قوله تعالى : { الم * أحسب الناس } أظن الناس ، { أن يتركوا } بغير اختبار ولا ابتلاء ، { أن يقولوا } أي : بأن يقولوا ، { آمنا وهم لا يفتنون } لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم كلا . لنختبرنهم ليبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب . واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، قال الشعبي : نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لا يقبل منكم إقرار بالإسلام حتى تهاجروا ، فخرجوا عامدين إلى المدينة فتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا ، فأنزل الله هاتين الآيتين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : وأراد بالناس الذين آمنوا بمكة : سلمة بن هشام ، وعياش ابن ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وعمار بن ياسر وغيرهم . وقال ابن جريج : نزلت في عمار بن ياسر ، كان يعذب في الله عز وجل . وقال مقاتل :نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر ، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سيد الشهداء مهجع بن عبد الله وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة " ، فجزع أبواه وامرأته فأنزل الله فيهم هذه الآية . وقيل : { وهم لا يفتنون } بالأوامر والنواهي ، وذلك أن الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان ، ثم فرض عليهم الصلاة ، والزكاة ، وسائر الشرائع ، فشق على بعضهم ، فأنزل الله هذه الآية .
يخبر تعالى عن [ تمام ] حكمته وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن " وادعى لنفسه الإيمان ، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن ، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه .
فإنهم لو كان الأمر كذلك ، لم يتميز الصادق من الكاذب ، والمحق من المبطل ، ولكن سنته وعادته في الأولين وفي هذه الأمة ، أن يبتليهم بالسراء والضراء ، والعسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والغنى والفقر ، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان ، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن ، التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة ، والشهوات المعارضة للإرادة ، فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل ، ويدفعها{[619]} بما معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب ، أو الصارفة عن ما أمر اللّه به ورسوله ، يعمل بمقتضى الإيمان ، ويجاهد شهوته ، دل ذلك على صدق إيمانه وصحته .
ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا ، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات ، دلَّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه .
والناس في هذا المقام درجات لا يحصيها إلا اللّه ، فمستقل ومستكثر ، فنسأل اللّه تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وأن يثبت قلوبنا على دينه ، فالابتلاء والامتحان للنفوس بمنزلة الكير ، يخرج خبثها وطيبها .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } للإِنكار و { حسب } من الحسبان بمعنى الظن . وقوله : { يُفْتَنُونَ } من الفتن ، بمعنى الاختبار والامتحان .
يقال : فتنت الذهب بالنار ، أى : أدخلته فيها لتعلم الجيد منه من الخبيث .
وجملة " أن يتركوا " سدت مسد مفعولى حسب ، وجملة " أن يقولوا " فى موضع نصب ، على معنى : لأن يقولوا ، وهى متعلقة بقوله : { يتركوا } . وجملة " وهم لا يفتنون " فى موضع الحال من ضمير " يتركوا " .
والمعنى : أظن الناس أن يتركوا بدون امتحان ، واختبار ، وابتلاء ، وبدون نزول المصائب بهم ، لأنهم نطقوا بكلمة الإِيمان ؟ إن ظنهم باطل ، ووهم فاسد ، لأن الإِيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط ، بل هو عقيدة تكلف صاحبها الكثير من ألوان الابتلاء والاختبار ، عن طريق التعرض لفقد الأموال والأنفس والثمرات ، حتى يتميز قوى الإِيمان من ضعيفه .
قال القرطبى : والمراد بالناس قوم من المؤمنين كانوا بن ربيعة ، والوليد بن الوليد . . . فكانت صدورهم تضيق بذلك ، وربما استنكروا أن يمكن الله الكفار من المؤمنين . قال مجاهد وغيره : فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هى سيرة الله فى عباده ، اختبار للمؤمنين وفتنة .
قال ابن عطية : وهذه الآية وإن اكنت نزلت بهذا السبب أو ما فى معناه من الأقوال ، فهى باقية فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، موجد حكمها بقية الدهر
وبعد هذا الافتتاح يبدأ الحديث عن الإيمان ، والفتنة التي يتعرض لها المؤمنون لتحقيق هذا الإيمان ؛ وكشف الصادقين والكاذبين بالفتنة والابتلاء :
( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا : آمنا وهم لا يفتنون ? ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) .
إنه الإيقاع الأول في هذا المقطع القوي من السورة . يساق في صورة استفهام استنكاري لمفهوم الناس للإيمان ، وحسبانهم أنه كلمة تقال باللسان .
( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا : آمنا وهم لا يفتنون ? ) . .
إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ؛ وأمانة ذات أعباء ؛ وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال . فلا يكفي أن يقول الناس : آمنا . وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم . كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به - وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه - وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب .
هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت ، وسنة جارية ، في ميزان الله سبحانه :
{ أحسب الناس } الحسبان مما يتعلق بمضامين الجمل للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك اقتضى مفعولين متلازمين أو ما يسد مسدهما كقوله : { أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } فإن معناه أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم { آمنا } ، فالترك أول مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم { آمنا } هو الثاني كقولك : حسبت ضربه للتأديب ، أو أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم { آمنا } بل يمتحنهم الله بمشاق التكاليف ، كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والثابت في الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات ، فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب . روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين ، وقيل في عمار وقد عذب في الله تعالى ، وقيل في مهجع مولى عمر بن الخطاب رماه عامر بن الحضرمي بسهم يوم بدر فقتله فجزع عليه أبواه وامرأته .