41- وإن أمارات العذاب والهزيمة قائمة ، ألم ينظروا إلي أنّا نأتي الأرض التي قد استولوا عليها ، يأخذها منهم المؤمنون جزءا بعد جزء ؟ وبذلك ننقص عليهم الأرض من حولهم ، والله - وحده - هو الذي يحكم بالنصر أو الهزيمة ، والثواب أو العقاب ، ولا راد لحكمه ، وحسابه سريع في وقته ، فلا يحتاج الفصل إلي وقت طويل ، لأن عنده علم كل شيء ، فالبينات قائمة{[104]} .
قوله تعالى : { أو لم يروا } يعني : أهل مكة ، الذين يسألون محمدا صلى الله عليه وسلم الآيات ، { أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } ، أكثر المفسرين على أن المراد منه فتح ديار الشرك ، فإن ما زاد في ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك ، يقول : { أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } ، فنفتحها لمحمد أرضا بعد أرض حوالي أرضهم ، أفلا يعبرون ؟ هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة .
وقال قوم : هو خراب الأرض ، معناه : أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ، ونهلك أهلها ، أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك ؟ قال مجاهد : هو خراب الأرض وقبض أهلها . وعن عكرمة قال : قبض الناس . وعن الشعبي مثله . وقال عطاء وجماعة : نقصانها موت العلماء ، وذهاب الفقهاء .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني مالك ، عن هشام بن عروة عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " . وقال الحسن : قال عبد الله بن مسعود : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : عليكم بالعلم قبل أن يقبض ذهاب أهله . وقال علي رضي الله عنه : إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد . وقال سليمان : لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر ، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس . وقيل لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس ؟ قال : هلاك علمائهم . { والله يحكم لا معقب لحكمه } ، لا راد لقضائه ، ولا ناقض لحكمه . { وهو سريع الحساب * }
ثم قال متوعدا للمكذبين { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } قيل بإهلاك المكذبين واستئصال الظالمين ، وقيل : بفتح بلدان المشركين ، ونقصهم في أموالهم وأبدانهم ، وقيل غير ذلك من الأقوال .
والظاهر -والله أعلم- أن المراد بذلك أن أراضي هؤلاء المكذبين جعل الله يفتحها ويجتاحها ، ويحل القوارع بأطرافها ، تنبيها لهم قبل أن يجتاحهم النقص ، ويوقع الله بهم من القوارع ما لا يرده أحد ، ولهذا قال : { وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } ويدخل في هذا حكمه الشرعي والقدري والجزائي .
فهذه الأحكام التي يحكم الله فيها ، توجد في غاية الحكمة والإتقان ، لا خلل فيها ولا نقص ، بل هي مبنية على القسط والعدل والحمد ، فلا يتعقبها أحد ولا سبيل إلى القدح فيها ، بخلاف حكم غيره فإنه قد يوافق الصواب وقد لا يوافقه ، { وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : فلا يستعجلوا بالعذاب فإن كل ما هو آت فهو قريب .
ثم وبخ - سبحانه - المشركين لعدم تفكرهم وتدبرهم واتعاظهم بآثار من قبلهم ، فقال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا . . . }
والهمزة للاستفهام الإِنكارى ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام .
والخطاب لمشركى مكة ومن كان على شاكلتهم في الكفر والضلال .
والمراد بالأرض هنا : أرض الكفرة والظالمين .
والأطراف جمع طرف وهو جانب الشئ .
والمعنى : أعمى هؤلاء الكافرين عن التفكير والاعتبار ، ولم يروا كيف أن قدرة الله القاهرة ، قد أتت على الأمم القوية الغنية - حين كفرت بنعمه - سبحانه - ، فصيرت قوتها ضعفا وغناها فقرا ، وعزها ذلا ، وأمنها خوفا . . وحصرتها في رقعة ضيقة من الأرض ، بعد أن كانت تملك الأراضى الفسيحة ، والأماكن المترامية الأطراف .
فالآية الكريمة بشارة للمؤمنين ، وإنذار للكافرين .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون } قال الآلوسى ما ملخصه : " وروى عن ابن عباس أن المراد بانتقاص الأرض : موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها . وعليه يكون المراد بالأرض جنسها وبالأطراف الأشراف والعلماء ، وشاهده قول الفرزدق :
واسأل بنا وبكم ، إذا وردت منى *** أطراف كل قبيلة ، من يتبع ؟
وتقرير الآية عليه : أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة ، وموتا بعد حياة ، وذلا بعد عز . . فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله - تعالى - الأمر عليهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة . .
والأول - وهو أن يكون المراد بالأرض : أرض الكفر ، وبالأطراف الجوانب - أوفق بالمقام ، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة ، وجملة " ننقصها " في موضع الحال من فاعل نأتى . . " .
وقوله - سبحانه - : { والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } بيان لعلو شأن حكمه - تعالى - ونفاذ أمره .
والمعقب : هو الذي يتعقب فعل غيره ، أو قوله فيبطله أو يصححه .
أى : والله - تعالى - يحكم ما يشاء أن يحكم به في خلقه ، لاراد لحكمه ، ولا دافع لقضائه ، ولا يتعقب أحد ما حكم به بتغيير أو تبديل ، وقد حكم - سبحانه - بعزة الإِسلام ، وعلو شأنه وشأن أتباعه على سائر الأمم والأديان . .
وقوله { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } أى : وهو - سبحانه - سريع المحاسبة والمجازاة ، لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من الإِحصاء والعد ، إذ هو - سبحانه - محيط بكل شئ ، فلا تستبطئ . عقابهم - أيها الرسول الكريم - فإن ما وعدناك به واقع لا محالة .
وإن يد الله القوية لبادية الآثار فيما حولهم ، فهي تأتي الأمم القوية الغنية - حين تبطر وتكفر وتفسد - فتنقص من قوتها وتنقص من ثرائها وتنقص من قدرها ؛ وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وذات امتداد ، وإذا حكم الله عليها بالانحسار فلا معقب لحكمه ، ولا بد له من النفاذ :
( أولم يروا أنا نأتي الأرض تنقصها من أطرافها ! والله يحكم لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ) .
عطف على جملة { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } [ الرعد : 40 ] المتعلقة بجملة { لكل أجل كتاب } . عقبت بهذه الجملة لإنذار المكذبين بأن ملامح نصر النبي صلى الله عليه وسلم قد لاحت وتباشير ظَفَره قد طلعت ليتدبروا في أمرهم ، فكان تعقيب المعطوف عليها بهذه الجملة للاحتراس من أن يتوهموا أن العقاب بطيء وغيرُ واقع بهم . وهي أيضاً بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله مظهر نصره في حياته وقد جاءت أشراطه ، فهي أيضاً احتراس من أن ييأس النبي صلى الله عليه وسلم من رؤية نصره مع علمه بأن الله متم نوره بهذا الدّين .
والاستفهام في { أولم يروا أنا } إنكاري ، والضمير عائد إلى المكذبين العائد إليهم ضمير { نعدهم } . والكلام تهديد لهم بإيقاظهم إلى ما دب إليهم من أشباح الاضمحلال بإنقاص الأرض ، أي سكانها .
والرؤية يجوز أن تكون بصرية . والمراد : رؤية آثار ذلك النقص ؛ ويجوز أن تكون علمية ، أي ألم يعملوا ما حل بأرضي الأمم السابقة من نقص .
وتعريف { الأرض } تعريف الجنس ، أي نأتي أية أرض من أرضي الأمم . وأطلقت الأرض هنا على أهلها مجازاً ، كما في قوله تعالى : { واسأل القرية } [ سورة يوسف : 82 ] بقرينة تعلق النقص بها ، لأن النقص لا يكون في ذات الأرض ولا يرى نقص فيها ولكنه يقع فيمن عليها . وهذا من باب قوله تعالى : { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها } [ سورة محمد : 10 ] .
وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد ب{ الأرض } أرض الكافرين من قريش فيكون التعريف للعهد ، وتكون الرؤية بصرية ، ويكون ذلك إيقاظاً لهم لما غلب عليه المسلمون من أرض العدوّ فخرجت من سلطانه فتنقص الأرض التي كانت في تصرفهم وتزيد الأرض الخاضعة لأهل الإسلام . وبنوا على ذلك أن هذه الآية نزلت بالمدينة وهو الذي حمل فريقاً على القول بأن سورة الرعد مدنية فإذا اعتبرت مدنية صح أن تفسر الأطراف بطرفين وهما مكة والمدينة فإنهما طرفا بلاد العرب ، فمكة طرفها من جهة اليَمن ، والمدينة طرف البلاد من جهة الشام ، ولم يزل عدد الكفار في البلدين في انتقاص بإسلام كفارها إلى أن تمحضت المدينة للإسلام ثم تمحضت مكة له بعد يوم الفتح .
وأيّاً ما كان تفسير الآية وسبب نزولها ومكانه فهي للإنذار بأنهم صائرون إلى زوال وأنهم مغلوبون زائلون ، كقوله في الآية الأخرى في سورة الأنبياء : { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون } [ سورة الأنبياء : 51 ] ، أي ما هم الغالبون . وهذا إمهال لهم وإعذار لعلهم يتداركون أمرهم .
وجملة { والله يحكم لا معقب لحكمه } [ سورة الرعد : 41 ] عطف على جملة { أولم يروا أنا } مؤكدة للمقصود منها ، وهو الاستدلال على أن تأخير الوعيد لا يدل على بطلانه ، فاستدل على ذلك بجملة { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } ثم بجملة { أولم يروا أنا نأتي الأرض } ثم بجملة { والله يحكم } ، لأن المعنى : أن ما حكم الله به من العقاب لا يبطله أحد وأنه واقع ولو تأخر .
ولذلك فجملة { لا معقب لحكمه } في موضع الحال ، وهي المقيدة للفعل المراد إذ هي مصب الكلام إذ ليس الغرض الإعلام بأن الله يحكم إذ لا يكاد يخفى ، وإنما الغرض التنبيه إلى أنه لا معقب لحكمه . وأفاد نفي جنس المعقب انتفاء كل ما من شأنه أن يكون معقباً من شريك أو شفيع أو داع أو راغب أو مستعصم أو مفتد .
والمعقب : الذي يعقب عملاً فيبطله ، مشتق من العَقِب ، وهو استعارة غلبت حتى صارت حقيقة . وتقدم عند قوله تعالى : { له معقبات } [ سورة الرعد : 11 ] في هذه السورة ، كأنه يجيء عقب الذي كان عمل العمل .
وإظهار اسم الجلالة بعد الإضمار الذي في قوله : أنا نأتي الأرض } لتربية المهابة ، وللتذكير بما يحتوي عليه الاسم العظيم من معنى الإلهية والوحدانية المقتضية عدم المنازع ، وأيضاً لتكون الجملة مستقلة بنفسها لأنها بمنزلة الحكمة والمثل .
وجملة { وهو سريع الحساب } يجوز أن تكون عطفاً على جملة { والله يحكم } فتكون دليلاً رابعاً على أن وعده واقع وأن تأخره وإن طال فما هو إلا سريع باعتبار تحقق وقوعه ؛ ويجوز أن يكون عطفاً على جملة الحال . والمعنى : يحكم غير منقوص حكمه وسريعاً حسابه . ومآل التقديرين واحد .
والحساب : كناية عن الجزاء والسرعة : العجلة ، وهي في كل شيء بحسبه .