قال : واليهود لا يعبدون إلا الله ، ولا يشركون ، إلا أنهم يكفرون ببعض الأنبياء ، وبما جاءوا به من عند الله ، ويكفرون برسول الله ، وبما جاء به من عند الله ، وقتلوا طوائف الأنبياء ظلما وعُدْوانا ، قال : إلا العصابة التي بَقُوا ، حتى خرج بختنصر ، فقالوا : عُزَيرٌ ابن الله ، دعا الله ولم يعبدوه ، ولم يفعلوا كما فعلت النصارى ، قالوا : المسيح ابن الله وعبدوه .
وكان بعض أهل العربية يقول : كرّر قوله : { لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ } وما بعده على وجه التوكيد ، كما قال : { فإنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا إنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا } ، وكقوله : { لَتَروُنّ الجَحِيمَ ثُمّ لَترُوَنّها عَينَ الْيَقِينِ } .
وزاد الأمر بياناً وتبرياً منهم ، وقوله : { لكم دينكم ولي دين } وفي هذا المعنى الذي عرضت قريش نزل أيضاً : { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون }{[12010]} [ الزمر : 64 ] وقرأ أبو عمرو «ولي ديني » ساكنة الياء ، من لي ، ونصبها الباقون بخلاف كل واحد منهم ، والقراءتان حسنتان ، وقرأ أبو عمرو : «عابد » و «عابدون » ، والباقون بفتح العين ، وهاتان حسنتان أيضاً ، ولم تختلف السبعة في حذف الياء من دين ، وقرأ سلام ويعقوب : «ديني » بياء في الوصل والوقف ، وقال بعض العلماء : في هذه الألفاظ مهادنة ما ، وهي منسوخة بآية القتال .