97- وأن المسلم عليه أن يهاجر إلى الدولة الإسلامية ولا يعيش في ذل ، فإن الملائكة تسألهم : فيم كنتم حتى ارتضيتم حياة الذل والهوان ؟ فيجيبون : كنا مستضعفين في الأرض يذلنا غيرنا فتقول الملائكة : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها بدل الذل الذي تقيمون فيه ؟ وأولئك الذين يرضون بالذل مع قدرتهم على الانتقال ، مأواهم عذاب جهنم ، وأنها أسوأ مصير ، فالمسلم لا يصح أن يعيش في ذل ، بل يعيش عزيزاً كريماً .
قوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ، ولم يهاجروا ، منهم : قيس بن الفاكه بن المغيرة ، وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما ، فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم ، فقتلوا مع الكفار ، فقال الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة } ، أراد به ملك الموت وأعوانه ، أو أراد ملك الموت وحده ، كما قال تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [ السجدة :11 ] ، والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع { ظالمي أنفسهم } بالشرك ، وهو نصب على الحال ، أي : في حال ظلمهم .
قيل : أي بالمقام في دار الشرك ، لأن الله تعالى لم يقبل الإسلام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهجرة ، ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا هجرة بعد الفتح ) وهؤلاء قتلوا يوم بدر ، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، وقالوا لهم : { فيم كنتم } ؟ فذلك قوله تعالى : { قالوا فيم كنتم } أي : في ماذا كنتم ؟ أو في أي الفريقين ؟ أكنتم في المسلمين أم في المشركين ؟ سؤال توبيخ وتعيير ، فاعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك .
قوله تعالى : { قالوا كنا مستضعفين } ، عاجزين .
قوله تعالى : { في الأرض } ، يعني : أرض مكة .
قوله تعالى : { قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها } ، يعني : إلى المدينة وتخرجوا من مكة ، من بين أهل الشرك ؟ فأكذبهم الله تعالى وأعلمنا بكذبهم ، وقال : { فأولئك مأواهم } ، منزلهم .
قوله تعالى : { جهنم وساءت مصيراً } ، أي : بئس المصير إلى جهنم . ثم استثنى أهل العذر منهم فقال : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة }
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا }
هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات ، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم ، ويقولون لهم : { فِيمَ كُنْتُمْ } أي : على أي حال كنتم ؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين ؟ بل كثرتم سوادهم ، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين ، وفاتكم الخير الكثير ، والجهاد مع رسوله ، والكون مع المسلمين ، ومعاونتهم على أعدائهم .
{ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض } أي : ضعفاء مقهورين مظلومين ، ليس لنا قدرة على الهجرة . وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم وتوعدهم ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، واستثنى المستضعفين حقيقة .
ولهذا قالت لهم الملائكة : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } وهذا استفهام تقرير ، أي : قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة ، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه ، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله ، كما قال تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم : { فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وهذا كما تقدم ، فيه ذكر بيان السبب الموجِب ، فقد يترتب عليه مقتضاه ، مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه ، وقد يمنع من ذلك مانع .
وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات ، وتركها من المحرمات ، بل من الكبائر ، وفي الآية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والأجل والعمل ، وذلك مأخوذ من لفظ " التوفي " فإنه يدل على ذلك ، لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا .
وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم ، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم ، وموافقته لمحله .
وبعد أن رفع - سبحانه - من شأن المجاهدين ، وبين حال القاعدين عن الجهاد بعذر أو بغير عذر ، أتبع ذلك ببيان حال القاعدين فى دار الكفر بدون هجرة إلى دار الإِسلام ، ووعد المهاجرين فى سبيل الله بحسن العاقبة فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ . . . غَفُوراً رَّحِيماً } .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( 97 ) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ( 98 ) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ( 99 ) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 100 )
روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ } روايات منها ما أخرجه البخارى عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسوله صلى الله عليه وسلم يأتى السهم فيرمى به فيصب أحدهم فيقتله . أو يضرب فيقتل . فأنزل الله : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ } . . . الآية . ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا . وكانوا يخفون الإِسلام . فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر . فأصيب بعضهم . فقال المسلمون : هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستفغروا لهم فنزلت الآية .
قال ابن كثير - بعد ذكره لهذه الروايات - . هذه الآية الكريمة عامة فى كل من أقام بين ظهرانى المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه ، مرتكب حراما بالإِجماع وبنص هذه الآية .
وقوله : { تَوَفَّاهُمُ } يحتمل أن يكون فعلا ماضيا ، وتركت علامة التأنيث للفصل ، ولأن الفاعل ليس مؤنثاً تأنيثاً حقيقياً . ويحتمل أن يكون فعلا مضارعا وأصله " تتوفاهم " فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً . وهو من توفى الشئ إذا أخذه وافيا تام .
والمراد من التوفى : قبض أرواحهم وإماتتهم . وقيل المراد به : حشرهم إلى جهنم .
والمراد من الملائكة : ملك الموت وأعوانه الذين يتلون قبض الأرواح بإذن الله وأمره .
وظلم النفس معناه : أن يفعل الإِنسان فعلا يؤدى إلى مضرته وسوء عاقبته سواء أكان هذا الفعل كفراً أم معصية .
وإنما كان ظالما لنفسه لأنه قال قولا أو فعل فعلا ليس من شأن العقلاء أن يقولوه أو يفعلوه لو خامة عقباه .
والمعنى : إن الذين تقبض الملائكة أوراحهم وتميتهم حال كونهم قد ظلموا أنفسهم بسبب رضاهم بالذل والهوان ، وإقامتهم فى أرض لم يستطيعوا أن يباشروا تعاليم دينهم فيها ، وعدم هجرتهم إلى الأرض التى يقيم فيها إخوانهم فى العقيدة مع قدرتهم على الهجرة . .
إن الذين تتوفاهم الملائكة وهم بهذه الحال ، تسألهم الملائكة سؤال تقريع وتوبيخ عند قبض أرواحهم أو يوم القيامة فتقول لهم : " فيم كنتم " أى : فى أى حال كنتم ؟ أكنتم فى عزة أم فى ذلة ؟ وكيف رضيتم البقاء مع الكافرين الذين أذلوا وسخروا من دينكم ؟ أو المعنى : فى أى شئ كنتم من أمور دينكم ؟
{ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } أى : قال الذين ظلموا أنفسهم للملائكة : كنا فى الدنيا يستضعفنا أهل الشرك فى أرضنا وبلادنا ، وصيرونا أذلاء لا نملك من أمرنا شيئاً . وهو اعتذار قبيح يدل على هوان المعتذرين به وضعف نفوسهم ، ولذلك لم تقبل منهم الملائكة هذا العذر ، بل ردت عليهم بما حكاه الله - تعالى - فى قوله : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } ؟
فالاستفهام لإِنكار عذرهم ، وعدم الاعتداد به .
أى أن الملائكة تقول لهم - كما يقول الآلوسى - : إن عذرهم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير ، إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذى أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة . أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله - تعالى - بأنكم مقهورون غير مقبول ، لأنكم متمكنون من المهاجرة ومن الخروج من تحت أيديهم .
وقوله { ظالمي أَنْفُسِهِمْ } جملة حالية من ضمير المفعول فى قوله : { تَوَفَّاهُمُ } أى : تتوفاهم الملائكة فى حال ظلمهم لأنفسهم . والإِضافة فيه لفظية فلا تفيده تعريفا . والأصل ظالمين أنفسهم فحذفت النون تخفيفا .
قال الجمل ما ملخصه : وخبر إن فى قوله { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ } . محذوف تقديره : إن الذين توفاهم الملائكة هلكوا . ويكون قوله : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } مبينا لتلك الجملة المحذوفة . أو يكون الخبر قوله { فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ودخلت الفاء فى الخبر تشبيها للموصول باسم الشرط . .
وقوله { قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } جملة مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر فكأنه قيل : فماذا قال أولئك الذين ظلموا أنفسهم للملائكة ؟ فكان الجواب : كنا مستضعفين فى الأرض . قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف صح وقوع قوله { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } جواباً عن قولهم : فيهم كنتم وكان حق الجواب : كنا فى كذا أو لم نكن فى شئ ؟ قلت معنى " فيم كنتم " التوبيخ بأنهم لم يكونوا فى شئ من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا . فقالوا : كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به ، واعتلالا بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا فى شئ . فبكتتهم الملائكة بقولهم : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } ، أرادوا : إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التى تمنعون فيها من إظهار دينكم .
وهذا دليل على أن الرجل إذا كان فى بدل لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب لبعض الأسباب - والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر - أو علم أنه فى غير بلده أقوم بحق الله وأدوم للعبادة حقت عليه المهاجرة .
ويبدو أن الإِمام الزمخشرى كان عند تفسيره لهذه الآية قد هاجر من موطنه للإِقامة بجوار بيت الله الحرام ، فقد قال خلاف تفسيره لها " اللهم إن كنت تعلم أن هجرتى إليك لم تكن إلا للفرار بدينى فاجعلها سببا فى خاتمة الخير ، ودرك المرجو من فضلك ، والمبتغى من رحمت . وصل جوارى لك بعكوفى عند بيتك بجوارك فى دار كرامتك يا واسع المغفرة .
وقال القرطبى : يفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم فى تركهم الهجرة ، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شئ من هذا .
وإنما أضرب عن ذكرهم فى الصحابة لشدة ما واقعوه .
وقوله { فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً } بيان لسوء عاقبة هؤلاء الذين آثروا العيش فى أرض الكفر مع الذل على الهجرة إلى أرض الإِسلام .
أى : فأولئك الذين ماتوا ظالمين لأنفسهم { مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أى : مسكنهم الذى يأوون إليه فى الآخرة جهنم ، وهى مصيرهم الذى سيصيرون إليه { وَسَآءَتْ مَصِيراً } أى : وساءت جهنم لأهلها الذين صراوا إليها مصيرا ومسكنا ومأوى ، لأنهم سيذوقون فيها العذاب الأليم .
وجئ باسم الإِشارة { فأولئك } للاشعار بأنهم جديرون بالحكم الوارد بعده للصفات التى وصفوا بها قبله ، فهم كانوا قادرين على الهجرة لكنهم لم يهاجروا لضعف نفوسهم وحرصهم على أموالهم ومصالحهم .
والمخصوص بالذم فى قوله { وَسَآءَتْ مَصِيراً } محذوف . أى : جهنم .
ثم استثنى - سبحانه - من هذا المصير السئ لمن ظلموا أنفسهم ثلاثة أصناف من الناس فقال : { إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان } .
بعد ذلك يتحدث عن فريق من القاعدين ؛ أولئك الذين يظلون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون ؛ تمسك بهم أموالهم ومصالحهم ، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق - وهم قادرون لو أرادوا واعتزموا التضحية - أن يهاجروا . . حتى يحين أجلهم ؛ وتأتي الملائكة لتتوفاهم . يتحدث عنهم فيصورهم صورة زرية منكرة ؛ تستنهض كل قاعد منهم للفرار بدينه وعقيدته ، وبمصيره عند ربه ؛ من هذا الموقف الذي يرسمه لهم :
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . . قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض . قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ فأولئك مأواهم جهنم ، وساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورًا ) . .
لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية - في مكة وغيرها - بعد هجرة رسول الله [ ص ] وقيام الدولة المسلمة . فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا . حبستهم أموالهم ومصالحهم - حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجرا يحمل معه شيئا من ماله - أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة - حيث لم يكن المشركون يدعون مسلما يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق . . وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي ، من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلا للهجرة . .
وقد اشتد أذى المشركين لهؤلاء الباقين من أفراد المسلمين ؛ بعد عجزهم عن إدراك الرسول [ ص ] وصاحبه ، ومنعهما من الهجرة . وبعد قيام الدولة المسلمة . وبعد تعرض الدولة المسلمة لتجارة قريش في بدر ، وانتصار المسلمين ذلك الانتصار الحاسم . فأخذ المشركون يسومون هذه البقية المتخلفة ألوانا من العذاب والنكال ، ويفتنونهم عن دينهم في غيظ شديد .
وقد فتن بعضهم عن دينهم فعلا ؛ واضطر بعضهم إلى إظهار الكفر تقية ، ومشاركة المشركين عبادتهم . . وكانت هذه التقية جائزة لهم يوم أن لم تكن لهم دولة يهاجرون إليها - متى استطاعوا - فأما بعد قيام الدولة ، ووجود دار الإسلام فإن الخضوع للفتنة ، أو الالتجاء للتقية ، وفي الوسع الهجرة والجهر بالإسلام ، والحياة في دار الإسلام . . أمر غير مقبول .
وهكذا نزلت هذه النصوص ؛ تسمي هؤلاء القاعدين محافظة على أموالهم ومصالحهم ، أو إشفاقا من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق . . حتى يحين أجلهم . . تسميهم : ( ظالمي أنفسهم ) . . بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام ، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة . وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة ، وتوعدهم ( جهنم وساءت مصيرًا ) . . مما يدل على أنها تعني الذين فتنواعن دينهم بالفعل هناك !
ولكن التعبير القرآني - على أسلوب القرآن - يعبر في صورة ، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار : ( إن الذين توفاهم الملائكة . . ظالمي أنفسهم . . قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض ! قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة ، فتهاجروا فيها ؟ ! ) . .
إن القرآن يعالج نفوسا بشرية ؛ ويهدف الى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها ؛ وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة . . لذلك يرسم هذا المشهد . . إنه يصور حقيقة . ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام ، في علاج النفس البشرية . .
ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية ، وتتحفز لتصور ما فيه . وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافا وتحفزا وحساسية .
وهم - القاعدون - ظلموا أنفسهم . وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم . . ظالمي أنفسهم . وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها . إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه ؛ وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه ، فهذه هي اللحظة الأخيرة .
ولكن الملائكة لا يتوفونهم - ظالمي أنفسهم - في صمت . بل يقلبون ماضيهم ، ويستنكرون أمرهم ! ويسألونهم : فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم ؟ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا :
فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع ؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع !
ويجيب هؤلاء المحتضرون ، في لحظة الاحتضار ، على هذا الاستنكار ، جوابا كله مذلة ، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة .
( قالوا : كنا مستضعفين في الأرض ) . .
كنا مستضعفين . يستضعفنا الأقوياء . كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئا .
وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية ؛ وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار ، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة . . فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم . بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة ؛ ويؤنبونهم على عدم المحاولة ، والفرصة قائمة : ( قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ ! ) . .
إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم - إذن - على قبول الذل والهوان والاستضعاف ، والفتنة عن الإيمان . . إنما كان هناك شيء آخر . . حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر ، وهناك دار الإسلام . ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة . والهجرة إليها مستطاعة ؛ مع احتمال الآلام والتضحيات .
{ إن الذين توفاهم الملائكة } يحتمل الماضي والمضارع ، وقرئ " توفتهم " و " توفاهم " على مضارع وفيت بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها . { ظالمي أنفسهم } في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة فإنها نزلت في أناس من مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة . { قالوا } أي الملائكة توبيخا لهم . { فيم كنتم } في أي شيء كنتم من أمر دينكم . { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة ، أو عن إظهار الدين وإعلاء كلمة الله . { قالوا } أي الملائكة تكذيبا لهم أو تبكيتا . { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } إلى قطر آخر كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة . { فأولئك مأواهم جهنم } لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار . وهو خبر إن والفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط ، وقالوا فيم كنتم حال من الملائكة بإضمار قد أو الخبر قالوا والعائد محذوف أي قالوا لهم ، وهو جملة معطوفة على الجملة التي قبلها مستنتجة منها . { وساءت مصيرا } مصيرهم نار جهنم ، وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ( من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام " .
المراد بهذه الآية إلى قوله { مصيراً } جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم ، وفتن منهم جماعة فافتتنوا ، فما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار فقتلوا ببدر ، فنزلت الآية فيهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما ، كان قوم ن أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بإسلامهم ، فأخرجهم المشركون يوم بدر فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون كان أصحابنا هؤلاء مسلمين{[4225]} وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت { إن الذين توفاهم الملائكة } الآية .
قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية ، أن لا عذر لهم ، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة ، فنزلت فيهم هذه الآية الأخرى ، { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله }{[4226]} الآية فكتب إليهم المسلمون بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير . ثم نزلت فيهم { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم }{[4227]} فكتبوا إليهم بذلك ، أن الله قد جعل لكم مخرجاً فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل{[4228]} ، وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في خمسة قتلوا ببدر ، وهم قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف{[4229]} ، قال النقاش : في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غر هؤلاء دينهم .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : وكان العباس ممن خرج مع الكفار لكنه نجا وأسر ، وكان من المطعمين في نفير بدر ، قال السدي : لما أسر العباس وعقيل ونوفل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : «افد نفسك وابن أخيك ، فقال له العباس : يا رسول الله ، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك ؟ قال يا عباس : إنكم خاصمتم فخصمتم » ثم تلا عليه هذه الآية { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها }{[4230]} قال السدي : فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر ، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : وفي هذا الذي قاله السدي نظر ، والذي يجري مع الأصول أن من مات من أولئك بعد أن قبل الفتنة وارتد فهو كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود ، وهذا هو ظاهر أمر تلك الجماعة وإن فرضنا فيهم من مات مؤمناً وأكره على الخروج ، أو مات بمكة فإنما هو عاص في ترك الهجرة ، مأواه جهنم على جهة العصيان دون خلود ، لكن لما لم يتعين أحد أنه مات على الإيمان لم يسغ ذكرهم في الصحابة ، ولم يعتد بما كان عرف منهم قبل ، ولا حجة للمعتزلة في شيء من أمر هؤلاء على تكفيرهم بالمعاصي ، وأما العباس فقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله أنه أسلم قبل بدر ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر من لقي العباس فلا يقتله ، فإنما أخرج كرهاً .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق - رحمه الله - وذكر أنه إنما أسلم مأسوراً حين ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أمر المال الذي ترك عند أم الفضل ، وذكر أنه أسلم في عام خيبر ، وكان يكتب إلى رسول الله بأخبار المشركين ، وكان يحب أن يهاجر ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا .
قال القاضي أبو محمد : لكن عامله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسر على ظاهر أمره .
وقوله تعالى : { توفاهم } يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً لم يستند بعلامة تأنيث ، إذ تأنيث لفظ { الملائكة } غير حقيقي ، ويحتمل أن يكون فعلاً مستقبلاً على معنى تتوفاهم ، فحذفت إحدى التاءين ويكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي من هذا المعنى في المستقبل بعد نزول الآية . وقرأ إبراهيم «تُوفاهم » بضم التاء ، قال أبو الفتح : كأنه يدفعون إلى الملائكة ويحتسبون عليهم{[4231]} . و «تَوفاهم » بفتح التاء معناه : تقبض أرواحهم ، وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى : تحشرهم إلى النار و { ظالمي أنفسهم } نصب على الحال أي ظالميها بترك الهجرة ، قال الزجّاج : حذفت النون من «ظالمين » تخفيفاً ، كقوله تعالى : { بالغ الكعبة }{[4232]} ، وقول الملائكة { فيم كنتم } ؟ تقرير وتوبيخ ، وقول هؤلاء { كنا مستضعفين في الأرض } اعتذار غير صحيح ، إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل ثم وقفتهم الملائكة على ذنبهم بقولهم { ألم تكن أرض الله واسعة } والأرض في قول هؤلاء هي أرض مكة خاصة ، و { ارض الله } هي الأرض بالإطلاق ، والمراد فتهاجروا فيها إلى موضع الأمن ، وهذه المقالة إنما هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء . وهي دالة على أنهم ماتوا مسلمين ، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا ، وإنما أضرب على ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه ، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان ، ولاحتمال ردته ، وتوعدهم الله تعالى بأن { مأواهم جهنم } .