التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ} (6)

بسم الله الرحمان الرحيم

{ قل يا أيها الكافرون( 1 ) لا أعبد ما تعبدون( 2 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد( 3 ) ولا أنا عابد ما عبدتم( 4 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد( 5 ) لكم دينكم ولي دين( 6 ) } [ 1-6 ] .

في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جاحدي رسالته بخطته بالنسبة لدينهم وعبادتهم . وبأن لهم إذا شاءوا أن يسيروا على نفس الخطة ، فهو يعبد غير ما يعبدون ، ويخضع لغير ما يخضعون ، ويتجه إلى غير ما يتجهون ، وهو مسؤول عن تبعة موقفه ، وهم مسؤولون عن تبعة موقفهم ، ولكل من الفريقين دينه الذي ارتضاه لنفسه .

وقد روي أن السورة نزلت بمناسبة مراجعة بعض زعماء قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ، وطلبهم التشارك في عبادة الآلهة ، فيصلي إلى آلهتهم ويصلون إلى إلهه ، ويحترم آلهتهم ويحترمون إلهه ، إلى أن يتحقق الفريقان أي الدينين خير فيتبعونه{[2549]} .

والرواية محتملة الصحة على ما تلهمه روح الآيات ، ويؤيدها آية سورة القلم : { ودوا لو تدهن فيدهنون } التي مر تفسيرها قبل في سياق السورة المذكورة .

على أن من المحتمل أيضا أن تكون نزلت بمناسبة موقف حجاجي بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار ، ظل هؤلاء معاندين مكابرين فيه فنزلت لإنهاء الموقف . وقد تكرر مثل ذلك في مواقف ومناسبات مماثلة كما جاء في آية سورة يونس هذه : { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } ، وفي آية سورة يونس هذه أيضا : { قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل } ، وفي آية سورة الكهف هذه : { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ 29 ] ، وفي آيات سورة سبأ هذه : { قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم } .

وقد يفسر هذا التوجيه أسلوب السورة من حيث خلوه من الحملة على عبادة الكفار الضالة . ولعلها استهدفت فيما استهدفته درء الأذى عن المسلمين المستضعفين الذين كان زعماء الكفار ينالونهم به ، وخاصة في أوائل عهد الدعوة حيث تدعوهم إلى الإنصاف ، فإن كانوا يريدون أن يثبتوا على دينهم ويرون ذلك من حقهم فعليهم أن يحترموا هذا للمسلمين أيضا .

ختام السورة:

مبدأ حرية التدين في النظام الإسلامي

ومع خصوصية الخطاب وزمنيته ، فالمتبادر أن السورة تضمنت مبدأ قرآنيا جليلا منذ عهد مبكر من الدعوة ، في تقرير حرية التدين والعبادة والدعوة إلى احترامها ، واستشعار الناس بشعور الإنصاف والعدل فيما بينهم في صددها ، باعتبار هذه المسألة مسألة وجدان ويقين وطمأنينة قلب وروح وانشراح صدر ، لا يجوز أن تكون معرضة لأي تأثير ، أو تابعة لأي اعتبار .

ومن الجدير بالذكر أن هذا المبدأ لم يقرر في هذه السورة فحسب ، أو في العهد المكي الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفا والمسلمون قلة مستضعفة ؛ بل قررته آيات القرآن المكي في مختلف أدوار التنزيل مرات كثيرة ، وبأساليب متنوعة ، كما يفهم من الآيات التي أوردناها آنفا ، ومن آيات سورة النمل هذه : { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين } ، ومن آيات سورة الأنبياء هذه : { قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين } ثم قررته آيات عديدة من القرآن المدني في مختلف أدوار التنزيل ، كذلك كما يفهم من آية سورة البقرة هذه : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } وآية سورة آل عمران هذه : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون64 } وآية سورة آل عمران هذه : { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد20 } ، وآية سورة النساء هذه : { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلون قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا90 } ، وآية سورة المائدة هذه : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير19 } ، وآيات سورة التوبة هذه : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين4 } ، و{ إلا الذين عاهدتهم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين7 } ، وآيات سورة الممتحنة هذه : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }/ وهكذا يكون هذا المبدأ من المبادئ المحكمة . وفي هذا ما فيه من بليغ التلقين ، وبعد المدى ، ومؤيدات الخلود للإسلام ومبادئه .

ولقد يرد أنه ورد في القرآن آيات كثيرة تدل على أن كفار العرب لم يكونوا ينكرون ربوبية الله ، ولم يكونوا منصرفين عن عبادته ودعائه بالمرة ، مثل ما جاء في آية سورة الزخرف هذه : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون } ، وفي آية سورة لقمان هذه : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } ، وإن في هذا ما يتناقض مع مضمون السورة . مع أن الشق الأول صحيح فليس هناك من تناقض . فقد كانوا يشركون مع الله غيره ، ويتخذون الأصنام رموزا لشركائهم فيسجدون لها ، ويقربون القرابين عندها ، وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ، ويعبدونهم ويدعونهم ، ولو ليكونوا شفعاءهم عند الله ، وفي هذا كفر صريح بحق الله وواجبه على خلقه ، وتناقض صريح بين ما يعبد النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو إليه وهو الله وحده لا شريك له ولا كفؤ له ولا ولد له ، وبين ما يعبدونه ويتجهون إليه ، وهذا هو المراد في آيات السورة كما هو المتبادر .

ونحن نعرف أنه يورد على هذا أقوال من جانب المسلمين وغير المسلمين على السواء . فإن كثيرا من علماء المسلمين ومفسري القرآن قالوا : إن الآيات التي تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاكتفاء بإنذار المشركين وهجرهم وتركهم وشأنهم وإعلانهم أنه ليس إلا منذر لهم ، وأنه ليس عليهم مسيطر ولا جبار أو التي تأمر بقتال المقاتلين للمسلمين منهم دون سواهم مما جاء في سور كثيرة مكية ومدنية مثل الآيات التالية في السور المكية .

1-{ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل } سورة يونس [ 108 ] .

2-{ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } سورة الحجر [ 94 ] .

3-{ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } سورة النحل [ 127 ] .

4-{ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين91 وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين } سورة النمل [ 91-92 ] .

5- { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا } سورة المزمل [ 10 ]

6-{ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصطير } سورة الغاشية ]21-22 ] .

ومثل الآيات التالية في السور المدنية :

1-{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } البقرة [ 190 ] .

2-{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } البقرة [ 193 ] .

3- { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } البقرة [ 256 ] .

4- { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } النساء [ 90 ] .

وأمثالها الكثير في السور المكية والمدنية قد نسخت بآيات سورة التوبة هذه : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزين الله وأن الله مخزي الكافرين2 وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم 5 } التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة . ثم بآية سورة التوبة [ 36 ] التي جاء فيها : { وقاتلوا المشركين كافة } والتي ينعتها بعض العلماء والمفسرين بآية السيف . وقد فسر كثير من مفسري القرآن وعلمائهم كلمة فتنة الواردة في آية سورة البقرة هذه : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين193 } بمعنى الشرك ، وقالوا : إنها توجب قتال المشركين حتى لا يبقى شرك ومشركون ، ويسود دين الله الإسلام .

ومما قاله المفسرون في سياق تفسير آية البقرة { لا إكراه في الدين } البقرة [ 256 ] : إن هذه الآية منسوخة بالنسبة للعرب المشركين دون غير العرب . وإن العرب المشركين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وإن غير العرب يقبل منهم الجزية دون السيف .

وأما من ناحية غير المسلمين فإن كثيرا من المبشرين والمستشرقين قالوا : إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يقف عند مبدأ { لكم دينكم ولي دين } الكافرون [ 6 ] إلا في ظروف ضعفه ، وإنه حالما قوي بعد الهجرة أخذ يقاتل الكفار ، ولم يكن يقبل من المشركين إلا الإسلام ، ومن الكتابيين إلا الاستسلام والجزية . واستمر على ذلك إلى النهاية ، وكان يغري المسلمين بالغنائم .

وشرح الموضوع على وجهه الحق الذي يتبادر من نصوص القرآن ووقائع السيرة النبوية كفيل بالإجابة على الطرفين .

إن القتال في الإسلام إنما شرع للدفاع عن حرية الدعوة والمسلمين ، ومقابلة الأذى والعدوان والصد ، إلى أن تضمن الحرية والسلامة للمسلمين ، والحرية والانطلاق للدعوة ، ويمتنع الأذى والعدوان على المسلمين والإسلام ، وظل هذا المبدأ محكما إلى النهاية .

وأول آيات وردت في هذا الصدد آيات سورة الحج هذه : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور38 أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } . ثم نزلت آيات سورة البقرة هذه : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين190 واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين194 } .

والأساس في هذه الآيات وتلك هو ذلك المبدأ ، وفيها صراحة أن المشركين كانوا يقاتلون المسلمين . وكانوا إلى هذا يفتنون المسلمين عن دينهم بالجبر والإكراه ، ويصدون عن سبيل الله ، ويعطلون سير الدعوة . ويضطرون المسلمين إلى الخروج من موطنهم مرغمين . وكل هذا سبب مشروع لقتالهم متسق مع ذلك المبدأ . وفي تأويل كلمة " الفتنة " بالشرك تجوّز كبير . فالفتنة هي إرغام المسلمين على الارتداد عن الإسلام الذي كان يمارسه زعماء المشركين في مكة ضد ضعفاء المسلمين . والدليل على ذلك آية سورة البروج هذه : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } ، وآية سورة النحل هذه { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } ، والكلمة في الآية الثانية من سلسة آيات البقرة [ 190-194 ] والتي هي في جملة { والفتنة أشد من القتل } البقرة [ 191 ] تعني نفس الشيء حينما يتروى فيها . ولا يصح في حال أن تؤول بالشرك . ونزول آية : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } البقرة [ 193 ] دليل قوي ؛ بل حاسم على أن معنى الآية هو قتال المعتدين إلى أن ينتهوا عن موقف العدوان وفتنة المسلمين ، وتغدو حرية الدعوة وحرية المسلمين في دينهم ودمائهم وأموالهم وحقوقهم مضمونة . وقد جاء في سورة الأنفال آية مثلها تقريبا وهي : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير39 } ، ولعل في مقطع هذه الآية الأخير قرينة أقوى على أن المقصد من جملة " فإن انتهوا " الانتهاء من موقف العدوان وفتنة المسلمين .

ومن الأدلة اليقينية على أن جملة { فإن انتهوا } الأنفال [ 93 ] في هذه الآية وفي آية سورة البقرة [ 193 ] ليست الانتهاء بالإسلام فقط ، وإن من الممكن أن يكون بوقف حالة الحرب بالصلح أيضا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش في السنة الهجرية السادسة حيث أنهى هذا الصلح حالة الحرب ووقف القتال ضد قريش . والآيتان نزلتا قبل هذا الصلح على الأرجح . ومما يسوغ تخمينه بقوة أن آية البقرة نزلت قبل وقعة بدر ، وآية الأنفال نزلت بعد هذه الوقعة على ما سوف نشرحه في مناسباتهما .

وفي سورة الإسراء آية فيها دليل حاسم على معنى كلمة الفتنة ، وهو الرد والارتداد والإرجاع وهي هذه : { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا73 } .

وآيات سورة التوبة التي تعلن البراءة من المشركين ، وتأمر بقتالهم إلى أن يتوبوا ويؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، والتي أوردناها آنفا تخللها وجاء معها استثناءات تجعل ذلك الإعلان والأمر محصورا في المشركين المعتدين والناكثين لعهودهم كما جاء في عبارة { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا } التوبة [ 4 ] وكما جاء في الآيات التالية التي هي جزء من السلسلة : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون6 كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين7 كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون8 اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون11 وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون12 ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين13 } .

وآيتا { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } في سلسة آيات التوبة ليستا المخرج الوحيد كما قد يتبادر . فالآيات في جملتها تعني أنهم إن آمنوا فبها ونعمت ويصبحوا إخوانا للمسلمين ، ويهدر كل ما فعلوه معهم قبل . وإن لم يؤمنوا وحافظوا على عهدهم واستقاموا عليه فلا مانع . وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في الدين فيقاتلون حتى ينتهوا من هذا الموقف العدواني .

وجملة { وقاتلوا المشركين كافة } وفي آية التوبة [ 36 ] ليست منفردة : فإن لها تتمة وهي { كما يقاتلونكم كافة } التوبة [ 36 ] ، وهذه التتمة تزيل اللبس في الجملة ، وتعيد الأمر إلى أصله من وجوب قتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين ؛ وتظهر مقدار ما في الاستناد إليها من تجوز كبير أيضا .

وفحوى القول : إن آية سورة النساء [ 90 ] منسوخة تجوز كبير أيضا إزاء ما فيها من صراحة وحسم . ويدعم هذا آية في سورة الممتحنة التي نزلت قبيل الفتح المكي ، فيها مثل هذه الصراحة والحسم ؛ بل وأكثر ؛ حيث إنها تحض على البر والإقساط للذين لا يقاتلون المسلمين ، ولا يشتركون في إخراجهم من ديارهم ، وهي : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين8 } وقد فند الطبري قول من قال : إن هذه الآية منسوخة . وقال : إن بر المؤمن لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة ، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ، ولا نسب ، غير محرم ، ولا منهي عنه أصلا ، إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على دعوة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح . وفي سورة البقرة آية أخرى تدعم ذلك ، وتدعم أو توضح مدى آية الممتحنة في الوقت نفسه وهي : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون272 } ، وقد روى الطبري وغيره روايتين في نزولها : واحدة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن فقراء المشركين ، وثانية : أن المسلمين كانوا يمنعون صدقاتهم عن المشركين من أقاربهم وأنسابهم ، فنزلت الآية مؤذنة بأن النبي والمسلمين غير مسؤولين عن هداهم الذي هو في يد الله ، وأن الصدقات هي قربة من المتصدق لله عن نفسه ، فلا مانع من إعطائهم منها على شركهم . . . وليس هناك أي قول فيما اطلعنا عليه بنسخ هذه الآية الرائعة في مداها الذي نحن في صدده .

ولقد حدث مرة سوء تفاهم بين قائد إحدى السرايا وبعض العرب الذين أظهروا الإسلام أو المسالمة ، فظن القائد أن ذلك خدعة ، وقتل بعضهم وأخذ ماشيتهم ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب ، ولم يلبث أن أوحى الله بآية قوية رائعة فيها عتاب على عدم قبول ظواهر الناس كما ترى فيها : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا } سورة النساء [ 94 ] ، وفي آية سورة الأنفال هذه : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم61 } أمر صريح بأن يسالم كل من جنح إلى المسالمة من الأعداء . وفي آيات سورة محمد هذه : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم3 فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } [ 4 ] أمر بقتال الكفار الصادين عن سبيل الله إلى أن تخضد شوكتهم ، ثم يؤسر الباقون إلى أن يفتدوا أنفسهم ، أو يطلق سراحهم منا دون إرغام على الإسلام ؛ لأن المقصود من القتال قد حصل .

ولم يرد أي خبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم رفض في أي وقت طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين ، كما أنه لم يرد أي خبر بأنه قاتل أو أمر بقتال أناس مسالمين أو حيادين أو معتزلين . والذي يدرس وقائع الجهاد{[1]} يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث سرية ولم يباشر غزوة ، ولم يشتبك بقتال مع فئة إلا ردا على عدوان ، أو انتقاما من عدوان ، أو دفعا لأذى ، أو تنكيلا بغادر ، أو تأديبا لباغ ، أو ثأرا لدم إسلامي أهدر ، أو ضمانة لحرية الدعوة والاستجابة إليها ، أو بناء على نكث عهد ، أو بسبب مظاهرة لعدو ، أو تآمر معه على المسلمين .

وكل هذا متسق مع النصوص القرآنية التي لا يمكن أن يصدر منه ما ينقضها بطبيعة الحال .

وكل هذا ينطبق على وقائع القتال مع اليهود والنصارى الكتابيين أيضا . فكل عملية تأديب أو تنكيل أو غزوة ضد يهود يثرب والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام كانت ردا على عدوان أو مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين{[2]} . وحملات مؤتة وتبوك كانت مقابلة على عدوان القبائل العربية النصرانية في طريق الشام والبلقاء على رسل النبي صلى الله عليه وسلم وقوافل المسلمين{[3]} .

وآية التوبة هذه : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون29 } تضمنت إشارة إلى ذلك ، وحصرت أمر القتال في الفئات التي لا تدين دين الحق ، ولا تحرم ما حرم الله ورسوله من الكتابين دون سائرهم ، وحملات الفتح التي سيرها أبو بكر رضي الله عنه وما بعدها هي امتداد لهذه الحملات ؛ حيث كانت حالة الحرب التي نشأت عن العدوان قائمة . ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء رضي الله عنهم لقواد هذه الحملات بألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم ، وبأن يسالموا من يسالمهم ، وبأن يتركوا من لا يتعرض لهم من ومن يعتزلهم وشأنه ، وأن لا يقتلوا النساء والصبيان ، معروفة مشهورة{[4]} . ولو كان قتال كل كافر وكل مشرك مبدأ إسلاميا لاقتضى أن يقاتل كل كافر وكل مشرك مهما كانت حالته وسنه وموقفه ، وهذا لم يحصل إطلاقا ، لا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم . وقتال أبي بكر للمرتدين وعدم قبوله منهم إلا الإسلام الاستسلام حالة أخرى ؛ لأن الارتداد كان ضد الدولة الإسلامية والنظام الإسلامي في الدرجة الأولى{[5]} .

وفي موطأ الإمام مالك حديث عن يحيى بن سعيد احتوى وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه على رأس جيش إلى الشام جاء فيها : ( إني موصيك بعشر : لا تقتلن امرأة ، ولا صبيا ، ولا كبيرا هرما ، ولا تقطعن شجرا مثمرا ، ولا تخربن عامرا ، ولا تعقرن شاة ، ولا بعيرا ، إلا لمأكلة ، ولا تحرقن نخلا ، ولا تفرقنه ، ولا تغلل ، ولا تجبن ، وإنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ) .

ويورد فيما يورد حديث صحيح جاء فيه : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله . فمن قال : لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله " {[6]} . ونكرر هنا ما قلناه تعليقا على هذا الحديث في سياق التعليق على [ سبيل الله ] ، والخطة القرآنية للدعوة إلى سبيل الله في سورة المزمل ، من أن ذلك يحمل على قصد قتال الذين يستحقون القتال حسب المبادئ التي قررها القرآن ، وليس قتل الكفار والمشركين بسبب كفرهم وحسب ؛ لأنه لم يرد ما قلنا أي خبر عن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار ومشركين موادين ، ومسالمين ، ومحايدين ، وغير معتدين ، وغير متآمرين ، وغير ناقضين بشكل ما .

وهناك أحاديث صحيحة عديدة تدعم ما ذكرناه . منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن بريدة قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : " اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن أبوا فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ){[7]} . وحديث رواه أبو داود عن أنس قال : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " انطلقوا باسم الله ، وبالله ، وعلى ملة رسول الله ، ولا تقتلوا شيخا فانيا ، ولا طفلا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا تغلوا ، وضموا غنائمكم ، وأصلحوا ، وأحسنوا ، إن الله يحب المحسنين " {[8]} . وحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر قال : ( وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم ، فنهى عن قتل النساء والصبيان . وسئل النبي عن أهل الدار يبيّتون من المشركين ، فيصاب من نسائهم وذراريّهم . قال : " هم منهم " ){[9]} . وحديث رواه الترمذي والنسائي عن عطية القرظي قال : ( عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة ، فكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلي سبيله ، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي ){[10]} .

وفي الحديث الأول بخاصة نقض لما قاله بعض المفسرين في سياق جملة { لا إكراه في الدين } في الآية [ 256 ] من سورة البقرة ، وذكرناه قبل من أن هذه الجملة منسوخة بالنسبة للمشركين من العرب ، ولا يقبل منهم غير الإسلام أو السيف . فليس في القرآن على ضوء ما قدمناه ما ينسخ ذلك بالنسبة للمشركين العرب . وفي هذا الحديث الصحيح إجازة بقبول الجزية من الأعداء المشركين ، ومعظم الجيوش والسرايا التي سيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت على الأعداء المشركين من العرب ؛ بل وإن صلح الحديبية الذي أشرنا إليه دليل على جواز الصلح مع المشركين العرب بدون جزية إذا ما كان في ذلك من مصلحة المسلمين . وفي سورة الأنفال آية تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجنوح إلى السلم إذا جنح إليها الكفار الأعداء . وهي الآية [ 61 ] وهي مطلقة لا تشترط جزية ولا شرطا آخر ، وفي هذا دليل على ما تقدم أيضا ، والله تعالى أعلم .


[2549]:- انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم

[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[3]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[4]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[5]:انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري
[6]:تفسير الخازن
[7]:التاج ج 2 ص 300 والمقصود أن الحمو هو غير المحرم من أقارب الزوج.
[8]:التاج ج 2 ص 301
[9]:التاج ج 2 ص 301
[10]:المصدر نفسه ص 300