25- لقد أرسلنا رسلنا الذين اصطفيناهم بالمعجزات القاطعة ، وأنزلنا معهم الكتب المتضمنة للأحكام وشرائع الدين ، والميزان الذي يحقق الإنصاف في التعامل ، ليتعامل الناس فيما بينهم بالعدل ، وخلقنا الحديد فيه عذاب شديد في الحرب ، ومنافع للناس في السلم ، يستغلونه في التصنيع ، لينتفعوا به في مصالحهم ومعايشهم ، وليعلم الله من ينصر دينه ، وينصر رسله غائباً عنهم . إن الله قادر بذاته . لا يفتقر إلى عون أحد{[220]} .
قوله عز وجل :{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالآيات والحجج ، { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } يعني : العدل . وقال مقاتل بن سليمان : هو ما يوزن به ، أي : ووضعنا الميزان كما قال : { والسماء رفعها ووضع الميزان }( الرحمن- 7 ) { ليقوم الناس بالقسط } ، ليتعاملوا بينهم بالعدل . { وأنزلنا الحديد } روي عن ابن عمر يرفعه : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد ، والنار ، والماء ، والملح . وقال أهل المعاني معنى قوله : { أنزلنا الحديد } أنشأنا وأحدثنا ، أي : أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعه بوحيه . وقال قطرب هذا من النزل كما يقال : أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً ، فمعنى الآية : أنه جعل ذلك نزلاً لهم . ومثله قوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج }( الزمر- 6 ) . { فيه بأس شديد } قوة شديدة ، يعني : السلاح للحرب . قال مجاهد : فيه جنة وسلاح يعني آلة الدفع وآلة الضرب ، { ومنافع للناس } مما ينتفعون به في مصالحهم كالسكين والفأس والإبرة ونحوها ، إذ هو آلة لكل صنعة ، { وليعلم الله } أي : أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق والعدل وليعلم الله وليرى الله ، { من ينصره } أي : دينه ، { ورسله بالغيب } أي : قام بنصرة الدين ولم ير الله ولا الآخرة ، وإنما يحمد ويثاب من أطاع الله بالغيب ، { إن الله قوي عزيز } قوي في أمره ، عزيز في ملكه .
{ 25-27 } { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }
يقول تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيته .
{ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ } وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم ، إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم ، { وَالْمِيزَانَ } وهو العدل في الأقوال والأفعال ، والدين الذي جاءت به الرسل ، كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق ، وفي الجنايات والقصاص والحدود [ والمواريث وغير ذلك ] ، وذلك { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } قياما بدين الله ، وتحصيلا لمصالحهم التي لا يمكن حصرها وعدها ، وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع ، وهو القيام بالقسط ، وإن اختلفت أنواع العدل ، بحسب الأزمنة والأحوال ، { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } من آلات الحرب ، كالسلاح والدروع وغير ذلك .
{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف ، والأواني وآلات الحرث ، حتى إنه قل أن يوجد شيء إلا وهو يحتاج إلى الحديد .
{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } أي : ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد ، فيتبين من ينصره وينصر رسله في حال الغيب ، التي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة ، التي لا فائدة بوجود الإيمان فيها ، لأنه حينئذ يكون ضروريا .
{ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : لا يعجزه شيء ، ولا يفوته هارب ، ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد الذي منه الآلات القوية ، ومن قوته وعزته أنه قادر على الانتصار من أعدائه ، ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه ، ليعلم من ينصره بالغيب ، وقرن تعالى في هذا{[996]} الموضع بين الكتاب والحديد ، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه ، ويعلي كلمته بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان والسيف الناصر بإذن الله ، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط ، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله ، وكمال شريعته التي شرعها على ألسنة رسله .
ثم بين - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسله إلى الناس ، ليهدوهم إلى طريق الحق ، وأن الناس منهم من اتبع الرسل ، ومنهم من أعرض عنهم ، ومنهم من ابتدع أموراً من عند نفسه لم يرعها حق رعايتها . . . . فقال - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا . . . } .
المراد بالبينات فى قوله - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } الحجج والدلائل التى تشهد لهم بأنهم رسل من عند الله - تعالى - وتدخل فيها المعجزات دخولا أوليا .
والمراد بالكتاب : جنس الكتب . وتشمل التوراة والإنجيل وغيرهما .
والميزان : الآلة المعروفة بين الناس لاستعمالها فى المكاييل وغيرها . . . والمراد بها العدل بين الناس فى أحكامهم ومعاملاتهم .
وشاع إطلاق الميزان على العدل ، باستعارة لفظ الميزان على العدل ، على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس ، والمراد بإنزاله ، تبليغه ونشره بين الناس .
أى : بالله لقد أرسلنا رسلنا ، وأيدناهم بالحجج والبراهين الدالة على صدقهم ، وأنزلنا معهم كبتنا السماوية ، بأن بلغناهم إياها عن طريق وحينا ، وأنزلنا معهم العدل بأن أرشدناهم إلى طرقه ، وإلى إعطاء كل ذى حق حقه .
قال ابن كثير : يقول الله - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } أى : بالمعجزات ، والحجج الباهرات ، والدلائل القاطعات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } وهو النقل الصدق { والميزان } وهو العدل أو وهوالحق الذى تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة .
وأكد - سبحانه - هذا الإرسال ، للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا نبوة النبى - صلى الله عليه وسلم - ولبيان أنه واحد من هؤلاء الرسل الكرام ، وأن رسالته إنما هى امتداد لرسالتهم . . . وقوله - تعالى - : { لِيَقُومَ الناس بالقسط } علة لما قبله . أى : أرسلنا الرسل . وأنزلنا الكتاب وشرعنا العدل ، ليقوم الناس بنشر ما يؤدى إلى صلاح بالهم ، واستقامة أحوالهم ، عن طريق التزامهم بالحق والقسط فى كل أمورهم .
قال الآلوسى : " والقيام بالقسط " أى : بالعدل ، يشمل التسوية فى أمور التعامل باستعمال الميزان ، وفى أمور المعاد باحتذاء الكتاب ، وهو - أى : القسط - لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغى الاتصاف به ، معاشا ومعادا .
وقوله - تعالى - : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } معطوف على ما قبله .
والمراد بإنزال الحديد : خلقه وإيجاده . وتهيئته للناس ، والإنعام به عليهم ، كما فى قوله - سبحانه - { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } والمراد بالبأس الشديد : القوة الشديدة التى تؤدى إلى القتل وإلحاق الضرر بمن توجه إليه ، أى : لقد أرسلنا رسلنا بالأدلة الدالة على صدقهم ، وأنزلنا معهم ما يرشد الناس إلى صلاحهم .
وأوجدنا الحديد ، وأنعمنا به عليكم ، ليكون قوة شديدة لكم فى الدفاع عن أنفسكم ، وفى تأديب أعدائكم ، وليكون كذلك مصدر منفعة لكم فى مصالحكم وفى شئون حياتكم .
فمن الحديد تكون السيوف وآلات الحرب . . ومنه - ومعه غيره - تتكون القصور الفارهة ، والمبانى العالية الواسعة ، والمصانع النافعة . . . وآلات الزراعة والتجارة .
فالآية الكريمة تلفت أنظار الناس إلى سنة من سنن الله - تعالى - قد أرسل الرسل وزودهم بالهدايات السماوية التى تهدى الناس إلى ما يسعدهم .
. . وزودهم - أيضا - بالقوة المادية التى تحمى الحق الذى جاءوا به ونرد كيد الكائدين له فى نحورهم ، وترهب كل من يحاول الاعتداء عليه ، كما قال - تعالى - : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : ما ملخصه : أى : وجعلنا الحديد رادعا لمن أبى الحق ، وعانده بعد قيام الحجة عليه ، ولهذا أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثلاث عشرة سنة ، تنزل عليه السور المكية ، لبيان أن دين الله حق .
فلما قامت الحجة على من خالفه ، شرع الله القتال بعد الهجرة ، حماية للحق ، وأمرهم بضرب رقاب من عاند الحق وكذبه .
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بعث بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له . وجعل رزقى تحت ظل رمحى ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمرى ، ومن تشبه بقوم فهو منهم " .
ولهذا قال - تعالى - : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعنى السلاح كالسيف والحراب .
{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أى : فى معايشهم كالفأس والقدوم . . . وغير ذلك .
هذا ، ومن المفسرين الذين فصلوا القول فى منافع الحديد ، وفى بيان لماذا خصه الله - تعالى - بالذكر : الإمام الفخر الرازى فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة ، جعله الله سهل الوجدان ، كثير الوجود . والذهب لما كانت حاجة الناس إليه قليلة ، جعله الله - تعالى - عزيز الوجود .
وبهذا تتجلى رحمة الله على عباده ، فإن كل شىء كانت حاجتهم إليه أكثر جعل الحصول عليه أيسر .
فالهواء - وهو أعظم ما يحتاج الإنسان إليه - جعل الله تعالى - الحصول عليه سهلا ميسورا . . . فعلمنا من ذلك أن كل شىء كانت الحاجة إليه أكثر ، كان وجدانه أسهل .
ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله - تعالى - أشد من الحاجة إلى كل شىء ، فنرجوه من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا ، كما قال الشاعر :
سبحان من خص العزيز بعزة . . . والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذى . . . نفس ، فمحتاج إلى أنفاسه
وقوله : - سبحانه - : { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب . . } معطوف على محذوف يدل عليه السياق .
والمراد بقوله : { وَلِيَعْلَمَ } أى : وليظهر علمه - تعالى - للناس ، حتى يشاهدوا آثاره .
أى : وأنزل - سبحانه - الحديد لكى يستعملوه فى الوجوه التى شرعها الله وليظهر - سبحانه - أثر علمه حتى يشاهد الناس ، من الذى سيتبع الحق منهم ، فينصر دين الله - تعالى - وينصر رسله ، ويستعمل نعمه فيما خلقت له حالة كونه لا يرى الله - تعالى - بعينيه ، وإنما يتبع أمره ، ويؤمن بوحدانيته ووجوده وعلمه وقدرته .
. . عن طريق ما أوحاه - سبحانه - إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - .
فقوله : { بالغيب } حال من فاعل { يَنصُرُهُ } .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أى : أن الله - تعالى - هو المتصف بالقوة التى ليس بعدها قوة وبالعزة التى لا تقاربها عزة .
وختمت الآية بهذا الختام ، لأنه هو المناسب لإرسال الرسل ، ولإنزال الكتب والحديد الذى فيه بأس شديد ومنافع للناس .
فكان هذا الختام تعليل لما قبله . أى : لأن الله - تعالى - قوى فى أخذه عزيز فى انتقامه فعل ما فعل من إرسال الرسل ، ومن إنزال الحديد .
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة ، يعرض باختصار خط سير الرسالة ، وتاريخ هذه العقيدة ، من لدن نوح وإبراهيم ؛ مقررا حقيقتها وغايتها في دنيا الناس ؛ ملما بحال أهل الكتاب وأتباع عيسى - عليه السلام - بصفة خاصة .
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب . إن الله قوي عزيز . ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم ، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون . ثم قفينا على آثارهم برسلنا ، وقفينا بعيسى ابن مريم ، وآتيناه الإنجيل ، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ، إلا ابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها ، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
فالرسالة واحدة في جوهرها ، جاء بها الرسل ومعهم البينات عليها ، ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق . وبعضهم أنزل عليه كتاب . والنص يقول : ( وأنزلنا معهم الكتاب )بوصفهم وحدة ، وبوصف الكتاب وحدة كذلك ، إشارة إلى وحدة الرسالة في جوهرها .
( والميزان ) . . مع الكتاب . فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ترجع إليه البشرية ، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال ؛ وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة ، وتصادم المصالح والمنافع . ميزانا لا يحابي أحدا لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع ، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع .
هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف ، ومصطخب المنافسة وحب الذات . فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر ، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة . ( ليقوم الناس بالقسط ) . . فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته ، لا يهتدي الناس إلى العدل ، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه ، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء !
( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) . .
والتعبير [ بأنزلنا الحديد ] كالتعبير في موضع آخر بقوله : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) . كلاهما يشير إلى إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث ، فهي منزلة بقدره وتقديره . فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الآية ، وهو جو تنزيل الكتاب والميزان ، فكذلك ما خلقه الله من شيء مقدر تقدير كتابه وميزانه .
أنزل الله الحديد ( فيه بأس شديد ) . . وهو قوة في الحرب والسلم ( ومنافع للناس ) . . وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد . ( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) . وهي إشارة إلى الجهاد بالسلاح ؛ تجيء في موضعها في السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال .
ولما تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب ، عقب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله ، فهو نصر لمنهجه ودعوته ، أما الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلى نصر : ( إن الله قوي عزيز ) . .
يقول تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالمعجزات ، والحجج الباهرات ، والدلائل القاطعات ، { وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ } وهو : النقل المصدق { وَالْمِيزَانَ } وهو : العدل . قاله مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما . وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة ، كما قال : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } [ هود : 17 ] ، وقال : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] ، وقال : { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } [ الرحمن : 7 ] ؛ ولهذا قال في هذه الآية : { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } أي : بالحق والعدل وهو : اتباع الرسل فيما أخبروا به ، وطاعتهم فيما أمروا به ، فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق ، كما قال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] أي : صدقًا في الإخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي . ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات ، والمنازل العاليات ، والسرر المصفوفات : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 43 ] .
وقوله : { وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } أي : وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه ؛ ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية ، وكلها جدال مع المشركين ، وبيان وإيضاح للتوحيد ، وتبيان ودلائل ، فلما قامت الحجة على من خالف{[28307]} شرع الله الهجرة ، وأمرهم بالقتال بالسيوف ، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده .
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود ، من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن حسان بن عطية ، عن أبي المنيب{[28308]} الجرشي الشامي ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بُعِثتُ بالسيف بين يَدَي الساعة حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له ، وجُعِل رزقي تحت ظِلّ رُمْحي ، وجعل الذلة والصِّغار على من خالف أمري ، ومن تَشبَّه بقوم فهو منهم " {[28309]}
ولهذا قال تعالى : { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعني : السلاح كالسيوف ، والحراب ، والسنان ، والنصال ، والدروع ، ونحوها . { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي : في معايشهم كالسكة والفأس والقدوم ، والمنشار ، والإزميل ، والمجرفة ، والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز وما لا قوام للناس بدونه ، وغير ذلك .
قال عِلْباء{[28310]} بن أحمد ، عن عِكْرِمة ، أن ابن عباس قال : ثلاثة أشياء نزلت مع آدم : السندان{[28311]} والكلْبَتان والميقعَة{[28312]} - يعني المطرقة . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
وقوله : { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } أي : من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسله ، { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : هو قوي عزيز ، ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس ، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض .
استئناف ابتدائي ناشىء عما تقدم من التحريض على الإِنفاق في سبيل الله وعن ذكر الفتح وعن تذييل ذلك بقوله : { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } [ الحديد : 24 ] ، وهو إعذار للمتولين من المنافقين ليتداركوا صلاحهم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتدبر في هدي القرآن وإنذار لهم إن يرعووا وينصاعوا إلى الحجة الساطعة بأنه يكون تقويم عوجهم بالسيوف القاطعة وهو ما صرح لهم به في قوله في سورة [ الأحزاب : 60 ، 61 ] { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } وقوله في سورة [ التحريم : 9 ] { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } لئلا يحسبوا أن قوله : { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } [ الحديد : 24 ] مجرد متاركة فيطمئنوا لذلك .
وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق راجع إلى ما تضمنه الخبر من ذكر ما في إرسال رسل الله وكتبه من إقامة القسط للناس ، ومن التعريض بحمل المعرضين على السيف إن استمروا على غلوائهم .
وجمع ( الرسل ) هنا لإِفادة أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل ، وأن مكابرة المنافقين عماية عن سنة الله في خلقه فتأكيد ذلك مبني على تنزيل السامعين منزلة من ينكر أن الله أرسل رسلاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم لأن حالهم في التعجب من دعواه الرسالة كحال من ينكر أن الله أرسل رسلاً من قبل . وقد تكرر مثل هذا في مواضع من القرآن كقوله تعالى : { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات } [ آل عمران : 183 ] .
والبينات : الحجج الدالّة على أن ما يدعون إليه هو مراد الله ، والمعجزات داخلة في البينات .
وتعريف { الكتاب } تعريف الجنس ، أي وأنزلنا معهم كتباً ، أي مثل القرآن .
وإنزال الكتاب : تبليغ بواسطة المَلك من السماء ، وإنزال الميزان : تبليغ الأمر بالعدل بين الناس .
والميزان : مستعار للعدل بين الناس في إعطاء حقوقهم لأن مما يقتضيه الميزان وجود طرفين يراد معرفة تكافئهما ، قال تعالى : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [ النساء : 58 ] . وهذا الميزان تبيّنه كُتب الرسل ، فذكره بخصوصه للاهتمام بأمره لأنه وسيلة انتظام أمور البشر كقوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } [ النساء : 105 ] وليس المراد أن الله ألهمهم وضع آلات الوزن لأن هذا ليس من المهم ، وهو مما يشمله معنى العدل فلا حاجة إلى التنبيه عليه بخصوصه .
ويتعلق قوله : { ليقوم الناس بالقسط } بقوله : { وأنزلنا معهم } .
والقيام : مجاز في صلاح الأحوال واستقامتها لأنه سبب لتيسير العمل وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } في أوائل [ البقرة : 3 ] .
والقسط : العدل في جميع الأمور ، فهو أعم من الميزان المذكور لاختصاصه بالعدل بين متنازعين ، وأما القسط فهو إجراء أمور الناس على ما يقتضيه الحق فهو عدل عام بحيث يقدر صاحب الحق منازعاً لمن قد احتوى على حقه .
ولفظ القسط مأخوذ في العربية من لفظ قسطاس اسم العدل بلغة الرُّوم ، فهو من المعرّب وروي ذلك عن مجاهد .
والباء للملابسة ، أي يكون أمر الناس ملابساً للعدل ومماشياً للحق ، وإنزال الحديد : مستعار لخلق معدنه كقوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] ، أي خلق لأجلكم وذلك بإلهام البشر استعماله في السلاح من سيوف ودروع ورماح ونبال وخُوذ وَدَرَق ومَجَانّ . ويجوز أن يراد بالحديد خصوص السلاح المتخذ منه من سيوف وأسنة ونبال ، فيكون إنزاله مستعاراً لمجرد إلهام صنعه ، فعلى الوجه الأول يكون ضمير { فيه بأس شديد } عائداً إلى الحديد باعتبار إعداده للبأس فكأن البأس مظروف فيه .
والبأس : الضر . والمراد بأس القتل والجرح بآلات الحديد من سيوف ورماح ونبال ، وبأسُ جُرأة الناس على إيصال الضر بالغير بواسطة الواقيات المتخذة من الحديد .
والمنافع : منافع الغالب بالحديد من غنائم وأسرى وفتح بلاد .
ويتعلق قوله : { للناس } بكلَ من { بأس } و { منافع } على طريقة التنازع ، أي فيه بأس لِنَاس ومنافع لآخرين فإن مصائب قوم عند قوم فوائد .
والمقصود من هذا لفت بصائر السامعين إلى الاعتبار بحكمة الله تعالى من خَلق الحديد وإلهامِ صنعه ، والتنبيه على أن ما فيه من نفع وبأس إنما أريد به أن يوضع بأسه حيث يستحق ويوضع نفعه حيث يليق به لا لتجعل منافعه لمن لا يستحقها مثل قطّاع الطريق والثوار على أهل العدل ، ولتجهيز الجيوش لحماية الأوطان من أهل العدوان ، وللادخار في البيوت لدفع الضاريات والعاديات على الحُرم والأموال .
وكان الحكيم ( انتيثنوس ) اليوناني تلميذ سقراط إذا رأى امرأة حالية متزينة في أثينا يذهب إلى بيت زوجها ويسأله أن يريه فرسه وسلاحه فإذا رآهما كاملين أذن لامرأته أن تتزين لأن زوجها قادر على حمايتها من داعرٍ يغتصبها ، وإلا أمرها بترك الزينة وترك الحلي .
وهذا من باب سد الذريعة ، لا ليجعل بأسه لإِخضاد شوكة العدل وإرغام الآمرين بالمعروف على السكوت ، فإن ذلك تحريف لما أراد الله من وضع الأشياء النافعة والقارة ، قال تعالى : { والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] ، وقال على لسان أحد رسله { إن أُريد إلاّ الإصلاح ما استطعت } [ هود : 88 ] .
وقد أومَا إلى هذا المعنى بالإِجمال قوله : { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } ، أي ليظهر للناس أثر علم الله بمن ينصره ، فأطلق فعل { ليعلم } على معنى ظُهور أثر العلم كقول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلتُ والخطيُّ يخطر بيننا *** لأَعْلَمَ مَن جَبانُها من شُجاعها
أي ليظهر للناس الجبان والشجاع ، أي فيعلموا أني شجاعهم .
ونصرُ الناس الله هو نصرهم دينه ، وأما الله فغني عن النصر ، وعطف { ورسله } ، أي من ينصر القائمين بدينه ، ويدخل فيه نصر شرائع الرسول صلى الله عليه وسلم بعده ونصر ولاة أمور المسلمين القائمين بالحق .
وأعظم رجل نصر دين الله بعد وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق في قتاله أهل الردة رضي الله عنه .
وقوله : { بالغيب } يتعلق ب { ينصره } ، أي ينصره نصراً يدفعه إليه داعي نفسه دون خشية داع يدعوه إليه ، أو رقيب يرقب صنيعه والمعنى : أنه يجاهد في سبيل الله والدفاع عن الدين بمحض الإِخلاص .
وقد تقدم ذكر الحديد ومعدنه وصناعته في تفسير قوله تعالى : { آتوني زبر الحديد } في سورة [ الكهف : 96 ] .
وجملة { إن الله قوي عزيز } تعليل لجملة { أرسلنا رسلنا بالبينات } إلى آخرها ، أي لأن الله قوي عزيز في شؤونه القدسية ، فكذلك يجب أن تكون رسله أقوياء أعزة ، وأن تكون كتبه معظمة موقرة ، وإنما يحصل ذلك في هذا العالم المنوطة أحداثه بالأسباب المجعولة بأن ينصره الرسل وأقوام مخلصون لله ويُعينوا على نشر دينه وشرائعه .
والقوي العزيز : من أسمائه تعالى . فالقوي : المتصف بالقوة ، قال تعالى : { ذو القوة المتين } [ الذاريات : 58 ] وتقدم القوي في قوله : { إن الله قوي شديد العقاب } [ الأنفال : 52 ] .
والعزيز : المتصف بالعزة ، وتقدمت في قوله : { إن العزة لله جميعاً } في سورة يونس وقوله : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } [ البقرة : 209 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} يعني بالآيات {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} يعني العدل {ليقوم الناس} يعني لكي يقوم الناس {بالقسط} يعني بالعدل. {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} يقول: من أمري كان الحديد فيه بأس شديد للحرب {ومنافع للناس} في معايشهم {وليعلم الله} يعني ولكي يرى الله {من ينصره} على عدوه {و} ينصر {ورسله} يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده فيعينه على أمره حتى يظهر ولم يره {بالغيب إن الله قوي} في أمره {عزيز} في ملكه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد أرسلنا رسلنا بالمفصّلات من البيان والدلائل، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، والميزان بالعدل...
وقوله:"لِيَقُومَ النّاسُ بالقِسْطِ "يقول تعالى ذكره: ليعمل الناس بينهم بالعدل.
وقوله: "وأنْزَلْنا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ" يقول تعالى ذكره: وأنزلنا لهم الحديد فيه بأس شديد: يقول: فيه قوّة شديدة، ومنافع للناس، وذلك ما ينتفعون به منه عند لقائهم العدوّ، وغير ذلك من منافعه...
وقوله: "وَلِيَعْلَمَ اللّهَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغَيْبِ" يقول تعالى ذكره: أرسلنا رسلنا إلى خلقنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليعدلوا بينهم، وليعلم حزب الله من ينصر دين الله ورسله بالغيب منه عنهم.
وقوله: "إنّ اللّهَ قَويّ عَزيزٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة، وخالف أمره ونهيه، عزيز ف انتقامه منهم، لا يقدر أحد على الانتصار منه مما أحلّ به من العقوبة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} يحتمل وجهين:
أحدهما: أي أرسلنا ما يبين، ويوضح أنهم رسل الله، وأن تلك الآيات التي أتوا بها من عند الله لا باختراع من عندهم لما هي خارجة عن وسع البشر.
والثاني: ما يبين صدق الرسل في خبرهم وعدلهم في حكمهم، أو يبين ما لهم وما عليهم.
{وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}... {والميزان} الموازين المعروفة التي بها تستوفى الحقوق في ما بين الناس وبها توفى وبها تحفظ حقوق الأموال التي بينهم وحدودها. فإن كان المراد هذا فكأنه قال: {وأنزلنا معهم الكتاب} الذي به يحفظ الدين وحدوده {والميزان} الذي به تحفظ حدود الأموال، لا يزاد على الحق، ولا ينقص منه، والله أعلم. وجائز أن يكون المراد بالميزان الحكمة إذ ذكره على إثر الكتاب كقوله: {ويعلمه الكتاب والحكمة} [آل عمران: 48] كأنه يقول... {وأنزلنا معهم الكتاب} والحكمة؛ فيكون الكتاب به تحفظ حدود الأفعال والأقوال، وتكون الحكمة ما يقوم الناس بها بالقسط. أو أن تكون الحكمة ما أودع في الكتاب من المعاني.
{وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} خص الله تعالى ذكر الحديد بما جعل فيه من البأس من بين غيره من الأشياء، وإن كان يشاركه غيره في احتمال الأذى والضرر به، ما يطعن به، فينفذ، ويضرب به... {ومنافع للناس} جعل الله تعالى في الحديد منافع، ليست تلك في غيره... {وأنزلنا الحديد} أي خلقنا كقوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] أي خلقها وقوله تعالى: {قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم} [الأعراف: 26] ومعلوم أنه لم ينزل اللباس على ما هو عليه ولكن معناه خلقه لباسا لكم. كذلك هذا.
{وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}...
أراد بإضافة النصر إلى نفسه نصر رسوله محمد وسائر رسله صلى الله عليه وسلم...
وجائز أن يكون المراد من إضافة النصر إليه نصر أنفسهم ودينهم؛ إذ هم المنتفعون بذلك، ولهم يحصل ذلك النفع وتلك المعونة، لكنه بفضله وكرمه سمى ذلك نصره وأضافه إلى نفسه على ما جعل لأعمالهم التي يعملونها لأنفسهم ثوابا، وذكر لهم على ذلك أجرا؛ كأنهم عاملون له، وهم المنتفعون بها المحتاجون إليها. فعلى ذلك جائز أن يكون ما عملوا لأنفسهم سماه نصرا، وإن كان النصر لهم...
وقوله تعالى: {إن الله قوي عزيز} ذكر هذا ليعلم أنه لم يأمر في ما أمرهم من القتال والنصر لحاجة نفسه، ولا استعملهم في ما استعمل من النصر والمعونة لنفسه، ولا أنه يكتسب بذلك العز لنفسه. أخبر أنه قوي بنفسه، عزيز بذاته. ولكن إنما أمرهم بما أمر، واستعملهم في ما استعمل لنصر أنفسهم ولقوتهم..
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الكتاب} اسم جنس لجميع الكتب المنزلة.
{الحديد} هنا: أراد به جنسه من المعادن وغيرها.
ويترتب معنى الآية بأن الله أخبر أنه أرسل رسله وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً وسلاحاً يحارب به من عند ولم يهتد بهدي الله فلم يبق عذر، وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال وترغيب فيه...
{وليعلم الله من ينصره} يقوي هذا التأويل، ومعنى قوله: {ليعلم} أي ليعلمه موجوداً فالتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود.
{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات}...هي المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة...لأن نبوتهم إنما ثبتت بتلك المعجزات... {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}...
في وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه؛ ... الكتاب إشارة إلى القوة النظرية، والميزان إلى القوة العملية، والحديد إلى دفع مالا ينبغي...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة، يعرض باختصار خط سير الرسالة، وتاريخ هذه العقيدة، من لدن نوح وإبراهيم؛ مقررا حقيقتها وغايتها في دنيا الناس؛ ملما بحال أهل الكتاب وأتباع عيسى -عليه السلام- بصفة خاصة.
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب. إن الله قوي عزيز. ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون. ثم قفينا على آثارهم برسلنا، وقفينا بعيسى ابن مريم، وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم، إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون)..
فالرسالة واحدة في جوهرها، جاء بها الرسل ومعهم البينات عليها، ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق. وبعضهم أنزل عليه كتاب. والنص يقول: (وأنزلنا معهم الكتاب) بوصفهم وحدة، وبوصف الكتاب وحدة كذلك، إشارة إلى وحدة الرسالة في جوهرها.
(والميزان).. مع الكتاب. فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ترجع إليه البشرية، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال؛ وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع. ميزانا لا يحابي أحدا لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع.
هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف، ومصطخب المنافسة وحب الذات. فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة. (ليقوم الناس بالقسط).. فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته، لا يهتدي الناس إلى العدل، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء!
(وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب)..
والتعبير ب"أنزلنا الحديد" كالتعبير في موضع آخر بقوله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج). كلاهما يشير إلى إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث، فهي منزلة بقدره وتقديره. فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الآية، وهو جو تنزيل الكتاب والميزان، فكذلك ما خلقه الله من شيء مقدر تقدير كتابه وميزانه.
أنزل الله الحديد (فيه بأس شديد).. وهو قوة في الحرب والسلم (ومنافع للناس).. وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد. (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب). وهي إشارة إلى الجهاد بالسلاح؛ تجيء في موضعها في السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال.
ولما تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب، عقب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله، فهو نصر لمنهجه ودعوته، أما الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلى نصر: (إن الله قوي عزيز)..
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
" الكتاب " هنا إشارة إلى سجل الوحي الإلهي المتضمن للشرائع والأحكام، و " الميزان " هنا رمز إلى العدل الإلهي الذي أرسل الله به ولإقامته جميع الرسل والأنبياء، وكما جاء " الميزان " هنا معطوفا على " الكتاب " لأنه هو هدفه الأسمى وغايته الأخيرة، فقد جاء " الكتاب والحكم " و " الكتاب والحكمة " متعاطفين في عامة القرآن، تأكيدا لتلازم الشريعة الإلهية مع الحكم بها بأسلوب حكيم، وإقامة العدل على أساسها السليم. وذكْرُ القرآن الكريم {للميزان " في هذا السياق بصفته " رمزا للعدل " هو السبب الذي نبه غير المسلمين إلى أن يقتبسوا منه هذا الرمز، ويجعلوا صورة " الميزان " رمزا للعدالة في أختامهم ومنشوراتهم الخاصة بالقضاء.
... قال تعالى: {لَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات..} أي: الآيات الواضحات التي تلفت الناس إلى وجود الحق سبحانه وتؤيد الرسل الذين بعثهم الله لهداية الخلْق.
والآيات إما كونية وإما معجزات تؤيد الرسل، وإما آيات الكتاب الحكيم، وهي التي تحمل المنهج وتحمل الأحكام من الله للخلق {وَأَنْزلْنَا مَعَهُم الكتَابَ..} أي: الكتب التي نزلت من عند الله، والكتاب هو الشيء المكتوب.
{وَالميزَانَ..} أي: ميزان الحق الذي يزن الأشياء ويُحدّدها ويبيّنها، والميزان لا يخصّ الأشياء المادية التي لها كثافة فقط، بل ميزان يزن بالحق كل شيء مادي ومعنوي فقال في الماديات: {وَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالمِيزان بالقسْطِ.. 152} [الأنعام] وأمر بإقامة هذا الميزان في كل شيء.
{وَإذا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أن تحْكُمُوا بالعدْلِ.. 58} [النساء] حتى في المحاكم تجدهم يتخذون الميزان رمزاً للعدالة ويرفعونه شعاراً لهم، والميزان له كفتان متساويتان ليدل على الحكم العادل.
والميزان الذي جاء به الرسل هو الميزان الذي يميز بين الحق والباطل، فما دامت هناك رسل وآيات بينات ومنهج ينفع الناس وينظم حياتهم، فلا بدّ أنْ تستقيم حركة الحياة.
لذلك قال حذيفة: لقد مرّ عليّ زمان ما كنت أبالي أيكم بايعتُ، فلئن كان مسلماً ليردّنه عليّ دينه، وإنْ كان يهودياً أو نصرانياً ليردنه عليّ ساعيه –والساعي الذي يرقب حركة الناس ويتابعها- أما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلاناً وفلانا.
إذن: لا تستقيم الأمور إلا في ظل هذا المنهج، ولا سعادة للخلق إلا به، فإنْ طمس هذا المنهج فلا بد أنْ يحدث الخلل في الميزان، فيصير الحق باطلاً والباطل حقاً...
إذن: ردّ رسول الله الميزان إلى الدين والشرع، وإلى الكتاب والبينات، فمن التزم بالكتاب والبينات لم يكُنْ عنده حقّ وباطل، بل هو حقّ واحد بيّن ليس غيره، فإذا اختلف الناسُ في البينات فلا بدّ أنْ ينشأ الباطل فيأتي الميزان ليميز بين الحق والباطل.
لذلك قال سبحانه بعدها: {وأنزلْنَا مَعَهُم الكتَابَ والميزَانَ ليَقُومَ النّاسُ بالقسْط..} أي: العدل، فالكتاب للتشريع وتنفيذ الأحكام، والميزان للغفلة إنْ حدثت أو المخالفة، فيبيّن الحق والباطل.
وما دام يقوم الناسُ بالقسط والعدل كلّ الدنيا ترتاح، إما قسط نابع من ضمير الأفراد، وإما قسط من القضاء الذي يحكم بينهم...
إذن: أنزلنا {الكتاب} للملتزم {والميزَانَ..} الذي يفرق بين الحق والباطل لغير الملتزم {لِيَقُوم النّاسُ..} جميعاً {بالقسْطِ..} فحين يقتصّ من القاتل وتُقطع يد السارق لا يجرؤ أحدٌ على القتل ولا على السرقة. ولم يقُلْ ليقوم المؤمنون بالقسط إنما الناس كلّ الناس.
{وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فيهِ بَأْسٌ ومنَافِعُ للنَّاسِ..} أي: كما أنزلنا الكتاب وأنزلنا الميزان أنزلنا كذلك الحديد، فالحديد وإنْ كان مكانه الأرض إلا أنّ أصله من أعلى، والحديد إشارة للقوة فمَن لم يردعه القرآن يردعه الحديد... فالحق سبحانه وتعلى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم كما أعطيناك القرآن أعطيناك الحديد والسيف فافعل به ما تشاء وجَابَه به الكفار والعصاة الذين لا يردعهم الكتاب...
وقوله تعالى {فيه بأْسٌ شَدِيدٌ.} دلّ على أن الحديد أقوى عدة في الحياة، والواقع يؤكد ذلك...
ثم هناك مهمة أخرى للحديد {وَلِيَعْلَمَ اللهُ من ينصُرُهُ ورُسُلُه بالغيب..} وهنا إشارة إلى السيف الذي تكون به النصرة، فالسيف لمن لم يجد معه الكتاب والبينات.
وقوله تعالى: {وليعْلَمَ اللهُ من ينصُرُه ورُسُلَهُ بالغيْبِ..} أي: علم الواقع وإلا فالله تعالى يعلم كل شيء أزلاً ولا يخفى عليه خافية، فليس المراد علم تقدير إنما علم واقع.
وقال: {من ينصُرُهُ ورُسُلَهُ.} لأن نُصْرة الله نُصْرة لرسل الله ونصرة رسُل الله نُصرة لله، لذلك قال: {وأَطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرّسُول.. 92} [المائدة] وقال: {من يُطع الرّسُول فَقدْ أَطَاعَ اللهَ.. 80} [النساء] لأن هنا تداخلاً في الأحكام...
وقوله {بالغَيْبِ..} بالإيمان بالغيب ومشهد السيف، هذا يدافع عن قضية غيبية هي القيامة والله الذي لا تراه يدافع عن قضية غيبية، إنما عندما يحيي الملل بالكتاب أو السيف.
لذلك لما أصرَّ الكفار على كفرهم قال الله لرسوله: {فأَعْرِض عَن من تولّى عن ذكْرِنَا.. 29} [النجم] فالهمزة في أعرض همزة الإزالة يعني: دعهم وانصرف عن دعوتهم بالآيات والبينات.
ومعنى نصرة الله كما قال سبحانه: {إن تنصُرُوا الله ينصُرْكُمْ.. 7} [محمد] إن تنصروا الله بقوتكم ينصركم بقوته، إذن: أنت ما عليك إلا أنْ توجه {وَمَا رَميتَ إذْ رَميْتَ ولكِنْ الله رَمَى.. 17} [الأنفال]
فالله تعالى قادر على إبادة هؤلاء الكفار في لمح البصر، فلماذا الحرب؟ قالوا: لو أهلكهم الله بأمر غيبي وبدون تدخّل المسلمين في حرب لقالوا آية كونية، لذلك قال تعالى: {قَاتَلوهُم يُعذّبُهُم الله بأيْديكُم.. 14} [التوبة] بأيديكم أنتم فيكون الأمر أنكى.
وتختتم الآية بقوله سبحانه: {إنّ الله قوّي عزيزٌ} تؤكد أن الله تعالى هو صاحب القوة وصاحب العزة، حتى لا نفهم من قوله تعالى: {ليَعْلم الله من ينصرُهُ ورُسُلُه بالغيب..} أن الله يحتاج إلى النصرة من خلقه.
فالله هو ذو القوة الغالب العزيز الذي لا يُغلب، وإنما قال لكم: انصروني لتكون أيديكم في يد الإمام وتكون النصرة بكم رفعة لكم، وحين يُقهر الأعداء يقهرون بكم ويذلون لكم أنتم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
المقصود من (كتاب) هو نفس الكتب السماوية، ولأنّ روح وحقيقة الجميع شيء واحد، لذا فإنّ التعبير ب (كتاب) جاء بصيغة مفرد.
وأمّا «الميزان» فيعني وسيلة للوزن والقياس...ومن الواضح أنّ المقصود هو المصداق المعنوي، أي الشيء الذي نستطيع أن نقيس به كلّ أعمال الإنسان، وهي الأحكام والقوانين الإلهيّة أو الأفكار والمفاهيم الربّانية...وبهذه الصورة فإنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل وهي: «الدلائل الواضحة»، و «الكتب السماوية»، و «معيار قياس الحقّ من الباطل» والجيّد من الرديء... (ليقوم الناس بالقسط) أي أن يتحرّك الناس أنفسهم لتحقيق القسط، وليس المقصود أن يلزم الأنبياء على إقامة القسط، ولهذا يمكن القول بأنّه المراد من الآية وهدفها هو أن يعمل الناس بمفاهيم القسط ويتحرّكوا لتطبيقها...ثمّ إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقائدي والروحي عالياً، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان، ويقفون في طريق القسط والعدل، واستمرارا لمنهج الآية هذه يقول سبحانه: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس).
والمقصود من «المنافع» هنا هو كلّ ما يفيد الإنسان من الحديد، وتتبيّن الأهميّة البالغة للحديد في حياة الإنسان أنّ البشرية قد بدأت عصراً جديداً بعد اكتشافه، سمّي بعصر الحديد، لأنّ هذا الاكتشاف قد غيّر الكثير من معالم الحياة في أغلب المجالات، وهذا يمثّل أبعاد كلمة (المنافع) في الآية الكريمة أعلاه...
ثمّ يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلا، حيث يقول تعالى: (فليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب). المقصود من (علم الله) هنا هو التحقّق العيني ليتوضّح من هم الأشخاص الذين يقومون بنصرة الله ومبدئه، ويقومون بالقسط؟ ومن هم الأشخاص الذين يتخلّفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة؟ ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتّى يميّز الخبيث من الطيّب). وبهذه الصورة نلاحظ أنّ المسألة هنا مسألة اختبار وتمحيص واستخراج الصفوة التي استجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي، وهذا هو هدف آخر من الأهداف الأساسية في هذا البرنامج.