144- لما أشيع قتل محمد في غزوة أُحد ، همّ بعض المسلمين بالارتداد ، فأنكر الله عليهم ذلك قائلا : ليس محمد إلا رسول قد مات من قبله المرسلون أمثاله ، وسيموت كما ماتوا ، وسيمضي كما مضوا ، أفإن مات أو قتل رجعتم على أعقابكم إلى الكفر ؟ ، ومن يرجع إلى الكفر بعد الإيمان فلن يضر الله شيئاً من الضرر ، وإنما يضر نفسه بتعريضها للعذاب ، وسيثيب الله الثابتين على الإسلام الشاكرين لنعمه .
قوله تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } . قال أصحاب المغازي : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من احد في سبعمائة رجل ، وجعل عبد الله بن جبير-وهو أخو خوات ابن جبير- على الرجالة ، وكانوا خمسين رجلاً ، وقال : " أقيموا بأصل الجبل ، وانضحوا عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، فإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم ، وإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، ومعهم النساء يضربن بالدفوف ، ويقلن الأشعار ، فقاتلوا حتى حميت الحرب ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً فقال : " من يأخذ هذا السيف بحقه ، ويضرب به العدو حتى يثخن " فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ، فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع " . ففلق به هام المشركين ، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم . وروينا عن البراء بن عازب قال : فأنا –والله- رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة والله لنأتين الناس ، ولنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم . قال الزبير بن العوام : فرأيت هنداً وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل ، باديات خدامهن ما دون أخذهن شيء ، فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ، ورأوا أصحابهم ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب . فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ، ورأى ظهورهم خالية ، صاح في خيله من المشركين ، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم ، فهزموهم وقتلوهم ، ورمى عبد الله بن قميئة رسول اله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته ، وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة يعلوها ، وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع ، فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوجب طلحة " . ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد ، وأعطتها وحشياً وبقرت عن كبدة حمزة ولاكتها لم تستطع أن تسيغها ، فلفظتها ، وأقبل عبد الله بن قميئة يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذبه مصعب بن عمير ، وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتله ابن قمئة ، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع إلى المشركين وقال : إني قتلت محمداً ، وصاح صارخا ألا إن محمداً قد قتل ، ويقال : إن ذلك الصارخ إبليس لعنة الله عليه . فانكفأ الناس ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس " إلي عباد الله إلي عباد الله " . فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فحملوه حتى كشفوا عنه المشركين ، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ، ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته ، وقال له : " ارم فداك أبي وأمي " ، وكان طلحة رجلاً رامياً شديداً النزع ، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً ، وكان الرجل يمر بجعبة من النبل فيقول " انثرها لأبي طلحة ، وكان إذا رمى استشرف النبي صلى الله عليه وسلم لينظر إلى موضع نبله ، وأصيبت يد طلحة ابن عبيد الله ، فيبست حين وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصيبت عين قتادة ابن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها ، فعادت كأحسن ما كانت . فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي ، وهو يقول : لا نجوت إن نجوت ، فقال القوم : يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " دعوه " حتى إذا دنا منه ، وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بل أنا أقتلك إن شاء الله " فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ، ثم استقبله فطعنه في عنقه ، فخدشه خدشة فتدهدى عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ، ويقول : قتلني محمد ، فحمله أصحابه وقالوا : ليس عليك بأس ، قال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم ، أليس قال لي أقتلك ؟ فلو بزق علي بعد تلك المقالة لقتلني ، فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له سرف .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن علي ، أنا أبو عاصم ، عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " اشتد غضب الله على من قتله نبي واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم " . قالوا : وفشا في الناس أن محمداً قد قتل فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا ما بأيديهم من الأسلحة ، وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول ، فقال أنس بن النضر عم انس بن مالك : يا قوم إن كان قد قتل محمد فإن رب محمد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وموتوا على مامات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني المنافقين- ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل ، ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة ، وهو يدعو الناس ، فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك ، قال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار إلي أن اسكت ، فانحازت إليه طائفة من أصحابه ، فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفرار ، فقالوا : يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا الخبر بأنك قد قتلت ، فرعبت قلوبنا ، فولينا مدبرين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) . ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد ، لأن الحمد لا يستوجبه إلا الكامل ، والتحميد فوق الحمد ، فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال ، وأكرم الله نبيه وصفيه باسمين مشتقين من اسمه جل جلاله محمد ، وأحمد ، وفيه يقول حسان بن ثابت :
ألم تر أن الله أرسل عبده *** ببرهانه والله أعلى وأمجد
أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله مشهور يلوح ويشهد
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
قوله تعالى : { أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ } . ؟أي رجعتم إلى دينكم الأول .
قوله تعالى : { ومن ينقلب على عقبيه } . ويرتد عن دينه .
قوله تعالى : { فلن يضر الله شيئاً } . بارتداده وإنما ضر نفسه .
ثم قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ }
يقول تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي : ليس ببدع من الرسل ، بل هو من جنس الرسل الذين قبله ، وظيفتهم تبليغ رسالات ربهم وتنفيذ أوامره ، ليسوا بمخلدين ، وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله ، بل الواجب على الأمم عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال ، ولهذا قال : { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } بترك ما جاءكم من إيمان أو جهاد ، أو غير ذلك .
قال [ الله ] تعالى : { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } إنما يضر نفسه ، وإلا فالله تعالى غني عنه ، وسيقيم دينه ، ويعز عباده المؤمنين ، فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه ، مدح من ثبت مع رسوله ، وامتثل أمر ربه ، فقال : { وسيجزي الله الشاكرين } والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى في كل حال .
وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه ، فقدُ رئيس ولو عظم ، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه ، إذا فقد أحدهم قام به غيره ، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله ، والجهاد عنه ، بحسب الإمكان ، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس ، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم ، وتستقيم أمورهم .
وفي هذه الآية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر أبي بكر ، وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم سادات الشاكرين .
ثم تمضى السورة الكريمة فى حديثها عن غزوة أحد ، فتذكر المؤمنين بما كان منهم عندما اشيع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، وترشدهم إلى أن الآجال بيد الله ، وأن المؤمنين الصادقين قاتلوا مع أنبيائهم فى سبيل إعلاء كلمة الله بدون ضعف أو ملل فعليهم أن يتأسوا بهم فى ذلك ، وأن الله - تعالى - قد تكفل بان يمنح المؤمنين الصادقين المجاهدين فى سبيله أجرهم الجزيل فى الدنيا والآخرة .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه المعانى بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول : { وَمَا مُحَمَّدٌ . . . } .
قال ابن كثير : لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد ، وقتل من قتل منهم ، نادى الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل ، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمداً . وإنما قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه فى رأسه . فوقع ذلك فى قلوب كثير من الناس ، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فحصل ضعف ووهن وتأخر - بين المسلمين - عن القتال . ففى ذلك أنزل الله تعالى - { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } الآية .
وقوله - تعالى - { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } تقرير لحقيقة ثابتة ، ولأمر مؤكد ، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم واحد من البشر ، وأنه سيموت كما يموت جميع البشر ، وأنه ليس له صفة تميزه عن سائر البشر سوى الرسالة التى وهبها الله - تعالى - له ، ومنحه إياها ، وأن هذه الرسالة لا تقتضى بقاءه أو خلوده ، إذ الرسل الذين سبقوه قد أدوا رسالتهم فى الحياة كما أمرهم خالقهم ثم ماتوا أو قتلوا .
وما دام الأمر كذلك فمحمد صلى الله عليه وسلم سيموت وينتقل إلى الرفيق الأعلى كما مات الذين سبقوه من الأنبياء ، وكما سيموت جميع البشر .
والقصر فى قوله - تعالى - : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } من باب قصر الموصوف على الصفة ، أى قصر محمد صلى الله عليه وسلم على وصف الرسالة قصراً إضافياً .
وفى هذا القصر رد على ما صدر من بعض المسلمين من اضطراب وضعف حين أرجف المنافقون فى غزوة أحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل .
فكأنه - تعالى - يقول لهم : إن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من الرسل الذين أرسلهم الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وسيكون مصيره إلى الموت إن عاجلا أو آجلا كما هو شأن سائر البشر الذين اصطفى الله - تعالى - منهم رسله ، إلا أن رسالته التى جاء بها من عند الله لن تموت من بعده ، بل ستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولا يصح أن يضعف أتباعه فى عقيدتهم أو فى تبليغ رسالته من بعده ، بل عليهم أن يستمسكوا بما جاءهم به ، وأن يدافعوا عنه بأنفسهم وأموالهم .
ولذا فقد وبخ الله - تعالى - بعض المسلمين الذين صدر منهم اضطراب أو ضعف عندما أشاع ضعاف النفوس بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل فى غزوة أحد فقال - تعالى - : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } ؟
أى : إذا مات محمد صلى الله عليه وسلم - أيها المؤمنون - وقد علمتم أن موته حق لا ريب فيه ، أو قتل وهو يدافع عن دينه وعقيدته ، { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } أى : رجعتم إلى ما كنتم عليه من الكفر والضلال .
والانقلاب : الرجوع إلى المكان . وهو هنا مجاز فى الرجوع إلى الحال التى كانوا عليها قبل الإسلام .
يقال لكل من رجع إلى حاله السىء الأول : نكص على عقبيه ، وارتد على عقبيه . والعقب مؤخر الرجل . وجمع أعقاب .
قال صاحب الكشاف : قوله { أَفإِنْ مَّاتَ } الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبب . والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل ، مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه .
قإن : قلت : لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل ؟ قلت : لكونه مجوزا عند المخاطبين .
فإن قلت : أما علموه من ناحية قوله : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } قلت : هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة " .
وفى قوله { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } تنفير شديد من الرجوع إلى الضلال بعد الهدى ، وتصوير بليغ لمن ارتد عن الحق بعد أن هداه الله إليه .
فقد صور - سبحانه - حالة من ترك الهداية إلى الضلال ، بحالة من رجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام ، وأعقابه هى التى تقوده إلى الخلق ، وهو فى حالة انتكاس ، بأن جعل رأسه إلى أسفل وعقبه إلى أعلا . ولا شك أن هذا أقبح منظر يكون عليه الإنسان .
وقوله { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً } الغرض منه تأكيد الوعيد ، لأن كل عاقل يعلم أن الله - تعالى - لا يضره كفر الكافرين .
أى : ومن ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بأن يرجع إلى ما كان عليه من الكفر والضلال ، فلن يضر الله شيئاً من الضرر وإن قل ، إنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب ، وبحرمانها من الأجر والثواب .
ثم أتبع - سبحانه - هذا الوعيد بالوعد فقال : { وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } أى : وسيثيب الله - تعالى - الثابتين على الحق والصابرين على الشدائد الشاكرين له نعمه فى السراء والضراء ، سيثيبهم على ذلك بالنصر فى الدنيا وبرضوانه فى الآخرة .
وعبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين مع أن الصبر فى هذا الموطن أظهر ، وذلك لأن الشكر فى هذا المقام هو أسمى درجات الصبر ، لأن هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ساعة العسرة ، لم يكتفوا بتحمل البلاء معه فقط ، بل تجاوزوا حدود الصبر إلى حدود الشكر على هذه الشدائد التى ميزت الخبيث من الطيب ، فالشكر هنا صبر وزيادة ، وقليل من الناس هو الذى يكون على هذه الشاكلة ، ولذا قال - تعالى -
{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } فالآية الكريمة قد تضمنت عتابا وتوبيخا لأولئك المسلمين الذين ضعف يقينهم ، وفترت همتهم ، عندما أرجف المرجفون فى غزوة أحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل .
كما تضمنت الثناء الجزيل على أولئك الثابتين الصابرين الذين لم تؤثر فى قوة إيمانهم تلك الأراجيف الكاذبة ، بل مضوا فى جهادهم وثباتهم بدون تردد أو تزعزع ولقد كان الثابتون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة أحد كثيرين ومن بينهم أنس بن النضر - رضى الله عنه - ، فقد ورى البخارى عن أنس - رضى الله عنه - قال : غاب عمى أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله . غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين ، لئن أشهدنى الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع .
فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون . قال : اللهم إنى أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المسلمين - . وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المشركين - .
ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ . فقال : يا سعد بن معاذ ! ! الجنة ورب النضر إنى لأجد ريحها من دون أحد .
قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع .
قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ، وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .
قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفى أشباهه : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } كما تضمنت الآية الكريمة التحذير عن الارتداد عن دين الله بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان أنه بشر من البشر ، وأنه يموت كما يموت سائر البشر ، وأن رسالته هى الخالده الباقية ، فمن تمسك بها فقد سعد وفاز . ومن أعرض عنها فلن يضر الله شيئاً .
ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة ؛ وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق ؛ متخذا من أحداث المعركة محورا لتقرير تلك الحقائق ؛ ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد :
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ؛ وسيجزي الله الشاكرين . وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ؛ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ؛ وسنجزي الشاكرين . وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا ، والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، والله يحب المحسنين ) . .
إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة ، حدثت في غزوة أحد . ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل ، فركبه المشركون ، وأوقعوا بالمسلمين ، وكسرت رباعية الرسول [ ص ] وشج وجهه ، ونزفت جراحه ؛ وحين اختلطت الأمور ، وتفرق المسلمون ، لا يدري أحدهم مكان الآخر . . حينئذ نادى مناد : إن محمدا قد قتل . . وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين . فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة ، مصعدين في الجبل منهزمين ، تاركين المعركة يائسين . . لولا أن ثبت رسول الله [ ص ] في تلك القلة من الرجال ؛ وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون ، حتى فاءوا إليه ، وثبت الله قلوبهم ، وأنزل عليهم النعاس امنة منه وطمأنينة . . كما سيجيء . .
فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول ، يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ، ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ؛ ويجعلها محورا لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة ، وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين :
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين ) . .
إن محمدا ليس إلا رسولا . سبقته الرسل . وقد مات الرسل . ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله . . هذه حقيقة أولية بسيطة . فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة ؟
إن محمدا رسول من عند الله ، جاء ليبلغ كلمة الله . والله باق لا يموت ، وكلمته باقية لا تموت . . وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل . . وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول . وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة !
إن البشر إلى فناء ، والعقيدة إلى بقاء ، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس ، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . . والمسلم الذي يحب رسول الله [ ص ] وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا . الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة . وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك ! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد . . وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم ، وبكل مشاعرهم ، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره [ ص ] . . هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب ، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد [ ص ] والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده ، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت .
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) . .
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن ، العميقة في منابت التاريخ ، المبتدئة مع البشرية ، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق .
وهي أكبر من الداعية ، وأبقى من الداعية . فدعاتها يجيئون ويذهبون ، وتبقى هي على الأجيال والقرون ، ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول ، الذي أرسل بها الرسل ، وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون . . وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ، ويرتد عن هدى الله . والله حي لا يموت :
ومن ثم هذا الاستنكار ، وهذا التهديد ، وهذا البيان المنير :
( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين ) . .
وفي التعبير تصوير حي للارتداد : ( انقلبتم على أعقابكم ) . . ( ومن ينقلب على عقبيه ) . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة ، كأنه منظر مشهود . والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف : إن محمدا قد قتل ، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين ، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين ، وانتهى أمر الجهاد للمشركين ! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا ، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب ، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب ! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم ، وقالوا له : إن محمدا قد مات : " فما تصنعون بالحياة من بعده ؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله [ ص ] " .
( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) . .
فإنما هو الخاسر ، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . . وانقلابه لن يضر الله شيئا . فالله غني عن الناس وعن إيمانهم . ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ، ولخيرهم هم . وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله . وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق ، وتعوج الأمور كلها ، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة ، وتستقيم في ظله النفوس ، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها ، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه .
الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج ، فيشكرونها باتباع المنهج ، ويشكرونها بالثناء على الله ، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم ، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة ، وهو أكبر وأبقى . .
وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة ، وبهذه الآية ، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي [ ص ] وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد [ ص ] ولكن جاء فقط ليومىء إليه ، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق ، كما أومأ إليه من قبله من الرسل ، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم ، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد [ ص ] إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة ، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة ، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة ، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول [ ص ] أو يقتل ، فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون !
وكأنما كان الله - سبحانه - يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب ، وأن يصلهم به هو ، وبدعوته الباقية ، قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول .
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه ، يهدد به من يقول : إن محمدا قد مات !
ولم يثبت إلا أبو بكر ، الموصول القلب بصاحبه ، وبقدر الله فيه ، الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع ، فإذا هم يثوبون ويرجعون !
هذا استمرار في عتبهم ، وإقامة لحجة الله عليهم ، المعنى : أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل ، قد بلغ كما بلغوا ، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطاً في ذلك ، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله ، و { خلت } معناه مضت وسلفت ، وصارت إلى الخلاء من الأرض . وقرأ جمهور الناس «الرسل » بالتعريف ، وفي مصحف ابن مسعود «رسل » دون تعريف ، وهي قراءة حطان بن عبد الله{[3576]} ، فوجه الأولى تفخيم ذكر الرسل ، والتنويه ، بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى ، ووجه الثانية ، أنه موضع تيسير لأمر النبي عليه السلام في معنى الحياة ، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، فيجيء تنكير «الرسل » جارياً في مضمار هذا الاقتصاد به صلى الله عليه وسلم ، وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشي ، فمنه قوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور }{[3577]} وقوله تعالى : { وما آمن معه إلا قليل }{[3578]} إلى غير ذلك من الأمثلة ، ذكر ذلك أبو الفتح{[3579]} ، والقراءة بتعريف «الرسل » أوجه في الكلام ، وقوله تعالى : { أفإن مات } الآية ، دخلت ألف الاستفهام على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه ، لأن أقبح الأحوال أن يقولوا : إن مات محمد أو قتل انقلبنا ، فلما كان فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار ، وقال كثير من المفسرين : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ، لأن الغرض إنما هو : أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد ؟ فالسؤال إنما هو عن جواب الشرط .
قال الفقيه القاضي أبو محمد : وبذلك النظرالذي قدمته يبين وجه فصاحة دخول الألف على الشرط ، وذلك شبيه بدخول ألف التقريب في قوله : { أو لو كان آباؤهم }{[3580]} ونحوه من الكلام ، كأنك أدخلت التقرير على ما ألزمت المخاطب أنه يقوله ، والانقلاب على العقب يقتضي التولي عن المنقلب عنه ، ثم توعد تعالى المنقلب على عقبه بقوله تعالى : { فلن يضر الله شيئاً } لأن المعنى فإنما يضر نفسه وإياها يوبق ، ثم وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على عقبيه بل مضى على دينه قدماً حتى مات ، فمنهم سعد بن الربيع{[3581]} وتقضي بذلك وصيته إلى الأنصار ، ومنهم أنس بن النضر ، ومنهم الأنصاري الذي ذكر الطبري عنه بسند أنه مر عليه رجل من المهاجرين ، والأنصاريّ يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل : فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم .
قال الفقيه أبو محمد : فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم قولهم : ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة : قال ابن إسحاق معنى { وسيجزي الله الشاكرين } أي من أطاعه وعمل بأمره ، وذكر الطبري بسند عن علي بن أبي طالب وذكر غيره : أنه قال في تفسير هذه الآية : «الشاكرون » : الثابتون على دينهم ، أبو بكر وأصحابه وكان يقول : أبو بكر أمير الشاكرين ، وهذه عبارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هي إلى صدع أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي عليه السلام وثبوته في ذلك الموطن ، وثبوته في أمر الردة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض وشاع موته ، هاج المنافقون وتكلموا ، وهموا بالاجتماع والمكاشفة ، أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه السلام ، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه السلام فسمع كلام عمر فقال له : اسكت ، فاستمر عمر في كلامه فتشهد أبو بكر فأصغى الناس إليه ، فقال : أما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى ، فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } ، وتلا الآية كلها ، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم ، قالت عائشة رضي الله عنها في البخاري : فنفع الله بخطبة عمر ، ثم بخطبة أبي بكر .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه .