البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ} (2)

و { الناس } : فسر بمن نزلت فيه الآية .

وقال الحسن : الناس هنا المنافقون ، أي أن يتركوا لمجرد قولهم آمنا .

وحسب يطلب مفعولين .

فقال الحوفي ، وابن عطية ، وأبو البقاء : سدت أن وما بعدها من معمولها مسد المفعولين ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلاً من أن يتركوا .

وأن يكونوا في موضع نصب بعد إسقاط الخافض ، وقدروه بأن يقولوا ولأن يقولوا .

وقال ابن عطية ، وأبو البقاء : وإذا قدرت الباء كان حالاً .

قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك أنه في الباء كما تقول : تركت زيداً بحاله ، وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي حسبوا أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى ، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم بالإيمان .

وقال الزمخشري : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان ؟ قلت : هو في قوله : { أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } ، وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب ، ولقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة للترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :

فتركته جزر السباع ينشنه . . .

ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : تركتهم غير مفتونين ، لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ؟ فإن قلت : { أن يقولوا } هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ ؟ قلت : كما تقول : خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قوله : خرجت مخافة الشر وضربته تأديباً ، تعليلين .

وتقول أيضاً : حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً .

انتهى ، وهو كلام فيه اضطراب .

ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة ، يعني أنه حال ، لأنه سبك ذلك من قوله : { وهم لا يفتنون } ، وهذه جملة حالية .

ثم ذكر { أن يتركوا } هنا من الترك الذي هو من التصيير ، وهذا لا يصح ، لأن مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم : { وهم لا يفتنون } ، وهذا كلام لا يصح .

وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح ، وأن يكون جزر السباع مفعولاً ثانياً لترك بمعنى صير ، بخلاف ما قدر في الآية .

وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ، فلا يصح ؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم ، كان غير مفتونين حالاً ، إذ لا ينعقد من تركهم ، بمعنى تصييرهم ، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم ، بمعنى تصييرهم ، إلى مفعول ثان ، لأن غير مفتونين عنده حال ، لا معفول ثان .

وأما قوله : فإن قلت { أن يقولوا } إلى آخره ، فيحتاج إلى فضلة فهم ، وذلك أن قوله : { أن يقولوا } هو علة تركهم فليس كذلك ، لأنه لو كان علة له لكان متعلقاً ، كما يتعلق بالفعل ، ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر ، أو كائن ، والخبر غير المبتدأ .

ولو كان لقولهم علة للترك ، لكان من تمامه ، فكان يحتاج إلى خبر .

وأما قوله : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، فلمخافة ليس علة للخروج ، بل للخبر المحذوف الذي وهو مستقر ، أو كائن .

{ وهم لا يفتنون } ، قال الشعبي : الفتنة هنا ما كلفه المؤمنون من الهجرة التي لم يتركوا دونها .

وقال الكلبي : هو مثال ، { أو يلبسكم شيعاً } وقال مجاهد : يتبتلون في أنفسهم وأموالهم .

و { الذين من قبلهم } : المؤمنون أتباع الأنبياء ، أصابهم من المحن ما فرق به المؤمن بالمنشار فرقتين ، وتمشط بأمشاط الحديد ، ولا يرجع عن دينه .