قوله : { أَن يُتْرَكُواْ } : سَدَّ مَسَدَّ مفعولَيْ حَسِب عند الجمهور ، ومَسَدَّ أحدِهما عند الأخفشِ .
قوله : " أنْ يقولوا " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ " أَنْ يُتْرَكوا " ، أبدلَ مصدراً مؤولاً مِنْ مثلِه . الثاني : أنها على إسقاط الخافض وهو الباءُ ، أو اللام ، أي : بأَنْ يَقولوا ، أو لأن يقولوا . قال ابن عطية وأبو البقاء : " وإذا قُدِّرَتِ الباءُ كان حالاً " . قال ابن عطية : " والمعنى في الباء واللام مختلفٌ ؛ وذلك أنَّه في الباء كما تقول : " تركْتُ زيداً بحالِه " / وهي في اللام بمعنى مِنْ أجل أي : أَحَسِبوا أنَّ إيمانَهم عِلةٌ للترك " انتهى . وهذا تفسيرُ معنى ، ولو فَسَّر الإِعرابَ لقال : أَحُسْبانُهم التركَ لأجل تلفُّظِهم بالإِيمان .
وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : فأين الكلامُ الدالُّ على المضمونِ الذي يَقْتضيه الحُسبانُ ؟ قلت : هو في قولِه : { أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ : آمَنَّا ، وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } . وذلك أنَّ تقديرَه : أَحَسِبُوا تَرْكَهم غيرَ مفتونين لقولِهم : آمنَّا ، فالتركُ أولُ مفعولَيْ " حَسِب " و " لقولهم آمنَّا " هو الخبر . وأمَّا غيرَ مفتونين فتتمةُ التركِ ؛ لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :
3633 - فَتَرَكْتُه جَزَرَ السِّباعِ يَنُشْنَه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحُسْبان تَقْدِرُ أَنْ تقولَ : تَرَكَهم غيرَ مفتونين لقولِهم : آمنَّا على [ تقدير ] : حاصل ومستقر قبل اللام . فإنْ قلت : " أَنْ يَقُولوا " هو علةُ تَرْكِهم غيرَ مَفْتونين ، فكيف يَصِحُّ أن يقعَ خبرَ مبتدأ ؟ قلت : كما تقول : خروجُه لمخافةِ الشرِّ وضَرْبُه للتأديب ، وقد كان التأديبُ والمخافةُ في قولِك : خَرَجْتُ مخافةَ الشرِّ وضَرَبْتُه تأديباً تعليلين . وتقول أيضاً : حَسِبْتُ خروجَه لمخافةِ الشَّرِّ ، وظنَنْتُ ضربَه للتأديب ، فتجعلهما مفعولين كما جعلتَهما مبتدأ وخبراً " .
قال الشيخ بعد هذا كلِّه : " وهو كلامٌ فيه اضطرابٌ ؛ ذكر أولاً أنَّ تقديرَه غيرَ مفتونين تتمةٌ ، يعني أنه حالٌ لأنه سَبَكَ ذلك مِنْ قولِهِ { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } وهي جملةٌ حالية ، ثم ذكر أَنَّ " يُتْركوا " هنا من الترك الذي هو تَصْييرٌ . ولا يَصِحُّ ؛ لأنَّ مفعولَ " صيَّر " الثاني لا يَسْتقيمُ أَنْ يكونَ " لقولِهم " ؛ إذا يصيرُ التقديرُ : أن يُصَيَّروا لقولِهم وهم لا يُفْتنون ، وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ . وأمَّا ما مَثَّله به من البيت فإنه يَصِحُّ أن يكون " جَزَرَ السِّباع " مفعولاً ثانياً ل تَرَكَ بمعنى صَيَّر ، بخلاف ما قَدَّر في الآية . وأمَّا تقديرهُ تَرَكهم غيرَ مفتونين لقولهم [ آمَنَّا ] على تقديرِ حاصل ومستقر قبل اللام فلا يَصِحُّ إذا كان تركُهم بمعنى تصييرهم ، وكان غيرَ مفتونين حالاً ؛ إذ لا يَنْعَقِد مِنْ تَرْكِهم بمعنى تصييرِهم وَتَقَوُّلِهم مبتدأٌ وخبرٌ ، لاحتياجِ تَرْكِهم بمعنى تصييرِهم إلى مفعولٍ ثانٍ لأنَّ غيرَ مفتونين عنده حالٌ لا مفعولٌ ثانٍ .
وأمَّا قولُه : فإنْ قلت : أَنْ يقولوا إلى آخره فيحتاج إلى فَضْلِ فَهْمٍ : وذلك أنَّ قولَه : " أَنْ يقولوا " هو علةُ تَرْكِهم فليس كذلك ؛ لأنه لو كان علةً له لكان به متعلقاً كما يتعلَّقُ بالفعلِ ، ولكنه علةٌ للخبرِ المحذوفِ الذي هو مستقر أو كائن ، والخبرُ غيرُ المبتدأ ، ولو كان " لقولِهم " علةً للترك لكان مِنْ تمامِه فكان يحتاج إلى خبرٍ . وأمَّا قولُه كما تقول : خروجُه لمخافةِ الشرِّ ف " لمخافة " ليس علةً للخروجِ بل للخبر المحذوف الذي هو مستقرٌّ أو كائن " انتهى .
قلت : وهذا الذي ذكره الشيخُ كلُّه جوابُه : أنَّ الزمخشريَّ إنما نظر إلى جانب المعنى ، وكلامُه عليه صحيحٌ . وأمَّا قولُه : ليس علةً للخروج ونحو ذلك يعني في اللفظ . وأمَّا في المعنى فهو علةٌ له قطعاً ، ولولا خَوْفُ الخروج عن المقصود .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.