{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } أي : مهلكها ، غما وأسفا عليهم ، وذلك أن أجرك قد وجب على الله ، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم ، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار ، فلذلك خذلهم ، فلم يهتدوا ، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم ، ليس فيه فائدة لك . وفي هذه الآية ونحوها عبرة ، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله ، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية ، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه ، مع التوكل على الله في ذلك ، فإن اهتدوا فبها ونعمت ، وإلا فلا يحزن ولا يأسف ، فإن ذلك مضعف للنفس ، هادم للقوى ، ليس فيه فائدة ، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه ، وما عدا ذلك ، فهو خارج عن قدرته ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له : { إنك لا تهدي من أحببت } وموسى عليه السلام يقول : { رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } الآية ، فمن عداهم من باب أولى وأحرى ، قال تعالى : { فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر }
ثم ساق - سبحانه - ما يسلى الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من حزن بسبب إعراض المشركين عن دعوة الحق ، فقال - تعالى - : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } .
قال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم - أولا - أن لفظة { لعل } تكون للترجى فى المحبوب ، وللإِشفاق فى المحذور . واستظهر أبو حيان أن { لعل } هنا للإِشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم .
وقال بعضهم إن { لعل } هنا للنهى . أى لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم . . وهو الأظهر ، لكثرة ورود النهى صريحا عن ذلك ، قال - تعالى - : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ . . } وقوله { باخع } من البخع ، وأصله أن تبلغ بالذبح البخاع - بكسر الباء - وهو عرق يجرى فى الرقبة . وذلك أقصى حد الذبح . يقال : بخع فلان نفسه بخعا وبخوعا . أى : قتلها من شدة الغيظ والحزن ، وقوله : { على آثارهم } أى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك ، وقوله { أسفا } أى : هما وغما مع المبالغة فى ذلك ، وهو مفعول لأجله .
والمعنى : لا تهلك نفسك - أيها الرسول الكريم - هما وغما ، بسبب عدم إيمان هؤلاء المشركين . وبسبب إعراضهم عن دعوتك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } و { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } قال الزمخشرى : شبهه - سبحانه - وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به ، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم ، برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ؛ ويبخع نفسه وجدا عليهم ، وتلهفا على فراقهم .
وفيما يشبه الإنكار يخاطب الرسول [ ص ] الذي كان يحزنه أن يكذب قومه بالقرآن ويعرضوا عن الهدى ، ويذهبوا في الطريق الذي يعلم [ ص ] أنه مود بهم إلى الهلاك . . فيما يشبه الإنكار يقول للرسول [ ص ] :
( فلعلك باخع نفسك على آثارهم . إن لم يؤمنوا بهذا الحديث . أسفا ) !
أي فلعلك قاتل نفسك أسفا وحزنا عليهم ، إن لم يؤمنوا بهذا القرآن . وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم وتأسف .
يقول تعالى مسليًا رسوله صلى الله عليه وسلم{[17973]} في حزنه على المشركين ، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه ، كما قال تعالى : { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، وقال { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [ النحل : 127 ] ، وقال { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ]{[17974]} {[17975]}
باخع : أي مهلك نفسك بحزنك عليهم ؛ ولهذا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني : القرآن { أَسَفًا } يقول : لا تهلك نفسك أسفًا .
قال قتادة : قَاتِل نَفْسَكَ غضبًا وحزنًا عليهم . وقال مجاهد : جزعًا . والمعنى متقارب ، أي : لا تأسف عليهم ، بل أبلغهم رسالة الله ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .
هذه الآية تسلية للنبي عليه السلام ، وقوله { فلعلك } تقرير وتوفيق بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك ، و «الباخع نفسه » هو مهلكها وجداً وحزناً على أمر ما ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه . . . لشيء نحته عن يديه المقادر{[7743]}
يريد نحته فخفف وقوله { على آثارهم } ، استعارة فصيحة ، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان ، وإعراض عن الشرع فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم ، وقوله { بهذا الحديث } أي بالقرآن الذي يحدثك به ، و { أسفاً } نصب على المصدر ، قال الزجاج : و «الأسف » المبالغة في حزن أو غضب .
قال القاضي أبو محمد : و «الأسف » في هذا الموضع الحزن ، لأنه على من لا يملكه ولا هو تحت يد الأسف ، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضباً ، كقوله تعالى : { فلما آسفونا }{[7744]} [ الزخرف : 55 ] أي أغضبونا وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد ، وذكره منذر بن سعيد وقال قتادة : هنا { أسفاً } غضباً ، قال مجاهد { أسفاً } جزعاً وقال قتادة أيضاً : حزناً ، ومن هذه اللفظة قول الأعشى : [ الطويل ]
أرى رجلاً منكم أسيفاً كأنما . . . يضم إلى كشحيه كفّاً مخضبا{[7745]}
تفريع على جملة { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] باعتبارهم مكذبين كافرين بقرينة مقابلة المؤمنين بهم في قوله : { وبشر المؤمنين } [ الكهف : 2 ] ثم قوله : { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] .
و ( لعل ) حقيقتها إنشاء الرجاء والتوقع ، وتستعمل في الإنكار والتحذير على طريقة المجاز المرسل لأنهما لا زمان لتوقع الأمر المكروه .
وهي هنا مستعملة في تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام من الاغتمام والحزن على عدم إيمان من لم يؤمنوا من قومه . وذلك في معنى التسلية لقلة الاكتراث بهم .
والباخع : قاتل نفسه ، كذا فسره ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جبير . وفسره البخاري بمهلك . وتفسيره يرجع إلى أبي عبيدة .
وفي اشتقاقه خلاف ، فقيل مشتق من البِخاع بالباء الموحدة ( بوزن كتاب ) وهو عرق مستبطن في القفا فإذا بلغ الذابحُ البخاع فذلك أعمق الذبح ، قاله الزمخشري في قوله تعالى : لعلك باخع نفسك في سورة الشعراء ( 3 ) وانفرد الزمخشري بذكر هذا الاشتقاق في الكشاف } و « الفائق » و « الأساس » . قال ابن الأثير في « النهاية » : « بحثت في كتب اللغة والطب فلم أجد البِخاع بالموحدة » يعني أن الزمخشري انفرد بهذا الاشتقاق وبإثبات البخاع اسماً لهذا العرق . قلت : كفى بالزمخشري حجة فيما أثبته . وقد تبعه عليه المطرزي في « المُغرب » وصاحب « القاموس » . فالبخع : أصله أن يبلغ الذابح بالذبح إلى القفا ثم أطلق على القتل المشوب بغيظ .
والآثار : جمع أثر وهو ما يؤثره ، أي يُبقيه الماشي أو الراكب في الرمل أو الأرض من مواطىء أقدامه وأخفاف راحلته . والأثر أيضاً ما يبقيه أهل الدار إذا ترحلوا عنها من تافه آلاتهم التي كانوا يعالجون بها شؤونهم كالأوتاد والرماد .
وحرف ( على ) للاستعلاء المجازي فيجوز أن يكون المعنى : لعلك مهلك نفسك لأجل إعراضهم عنك كما يُعرض السائر عن المكان الذي كان فيه ، فتكون ( على ) للتعليل .
ويجوز أن يكون المعنى تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم في شدة حرصه على اتباع قومه له وفي غمه من إعراضهم . وتمثيل حالهم في النفور والإعراض بحال من فارقه أهله وأحبتُه فهو يرى آثار ديارهم ويحزن لفراقهم . ويكون حرف ( على ) ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير الخطاب ، ومعنى ( على ) الاستعلاء المجازي وهو شدة الاتصال بالمكان .
وكأن هذا الكلام سيق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر أوقات رجائه في إيمانهم إيماء إلى أنهم غير صائرين إلى الإيمان ، وتهيئة نفسه أن تتحمل ما سيلقاه من عنادهم رأفة من ربه به ، ولذلك قال : { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } بصيغة الفعل المضارع المقتضية الحصول في المستقبل ، أي إن استمر عدم إيمانهم .
واسم الإشارة وبيانُه مراد به القرآن ، لأنه لحضوره في الأذهان كأنه حاضر في مقام نزول الآية فأشير إليه بذلك الاعتبار . وبُيّن بأنه الحديث .
والحديث : الخبر . وإطلاق اسم الحديث على القرآن باعتبار أنه إخبار من الله لرسوله ، إذ الحديث هو الكلام الطويل المتضمن أخباراً وقصصاً . سمي الحديث حديثاً باعتبار اشتماله على الأمر الحديث ، أي الذي حدث وجَد ، أي الأخبار المستجدة التي لا يعلمها المخاطب ، فالحديث فعيل بمعنى مفعول . وانظر ما يأتي عند قوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } في سورة الزمر ( 23 ) .
وأسفاً } مفعول له من { باخع نفسك } أي قاتلها لأجل شدة الحزن ، والشرط معترض بين المفعولين ، ولا جواب له للاستغناء عن الجواب بما قَبْل الشرط .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين أحزنه قولهم، قال سبحانه: {فلعلك}، يعني: فعساك،
{باخع نفسك على آثارهم}، يعني: قاتلا نفسك على آثارهم، يعني: عليهم أسفا، يعني: حزنا...
{إن لم يؤمنوا بهذا الحديث}، يعني: لم يصدقوا بالقرآن، {أسفا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: فلعلك يا محمد قاتلُ نفسك ومهلكها على آثار قومك الذين قالوا لك "لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا "تمرّدا منهم على ربهم، إن هم لم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنزلته عليك فيصدّقوا بأنه من عند الله حزنا وتلهفا ووجدا، بإدبارهم عنك، وإعراضهم عما أتيتهم به، وتركهم الإيمان بك...
وأما قوله: "أسَفا" فإنّ أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛
فقال بعضهم: معناه: فلعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا بهذا الحديث غضبا...
وقال آخرون: جَزَعا... وقال آخرون: معناه: حزنا عليهم... وهذه معاتبة من الله عزّ ذكره على وجده بمباعدة قومه إياه فيما دعاهم إليه من الإيمان بالله والبراءة من الآلهة والأنداد، وكان بهم رحيما...
عن ابن إسحاق "فَلَعَلّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أسَفا" يعاتبه على حزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم: أي لا تفعل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} كقوله في آية أخرى: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} (الشعراء: 2) أخبر أنه فاعل ما ذكر، ولم يقل له: افعل، أولا تفعل في هذا، فيشبه أن يكون النهي ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} (فاطر: 8) ولهذا قال بعض الناس: إن في قوله: {فلعلك باخع نفسك} نهيا عن الحُزن عليهم، وعندنا ليس يخرج على النهي ولكن على التَّسَلِّي.
ثم اختلف في قوله: {إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} في الأسف؛ قال بعضهم: الأسف هو النهاية في الغضب كقوله: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} (الزخرف: 55) قال أهل التأويل: آسفونا: أغضبونا.
وقال بعضهم: الأسف هو النهاية في الحزن كقوله: {يا أسفى على يوسف} (يوسف: 84) أي يا حزني. ويحتمل أن يكون منه الحزن إشفاقا عليهم أن تَتْلَفَ أنفسهم في النار بتركهم الإيمان، أو كانت نفسه تغضب عليهم بتركهم الإجابة والقول في الله سبحانه على ما قالوا فيه. وكلاهما يجوز: إذ إذا كان ذلك لله كادت نفسه تتلف حزنا عليهم إشفاقا منه، أو كادت تتلف غضبا عليهم. وفيه دلالة أنه لم يكن يقاتل الكفرة للقتل والإتلاف، ولكن كان يقاتلهم ليلمسوا حتى كادت نفسه تتلف إشفاقا عليهم؛ فلا يحتمل أن يكون يقاتلهم للقتل، وفي القتل ترك الشفقة. ولكن كان يقاتلهم ليَضْطَرَّهُمُ القتال إلى الإسلام، فيسلموا، فلا يَهْلكُون. وفيه تذكير للمسلمين وتنبيه من وجهين:
أحدهما: ما أخبر عن عظيم محل الذنوب في قلبه؛ فلعل ذلك يؤذيه، فيلحقهم اللعن كقوله: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله} الآية (الأحزاب: 57) وفي ذلك زجر عن ارتكاب ما يسوؤه ويؤذيه.
والثاني: تعليم منه لأمته أن كيف يعاملون الكفرة وأهل المناكير منهم...
{بهذا الحديث أسفا} سَمَّى القرآن حديثا، وهو ما قال {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها} (الزمر: 23) سماه بأَسَامٍ: قصصا وحديثا وذكرا وروحا وأمثالها...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
الباخع: المتحسر الأسِف، قاله ابن بحر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هوَّن.. الله -سبحانه- عليه الحالَ، بما يشبه العتابَ في الظاهر؛ كأنه قال له: لِمَ كل هذا؟ ليس في امتناعهم -في عَدِّنا- أثر، ولا في الدِّين من ذلك ضرر.. فلا عليكَ من ذلك...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم، برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفاً على فراقهم. وقرىء «باخع نفسك»، على الأصل، وعلى الإضافة: أي قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمن قرأ «إن لم يؤمنوا» وللمضي فيمن قرأ «أن لم يؤمنوا» بمعنى: لأن لم يؤمنوا {بهذا الحديث} بالقرآن {أَسَفاً} مفعول له، أي: لفرط الحزن. ويجوز أن يكون حالا والأسف: المبالغة في الحزن والغضب. يقال: رجل أسف وأسيف...
{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}... المقصود منه أن يقال للرسول: لا يعظم حزنك وأسفك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذرا ومبشرا فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه...
وقال الأخفش والفراء أصل البخع: الجهد. يقال: بخعت لك نفسي أي جهدتها... وعلى هذا معنى: {باخع نفسك} أي ناهكها وجاهدها حتى تهلكها ولكن أهل التأويل كلهم قالوا: قاتل نفسك ومهلكها والأصل ما ذكرناه، هكذا قال الواحدي...
{على آثارهم} أي من بعدهم يقال مات فلان على أثر فلان أي بعده وأصل هذا أن الإنسان إذا مات بقيت علاماته وآثاره بعد موته مدة ثم إنها تنمحي وتبطله بالكلية فإذا كان موته قريبا من موت الأول كان موته حاصلا حال بقاء آثار الأول فصح أن يقال مات فلان على أثر فلان...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم شديد الحرص على إيمانهم شفقة عليهم وغيرة على المقام الإلهي الذي ملأ قلبه تعظيماً له، خفض عليه سبحانه بقوله تعالى: {فلعلك باخع} أي فتسبب عن قولهم هذا، المباين جداً لما تريد لهم، الموجب لإعراضهم عنك أنك تشفق أنت ومن يراك على تلك الحالة من أتباعك من أن تكون قاتلاً {نفسك} من شدة الغم والوجد، وأشار إلى شدة نفرتهم وسرعة مفارقتهم وعظيم مباعدتهم بقوله تعالى: {على ءاثارهم} أي حين تولوا عن إجابتك فكانوا كمن قوضوا خيامهم وأذهبوا أعلامهم {إن لم يؤمنوا}.
ولما صور بعدهم، صور قرب ما دعاهم إليه ويسر تناوله بقوله تعالى: {بهذا الحديث} أي القيم المتجدد تنزيله على حسب التدريج {أسفاً} منك على ذلك، والأسف: أشد الحزن والغضب.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{فلعلك باخع}... {نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ}... وسر ذلك – كما قال القاشاني – أن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه. ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله: {يحبهم ويحبونه} وكلما كانت محبته للحق أقوى، كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر. لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله، وأشد تعطفه عليهم. فإنهم كأولاده وأقاربه. بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي. فلذلك بالغ في التأسف عليهم، حتى كاد يهلك نفسه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له: {إنك لا تهدي من أحببت} وموسى عليه السلام يقول: {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} الآية، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحرف (على) للاستعلاء المجازي فيجوز أن يكون المعنى: لعلك مهلك نفسك لأجل إعراضهم عنك كما يُعرض السائر عن المكان الذي كان فيه، فتكون (على) للتعليل...
{إن لم يؤمنوا بهذا الحديث}... واسم الإشارة وبيانُه مراد به القرآن، لأنه لحضوره في الأذهان كأنه حاضر في مقام نزول الآية فأشير إليه بذلك الاعتبار. وبُيّن بأنه الحديث...
والحديث: الخبر. وإطلاق اسم الحديث على القرآن باعتبار أنه إخبار من الله لرسوله، إذ الحديث هو الكلام الطويل المتضمن أخباراً وقصصاً. سمي الحديث حديثاً باعتبار اشتماله على الأمر الحديث، أي الذي حدث وجَد، أي الأخبار المستجدة التي لا يعلمها المخاطب، فالحديث فعيل بمعنى مفعول...
وقد حدد الله تعالى مهمة الرسول وهي البلاغ، وجعله بشيراً ونذيراً، ولم يكلفه من أمر الدعوة ما لا يطيق، ففي الآية مظهر من مظاهر رحمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثارِهِمْ}... {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}... ونتساءل: هل هذا تعبيرٌ عن حالةٍ حقيقيةٍ في مشاعر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهل يتناسب الوضع الشعوري مع العصمة لديه؟ ونجيب بأن هذه المشاعر لا تمثل حالة نقص، بل نجد فيها حالة كمالٍ إنسانيٍّ، ذلك أنها تصدر عن حسٍّ إنسانيٍّ رهيفٍ ناتجٍ عن الشعور بالمسؤولية أمام الآخرين أيّاً كانوا، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) يعي نفسه رسولاً للعالمين، وبالتالي منقذاً لهم، ولهذا فبقدر ما يجد نفسه معنيّاً بالذين يتبعونه، يجد نفسه معنيّاً بالذين لم يتبعوه، أمثال الجاحدين والكافرين، لأن هؤلاء بحكم ما هم عليه، يستحقون الإشفاق أكثر من غيرهم، لأنهم سيسقطون في مهالك الكفر والطغيان لا محالة، فليست هناك عقدةٌ ذاتيةٌ، بل هي حالةٌ إنسانيةٌ رساليةٌ، في المستوى الرفيع لروحية الإنسان تجاه الآخرين...
وإذا كان الخطاب موجهاً إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فإن الامتناع عن التأثر بهذا الموقف السلبيّ، من قِبَل الكافرين، موجٌّه إلى كل داعية لله وللإسلام، بأن يعيش هذا الجوّ، لئلا يقوده الانفعال السلبي إلى الوقوع في الإحباط واليأس والسقوط... فإن هذا قد يكون ممتنعاً في شأن النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي تمنعه عصمته من ذلك، ولكنه ليس ممتنعاً في الآخرين من الدعاة إلى الله، الذين قد يسقطون تحت تأثير ضعفهم، فيفقدون التوازن الفكري والعملي في مواجهة الحالات السلبية في الواقع.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أوّل آية نبحثها الآن، تُشير إلى أحد أهم شروط القيادة، ألا وهي الإِشفاق على الأُمّة فتقول: (فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يُؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)...
نستفيد مِن الآيات القرآنية وتأريخ النبوات، أنَّ القادة الإِلهيين كانوا يتألمون أكثر ممّا نتصور لضلال الناس، وكانوا يريدون لهم الإِيمان والهداية...
ويألمون عندما يُشاهدون العطاشى جالسين بجوار النبع الصافي، ويأنون مِن شدّة العطش، الأنبياء يبكون لهم ويجهدون أنفسهم ليلا ونهاراً، ويبلغون سرّاً وجهاراً، ويُنادون في المجتمع مِن أجل هداية الناس. إِنّهم يألمون بسبب ترك الناس للطريق الواضح إلى الطرق المسدودة، هذا الألم يكاد يوصلهم في بعضِ الأحيان إلى حدِّ الموت. ولو لم يكن القادة بهذه الدرجة مِن الاهتمام لما انطبق عليهم المفهوم العميق للقائد.