فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ} (2)

{ أحسب الناس } الاستفهام للتوبيخ والتقريع . أو للتقرير ، والحسبان قوة أحد النقيضين على الآخر ، كالظن بخلاف الشك فهو الوقوف بينهما والعلم هو القطع على أحدهما ، ولا يصح تعليقهما بمعاني المفردات ، ولكن بمضامين الجمل { أن يتركوا أن يقولوا } أي لأن يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا { آمنا } أي نطقوا بكلمة الشهادة .

{ وهم لا يفتنون } أي يتركون بغير اختبار ، ولا ابتلاء وليس الأمر كما حسبوا بل لا بد أن نختبرهم حتى يتبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب والثابت في الدين من المضارب فيه فالآية مسوقة لإنكار ذلك الحسبان واستبعاده ، وبيان أنه لا بد من الامتحان بأنواع التكاليف وغيرها ؛ قال الزجاج : المعنى أحسبوا : أن نقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ؟ ولا يمتحنون بما يتبين به حقيقة إيمانهم ؟ بل يمتحنون لتميز الراسخ في الدين من غيره .

قال السدي ، وقتادة : ومجاهد : أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب ، وسيأتي في بيان سبب نزول هذه الآيات ما يوضح معنى ما ذكرنا قال ابن عطية : وهذه الآية وإن كانت نازلة في سبب خاص- فهي باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، موجود حكمها بقية الدهر ، وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو ، وغير ذلك . والفتنة الامتحان بشدائد التكليف ، من مفارقة الأوطان ، والمهاجرة ، ومجاهدة الأعداء ، وسائر الطاعات الشاقة ، وهجر الشهوات ، وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم ، لينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات ، فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب .

أخرج عبد بن حميد ، وابن منذر ، وابن جرير وغيرهم : أنها أنزلت ناس كانوا بمكة وقد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما أنزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ، ولا إسلام حتى تهاجروا ، قال : " فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم ، فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنه قد أنزل فيكم كذا كذا ، فقالوا : نخرج فإن اتبعنا أحد قتلناه ، فخرجوا فاتبعهم المشركون ، فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا ، فأنزل الله فيهم : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ، ثم جاهدوا وصبروا ، إن ربك من بعدها لغفور رحيم } ، وعن قتادة نحوه بأخصر منه ، وقيل : نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله ، وعن ابن مسعود قال : أول من أظهر الله إسلامه سبعة ، رسول الله ، وأبو بكر ، وسمية أم عمار ، وعمار ، وصهيب ، وبلال ، والمقداد ، فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب ، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه ، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد ، وصهروهم في الشمس ، فما منهم من أحد إلا وقد آتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله ، وهان على قومه ، فأخذوه وأعطوه الولدان ، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول : أحد أحد{[1352]}


[1352]:أنظر إلى قصص "ابتلاء الصحابة ومحنهم" في كتب السيرة. سيرة ابن هشام مثلا.