قوله تعالى :{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } يعني كفار مكة ، يقول : إنهم سنوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام . { ولولا كلمة الفصل } لولا أن الله حكم في كلمة الفصل بين الخلق بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة ، حيث قال : { بل الساعة موعدهم } ( القمر-46 ) ، { لقضي بينهم } لفرغ من عذاب الذين يكذبونك في الدنيا ، { وإن الظالمين } المشركين ، { لهم عذاب أليم } في الآخرة .
{ 21-23 } { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يخبر تعالى أن المشركين اتخذوا شركاء يوالونهم ويشتركون هم وإياهم في الكفر وأعماله ، من شياطين الإنس ، الدعاة إلى الكفر { شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } من الشرك والبدع ، وتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ونحو ذلك مما اقتضته أهواؤهم .
مع أن الدين لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى ، ليدين به العباد ويتقربوا به إليه ، فالأصل الحجر على كل أحد أن يشرع شيئا ما جاء عن الله وعن رسوله ، فكيف بهؤلاء الفسقة المشتركين هم وأباؤهم على الكفر .
{ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : لولا الأجل المسمى الذي ضربه الله فاصلا بين الطوائف المختلفة ، وأنه سيؤخرهم إليه ، لقضي بينهم في الوقت الحاضر بسعادة المحق وإهلاك المبطل ، لأن المقتضي للإهلاك موجود ، ولكن أمامهم العذاب الأليم في الآخرة ، هؤلاء وكل ظالم .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى توبيخ المشركين على إصرارهم على كفرهم ، وقارنت بين مصيرهم السئ ، وبين المصير الطيب الذى وعد الله به المؤمنين . . . فقال - تعالى - : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ . . . . بِذَاتِ الصدور } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } أى : ألهم ، والميم صلة الهمزة للتقريع .
وهذا متصل بقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } وقوله - تعالى - : { الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان } كانوا لا يؤمنون به ، فهل لهم آلهة شرعوا لهم الشرك الذى لم يأذن به الله ؟ وإذا استحال هذا فالله لم يشرع الشرك ، فمن أين يدينون به .
فالآية الكريمة تنكر عليهم شركهم بأبلغ أسلوب ، وتؤنبهم على جهالتهم حيث أشركوا بالله - تعالى - : دون أن يكون عندهم دليل أو ما يشبه الدليل على صحة ما وقعوا فيه من باطل .
والمراد بكلمة الفصل فى قوله - تعالى - : { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ما تفضل به - سبحانه - من تأخير العذاب الماحق عنهم .
أى : ولولا حكمنا بتأخير العذاب عنهم - فضلا منا وكرما - لقضى الأمر بين هؤلاء الكافرين وبين المؤمنين ، بأن أهلكنا الكافرين واستأصلنا شأفتهم فى الدنيا ، ولكن شاء ربك أن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة .
{ وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فى الآخرة ، بسبب إصرارهم على ظلمهم وموتهم على الكفر والشرك .
ومن ثم يبدأ جولة أخرى حول الحقيقة الأولى :
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ? ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ، وإن الظالمين لهم عذاب أليم . ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات ، لهم ما يشاءون عند ربهم ، ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، قل : لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ؛ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً ، إن الله غفور شكور . .
في فقرة سابقة قرر أن ما شرعه الله للأمة المسلمة هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ، وهو ما أوحى به إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وفي هذه الفقرة يتساءل في استنكار عما هم فيه وما هم عليه ، من ذا شرعه لهم ما دام الله لم يشرعه ? وهو مخالف لما شرعه منذ أن كان هناك رسالات وتشريعات ?
( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ? ) . .
وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان ؛ فالله وحده هو الذي يشرع لعباده . بما أنه - سبحانه - هو مبدع هذا الكون كله ، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له . والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير ، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس ؛ ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس . وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال . فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور .
ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة ؛ فإن الكثيرين يجادلون فيها ، أو لا يقتنعون بها ، وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله ، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم ، ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم . كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله ! أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله ! وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله !
لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه ، أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها . وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته . ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها ، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى . شرع في هذا كله أصولاً ، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة ، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة . فإذا ما اختلف البشر في شيء من هذا ردوه إلى الله ؛ ورجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها للناس ، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق .
بذلك يتوحد مصدر التشريع ، ويكون الحكم لله وحده . وهو خير الحاكمين . وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله ، وعلى دين الله ، وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام .
( ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ) . .
فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل . ولولاها لقضى الله بينهم ، فأخذ المخالفين لما شرعه الله ، المتبعين لشرع من عداه . لأخذهم بالجزاء العاجل . ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء .
( وإن الظالمين لهم عذاب أليم ) . .
فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم . وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه ?
{ أم لهم شركاء } بل ألهم شركاء ، والهمزة للتقرير والتقريع وشركاؤهم شياطينهم . { شرعوا لهم } بالتزيين . { من الذين ما لم يأذن به الله } كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا . وقيل شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء ، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم بما تدينوا به ، أو صور من سنة لهم . { ولولا كلمة الفصل } أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء ، أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة . { لقضي بينهم } بين الكافرين والمؤمنين ، أو المشركين وشركائهم . { وإن الظالمين لهم عذاب أليم } وقرئ " أن " بالفتح عطفا على كلمة { الفصل } أي { ولولا كلمة الفصل } وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا ، فإن العذاب الأليم غالب في عذاب الآخرة .
{ أم } هذه هي منقطعة لا معادلة ، وهي بتقدير بل وألف الاستفهام . والشركاء في هذه الآية : يحتمل أن يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم ، ويكون الضمير في { لهم } للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي شرع الشركاء لهم ما لم يأذن به الله ، فالاشتراك ها هنا هو في الكفر والغواية ، وليس بشركة الإشراك بالله ، ويحتمل أن يكون المراد ب «الشركاء » : الأصنام والأوثان على معنى : أم لهم أصنام جعلوها شركاء لله في ألوهيته ، ويكون الضمير : في : { شرعوا } لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم . والضمير في : { لهم } للأصنام الشركاء ، أي شرع هؤلاء الكفار لأصنامهم وأوثانهم ما لم يأذن به الله ، و : { شرعوا } معناه : أثبتوا ونهجوا ورسموا . و { الدين } هنا العوائد{[10128]} والأحكام والسيرة ، ويدخل في ذلك أيضاً المعتقدات ، لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعاً ، فأما في المعتقدات فقولهم إن الأصنام آلهة ، وقولهم إنهم يعبدون الأصنام زلفى وغير ذلك ، وأما في الأحكام فكالبحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك من السوائب ونحوها ، والإذن في هذه الآية الأمر . و { كلمة الفصل } : هي ما سبق من قضاء الله تعالى بأنه يؤخر عقابهم إلى الآخرة والقضاء بينهم : هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم .
وقرأ جمهور الناس : «وإن الظالمين » بكسر الهمزة على القطع والاستئناف . وقرأ مسلم بن جندب «وأن الظالمين » بفتح الهمزة ، وهي في موضع رفع عطف على : { كلمة } المعنى : وأن الظالمين لهم في الآخرة عذاب .
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله }
للإضراب الانتقالي وهو انتقال من الكلام على تفرق أهل الشرائع السالفة في شرائعهم مَن انقرض منهم ومن بقي كأهل الكتابين إلى الكلام على ما يشابه ذلك من الاختلاف على أصل الديانة ، وتلك مخالفة المشركين للشرائع كلّها وتلقّيهم دين الإشراك من أيمة الكفر وقادة الضلال .
ومعنى الاستفهام الذي تقضيه { أم } التي للإضراب هو هنا للتقريع والتهكّم ، فالتقريع راجع إلى أنهم شرعوا من الدّين ما لم يأذن به الله والتهكم راجع إلى من شرعوا لهم الشرك ، فسئلوا عمن شرع لهم دين الشرك : أهم شركاء آخرون اعتقدوهم شركاءَ لله في الإلهاية وفي شرع الأديان كما شرع الله للناس الأديان ؟ وهذا تهكّم بهم لأن هذا النوع من الشركاء لم يدّعِه أهل الشرك من العرب . وهذا المعنى هو الذي يساعد تنكير { شركاء } ووصْفَه بجملة { شرعوا لهم من الدين } . ويجوز أن يكون المسؤول عن الذي شرع لهم هو الأصنام التي يعبدونها ، وهو الذي درج عليه المفسرون ، فيكون { لهم } في موضع الحال من { شركاء } .
والمقصود : فضح فظاعة شركهم بعروه عن الانتساب إلى الله ، أي إن لم يكن مشروعاً من الإله الحقّ فهو مشروع من الآلهة الباطلة وهي الشركاء . وظاهر أن تلك الآلهة لا تصلح لتشريع دين لأنها لا تعقل ولا تتكلم ، فتعين أن دين الشرك دين لا مستند له . وقريب من هذا قوله تعالى : { وكذلك زَيَّن لِكَثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } [ الأنعام : 137 ] .
وقيل المراد بالشركاء : أيمة دين الشرك أطلق عليهم اسم الشركاء مجازاً بعلاقة السببية .
وضميرَا { لهم } عائدان إلى { الذين لا يؤمنون بها } [ الشورى : 18 ] أو إلى { الذين يحاجون في الله } [ الشورى : 16 ] . والتعريف في { الدين } للجنس ، أي شرعوا لهم من جنس الدّين ما ، أي ديناً لم يأذن به الله ، أي لم يأذن بِشرعه ، أي لم يرسل به رسولاً منه ولا أوحى به بواسطة ملائكته .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِىَ بينهم }
هو كقوله فيما تقدم { ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمى لقُضي بينهم } [ الشورى : 14 ] .
وكلمة الفصل هي : ما قدّره الله وأرادهُ من إمهالهم . والفصل : الفاصل ، أي الذي لا تردد فيه .
{ وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أليم } .
عطف على جملة { ولولا كلمة الفصل } والمقصود تحقيق إمهالهم إلى أجل مسمى لا يفلتهم من المؤاخذة بما ظَلموا . والمراد بالظالمين المشركون { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
والعذاب الأليم : عذاب الآخرة لجميعهم ، وعذاب الدّنيا بالسيف والذلّ للذين أُخّروا إلى إبَّان حلوله مثل قتلهم يوم بدر .
وَتَوْكيد الخبر بحرف التوكيد لأن هذا الخبر موجه إليهم لأنهم يسمعون هذا الكلام ويعلمون أنهم المقصودون به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم لهم شركاء شرعوا}: سنوا، {لهم من الدين ما لم يأذن به الله} يعني كفار مكة: ألهم آلهة يبينوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله.
{ولولا كلمة الفصل} التي سبقت من الله في الآخرة أنه معذبهم،يقول: لولا ذلك الأجل.
{لقضي بينهم}: لنزل بهم العذاب في الدنيا.
{لهم عذاب أليم}، يعني: وجيع...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم "شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّهُ "يقول: ابتدعوا لهم من الدين ما لم يبح الله لهم ابتداعه. "وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ" يقول تعالى ذكره: ولولا السابق من الله في أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنه مضى من قيله إنهم مؤخرون بالعقوبة إلى قيام الساعة، لفرغ من الحكم بينكم وبينهم بتعجيله العذاب لهم في الدنيا، ولكن لهم في الآخرة من العذاب الأليم، كما قال جلّ ثناؤه: "وَإنّ الظّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ" يقول: وإن الكافرين بالله لهم يوم القيامة عذاب مؤلم مُوجِع.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
علموا أن الأصنام لم يشرعوا لهم من الدين شيئا، إلا أن يقال: إنه أضاف ذلك إلى الأصنام لما هم شرعوا لأنفسهم عبادتها، فأضيف إليها ذلك. وهو كقوله تعالى: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} [إبراهيم: 36] وإنهن لم يُضللن أحدا، لكنه أضاف إليهن الإضلال لما بهنّ ضلّوا، فأضاف إليهن الإضلال على التسبيب.
ويشبه أن يكون غيره أولى بذلك، وهو أن القادة والرؤساء هم الذين أضلوا الأتباع وشرعوا {لهم من الدين ما لم يأذن به الله} أي ما لم يأمر به الله. وهم كذلك كانوا يفعلون: يشرعون للأتباع دينا من ذات أنفسهم بلا حجة ولا برهان، فيتّبعونهم به، والرسل عليهم السلام قد أتوا بالدين بالحجج والبراهين من الله تعالى، فلم يتبعوهم، ويقولون: إنهم بشر، ويتبعون بشرا بلا حجة ولا برهان، يذكر سفههم في ما ذكر، فكان المراد من الشركاء، هم الرؤساء والقادة.
{ولولا كلمة الفصل لقُضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم} يحتمل وجهين:
الثاني: الفصل البيان، تأويله: لولا ما وعد في الدنيا أنه يفصل بينهم وبيّن، في الآخرة بما ذكر: {هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين} [المرسلات: 38] ونحوه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الشركاء في هذه الآية: يحتمل أن يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم، ويكون الضمير في {لهم} للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي شرع الشركاء لهم ما لم يأذن به الله، فالاشتراك ها هنا هو في الكفر والغواية، وليس بشركة الإشراك بالله.. و: {شرعوا} معناه: أثبتوا ونهجوا ورسموا.
و {الدين} هنا العوائد والأحكام والسيرة، ويدخل في ذلك أيضاً المعتقدات، لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعاً، فأما في المعتقدات فقولهم إن الأصنام آلهة، وقولهم إنهم يعبدون الأصنام زلفى وغير ذلك، وأما في الأحكام فكالبحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك من السوائب ونحوها، والإذن في هذه الآية الأمر...
واعلم أن الله تعالى لما بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الآخرة والدنيا أردفه بالتنبيه على ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} ومعنى الهمزة في أم التقرير والتقريع و {شركاؤهم} شياطينهم الذين زينوا الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا لأنهم يعلمون غيرها، وقيل {شركاؤهم} أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم لأنهم هم الذين اتخذوها شركاء لله، ولما كان سببا لضلالتهم جعلت شارعة لدين الضلالة كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} وقوله {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} يعني أن تلك الشرائع بأسرها على ضدين لله، ثم قال: {ولولا كلمة الفصل} أي القضاء السابق بتأخير الجزاء، أو يقال ولولا الوعد بأن الفصل أن يكون يوم القيمة {لقضي بينهم} أي بين الكافرين والمؤمنين أو بين المشركين وشركائهم {وإن الظالمين لهم عذاب أليم} وقرأ بعضهم، وأن بفتح الهمزة في أن عطفا له على كلمة الفصل يعني {ولولا كلمة الفصل} وأن تقريره تعذيب الظالمين في الآخرة {لقضي بينهم} في الدنيا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟).. وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان؛ فالله وحده هو الذي يشرع لعباده. بما أنه -سبحانه- هو مبدع هذا الكون كله، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له. والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس؛ ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس. وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال. فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور. ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة؛ فإن الكثيرين يجادلون فيها، أو لا يقتنعون بها، وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم، ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم. كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله! أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله! وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله!... لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه، أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها. وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته. ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى. شرع في هذا كله أصولاً، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة. فإذا ما اختلف البشر في شيء من هذا ردوه إلى الله؛ ورجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها للناس، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق. بذلك يتوحد مصدر التشريع، ويكون الحكم لله وحده. وهو خير الحاكمين. وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله، وعلى دين الله، وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} للإضراب الانتقالي وهو انتقال من الكلام على تفرق أهل الشرائع السالفة في شرائعهم، مَن انقرض منهم ومن بقي، كأهل الكتابين إلى الكلام على ما يشابه ذلك من الاختلاف على أصل الديانة، وتلك مخالفة المشركين للشرائع كلّها وتلقّيهم دين الإشراك من أيمة الكفر وقادة الضلال...
ومعنى الاستفهام الذي تقضيه {أم} التي للإضراب هو هنا للتقريع والتهكّم، فالتقريع راجع إلى أنهم شرعوا من الدّين ما لم يأذن به الله والتهكم راجع إلى من شرعوا لهم الشرك، فسئلوا عمن شرع لهم دين الشرك: أهم شركاء آخرون اعتقدوهم شركاءَ لله في الإلهية وفي شرع الأديان كما شرع الله للناس الأديان؟ وهذا تهكّم بهم؛ لأن هذا النوع من الشركاء لم يدّعِه أهل الشرك من العرب. وهذا المعنى هو الذي يساعد تنكير {شركاء} ووصْفَه بجملة {شرعوا لهم من الدين}...
يعني: لماذا كذَّبوا محمداً ولم يؤمنوا بما جاء به؟ ألهم شركاء وضعوا لهم شرعاً ومنهجاً يتبعونه، وديناً يدينون به ويتركون دين محمد؟ والشركاء أي: الأشياء التي عبدوها من دون الله، منهم مَنْ عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر أو الشجر أو الحجر أو الملائكة، فهل هذه الآلهة المدَّعاة لها شرع؟ هل قالت لهم: افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا؟
إذن: آلهة بلا منهج وبلا تكاليف فعبادتها باطلة، وهم ما عبدوها إلا لذلك، لأنها بلا منهج وبلا تكاليف، فقط تُرضِي ما في نفوسهم من الرغبة في التديُّن، وما أسهلَ أن يكونَ للإنسان دينٌ بلا تكاليف. والعبادة ما هي إلا طاعة العابد للمعبود في أمره ونهيه، ثم ماذا أعدَّتْ هذه المعبودات لمن أطاعها، وماذا أعدَّتْ لمَنْ عصاها؟
إذن: هذه جمادات لم تقُلْ لكم شيئاً، ولم تأمركم بشيء، ولم تشرع لكم ديناً، بل أنتم شرَّعتم لأنفسكم واتبعتم أهواءكم لإرضاء عاطفة في نفوسكم، آلهتكم من صُنْع أيديكم أو أفكاركم السقيمة الضالة.
لذلك يقول تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].
نعم هؤلاء قوم يفترون على الله الكذب، ويختلقون من عند أنفسهم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، فمن أين أتوا بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام؟ هذه أشياء اخترعوها من عندهم افتراً على الله وكذباً...
{وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ..} أي: الحكم بعدم إهلاكهم وتأخير عذابهم إلى الآخرة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ..} يعني: حُكِم عليهم بالعذاب العاجل.
حين ننظر في الأشياء التي أحلَّها الله والأشياء التي حرَّمها نجدها تعتمد على مراعاة المنفعة ودفع المضرة عن الإنسان، فالحلال فيه نفع والحرام فيه ضرر...
ثم نلحظ على الآية أنها عبَّرتْ عن باطلهم الذي جاءوا به من عند أنفسهم بأنه دين {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ..} فسمي الباطل ديناً تجاوزاً، لأنهم مؤمنون به ويعتبرونه ديناً، كما قال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] على اعتقادهم، والدين ما يدين به الإنسان.
{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الظالم إما يظلم غيره، وإما يظلم نفسه، وهذا أشنع أنواع الظلم، فقد يعقل أن يظلم الإنسان عدوه، إنما يظلم نفسه التي بين جنبيه؟! فكيف يكون ظلم الإنسان لنفسه؟ يظلمها حين يُعرِّضها للعقوبة، ويحرمها من الثواب والنعيم، وأشد أنواع ظلم الإنسان لنفسه أنْ يظلمها في مسألة العقيدة والإيمان بالله {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].