نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ} (6)

ولما كان ذلك كله ، وبدأ النفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه صلى الله عليه وسلم إيذاناً بالاهتمام ببراءته منهم ، أنتج قطعاً مقدماً لما يتعلق بهم على وجه اختصاصهم به تأكيداً لما صرح به ما مضى من براءته منهم : { لكم } أي خاصة { دينكم } أي الذي تعلمون أنه لا أصل له يثبت عليه ، ولا دليل يرجع بوجه إليه ، لا أشارككم فيه بوجه ، ولا ترجعون عنه بوجه ؛ بل تموتون عليه موتاً لبعضكم حتف الأنف ، والآخرين قتلاً على يدي بالسيف . { ولي } أي خاصة { دين * } من واسع روضة الإسلام إلى أعلى مقام : مقام الإيقان والإحسان ، وأنتم تعلمون - لو جردتم عقولكم عن الهوى ، وأخلصتم أفكاركم من الحمية والإبا - أنه كله دليل وفرقان ونور وحجة وبرهان ، لا تشاركونني فيه بوجه ، ولا تقدرون على ردّي عنه أصلاً ، فكانت هذه علماً من أعلام النبوة من حيث إنه مات منهم ناس كثير بعد ذلك على الكفر ، وأتم الله له هذا الدين ، فصدق سبحانه فيما قال ، وثبت مضمون الكوثر بأكمل استدلال ، وأما من آمن بعد ذلك فليس مراداً ؛ لأنه لم يكن عريقاً في وصف الكفران ، ولا راسخاً في الضلال والطغيان ، فأسعده وصف الإسلام والإيمان ، وساق الجمل كلها غير مؤكد إشارة إلى أنها من الوضوح في حد لا خفاء به أصلاً ، ولا شك أن آخرها الذي هو اختصاص كل بدينه هو أولها الذي أفاد أنه لا يعبد معبودهم ، ولا يعبدون معبوده ، فصار آخرها أولها ، ومفصلها موصلها ، هذا هو الذي دل عليه السياق ، وليس فيه إذن في الكفر ، ولا منع عن الجهاد ليحتاج إلى نسخ .

ختام السورة:

فكانت هذه علماً من أعلام النبوة من حيث إنه مات منهم ناس كثير بعد ذلك على الكفر ، وأتم الله له هذا الدين ، فصدق سبحانه فيما قال ، وثبت مضمون الكوثر بأكمل استدلال ، وأما من آمن بعد ذلك فليس مراداً ؛ لأنه لم يكن عريقاً في وصف الكفران ، ولا راسخاً في الضلال والطغيان ، فأسعده وصف الإسلام والإيمان ، وساق الجمل كلها غير مؤكد إشارة إلى أنها من الوضوح في حد لا خفاء به أصلاً ، ولا شك أن آخرها الذي هو اختصاص كل بدينه هو أولها الذي أفاد أنه لا يعبد معبودهم ، ولا يعبدون معبوده ، فصار آخرها أولها ، ومفصلها موصلها ، هذا هو الذي دل عليه السياق ، وليس فيه إذن في الكفر ، ولا منع عن الجهاد ليحتاج إلى نسخ . ومن أعظم دلائل إعجازها وجمعها للمعاني في إشارتها وإيجازها أن حاصلها قطع رجاء أهل الكفران ، من أن يقاربهم النبي صلى الله عليه وسلم في أن يعدل بربه أحداً في زمن من الأزمان ، وذلك من أعظم مقاصد المناظرة لها في رد الآخر على أول الأنعام ؛ لأنها السادسة في العد من الأول ، كما أن هذه السادسة في العد من الآخر{ أغير الله اتخذ ولياً }[ الأنعام : 14 ] { أفغير الله ابتغي حكماً }[ الأنعام : 114 ] { أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء }[ الأنعام : 164 ] إلى غير ذلك من الآيات ، والفواصل والغايات ، هذا ما يتعلق بمعاني تراكيبها ونظومها على ما هي عليه وتراتيبها وسياقاتها وأساليبها . وكلماتها الخطية سبع وعشرون ، إلى أربع كلمات البسملة إحدى وثلاثون ، إلى أربعة ضمائر مستترة خمس وثلاثون ، إلى تسعة بارزة ، فتلك أربع وأربعون كلمة : الضمائر منها ثلاثة عشر هي مدة الإقامة بمكة المشرفة قبل الهجرة ؛ لأنها في الخفاء كالضمائر في خزائن السرائر ، ولا سيما الأربع الأول منها الموازية لضمائر الاستتار ، وغير الضمائر إحدى وثلاثون المناظر لها من السنين سنة إحدى وثلاثين ، وهي سنة قتل يزدجرد ملك الفرس أكفر الكفرة من أهل ذلك الزمان وأعتاهم ، وموافقة كلماتها في العدة لأحرف الكوثر مشيرة إلى أن اليسير من أتباعه صلى الله عليه وسلم أكثر وأكبر من كثير شانئيه وأضداده وحاسديه ، وقد دل على ذلك شاهد الوجود في يوم الفتح والمسلمون عشرة آلاف ، والكفار من قريش وممن حولهم لا يحصون كثرة ، وقد كان فعلهم في ذلك اليوم ما شهد به اعتذار حماس الذي كان يعد امرأته أن يخدمها بعض المسلمين في قوله وقد فر هارباً ولم يستطع أن يغلق وراءه ، بل قال لها : أغلقي بابي ، فقالت له : أين ما كانت تعدني به ؟ فقال :

إنك لو شهدت يوم الخندمه *** إذ فر صفوان وفر عكرمه

واستقبلتهم بالسيوف المسلمه *** يقطعن كل ساعد وجمجمه

ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه *** بهم تهيب خلفنا وهمهمه

لم تنطقي باللوم أدنى كلمه

هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوصاهم ألا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال . وهذا مع ما كان من أهل الإسلام حين قصدهم الكفار يوم الخندق ، والمشركون في عشرة آلاف ، وهم لا يبلغون ربعهم ، ولا مدد لهم ممن حولهم ، ولا ناصر إلا الله ؛ بل جاءتهم الأعداء كما قال الله تعالى :{ من فوقهم ومن أسفل منهم }[ الأحزاب : 10 ]{ وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً }[ الأحزاب : 22 ] ، وإلى هذا أيضاً أشار بلوغ عدد كلمات النصر خطيها واصطلاحيها ظاهرها ومستترها إلى عدد كلمات الكافرون الخطية ، فذلك رمز إلى أن أضعف أهل الإسلام لا يضعف عن مقاومة أهل الكفر وأرسخهم في كل صفة يريدها . والله هو الموفق .