90- ولبئس ما باعوا به أنفسهم بغياً وعدواناً ، إذ مالوا مع أهوائهم وتعصبهم لشعبهم فكفروا بما أنزلنا ، ناقمين على غيرهم أن خصهم الله دونهم بإرسال رسول منهم منكرين على الله أن يكون له مطلق الخيرة في أن ينزل من فضله على من يشاء من عباده ، فباءوا بغضب على غضب لكفرهم وعنادهم وحسدهم ، وعذبوا بكفرهم وللكافرين عذاب عظيم .
قوله تعالى : { بئسما اشتروا به أنفسهم } . بئس ونعم : فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم ، لا يتصرفان تصرف الأفعال ، معناه : بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق . وقيل : الاشتراء هاهنا بمعنى البيع والمعنى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم أي حين اختاروا الكفر وبذلوا أنفسهم للنار .
قوله تعالى : { أن يكفروا بما أنزل الله } . يعني القرآن .
قوله تعالى : { بغياً } . أي حسداً وأصل البغي : الفساد . ويقال بغى الجرح إذا فسد والبغي : الظلم ، وأصله الطلب ، والباغي طالب الظلم ، والحاسد يظلم المحسود جهده ، طلباً لإزالة نعمة الله تعالى عنه .
قوله تعالى : { أن ينزل الله من فضله } . أي النبوة والكتاب .
قوله تعالى : { على من يشاء من عباده } . محمد صلى الله عليه وسلم ، قرأ أهل مكة والبصرة ينزل بالتخفيف إلا في ، سبحان الذي ، في موضعين ، وننزل من القرآن .
قوله تعالى : { فباءوا } . رجعوا .
قوله تعالى : { بغضب على غضب } . أي مع غضب ، قال ابن عباس و مجاهد : الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلهم ، والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وقال قتادة : الأول بكفرهم بعيسى والإنجيل ، والثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وقال السدي : الأول بعبادة العجل والثاني بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وللكافرين } . الجاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم .
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }
أي : ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم الأنبياء ، المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة ، وقد علموا به ، وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع{[93]} بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب ، استنصروا بهذا النبي ، وتوعدوهم بخروجه ، وأنهم يقاتلون المشركين معه ، فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا ، كفروا به ، بغيا وحسدا ، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، فلعنهم الله ، وغضب عليهم غضبا بعد غضب ، لكثرة كفرهم وتوالى شكهم وشركهم .
{ وللكافرين عذاب مهين } أي : مؤلم موجع ، وهو صلي الجحيم ، وفوت النعيم المقيم ، فبئس الحال حالهم ، وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله ، الكفر به ، وبكتبه ، وبرسله ، مع علمهم وتيقنهم ، فيكون أعظم لعذابهم .
ثم ذكر - سبحانه - أنهم بكفرهم قد باعوا أنفسهم بثمن بخس . فقال تعالى : " بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله " أي : بئس الشيء الذي باع به اليهود أنفسهم كفرهم بما أنزل الله بغياً وحسداً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .
وجمهور المفسرين على أن { اشتروا } هنا بمعنى باعوا ، لأن أولئك اليهود ، لما كانوا متمكنين من الإِيمان الذي يفضي بهم إلى السعادة الأبدية بعد أن جاءهم ما عرفوا من الحق فتركوه ، واستمروا على كفرهم بغياً وحسداً وحباً في الرياسة وتعصباً لجنسيتهم لما كانوا كذلك ، صار اختيارهم للكفر على الإِيمان ، بمنزلة اختيار صاحب السلعة ثمنها على سلعته ، فكاأنهم بذلوا أنفسهم التي كان باستطاعتهم الانتفاع بإيمانها ، وقبضوا الكفر عوضاً عنها فأنفسهم بمنزلة السلعة المبيعة وكفرهم بمنزلة ثمنها المقبوض ، فبئس هذا الثمن الذي أوردهم العذاب الأليم .
وعبر - سبحانه - عن كفرهم بصيغة المضارع { أَن يَكْفُرُواْ } وعن بيعهم لأنفسهم بالماضي { اشتروا } للدلالة على أنهم صرحوا بكفرهم بالقرآن الكريم من قبل نزول الآية ، وإن بيعهم أنفسهم بالكفر طبيعة فيهم مستقرة منذ وقت بعيد ، وأنهم مازالوا مستمرين على تلك الطبيعة المنحرفة .
وقوله تعالى : { بَغْياً أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } تعليل لكفرهم وبيان للباعث عليه ، أي كفروا بما أنزل الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بدافع من البغي والحقد ، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يشاء من عباده ، فالبغي هنا مصدر بغي يبغى إذا ظلم . والمراد به ظلم خاص هو الحسد ، وإنما عد الحسد ظلما ، لأن الظلم معناه المعاملة التي تبعد عن الحق وتجافيه ، والحسد معناه تمنى زوال النعمة عن الغير والظالم والحاسد قد جانب كل منهما الحق فيما صنع ، والحاسد لن يناله نفع من زوال نعمة المحسود ، كما أنه لن يناله ضر من بقائها ، وما دام كذلك فالحاسد ظالم للمحسود بتمنى زوال النعمة وصدق الشاعر في قوله .
وأظلم خلق الله من بات حاسداً - لمن بات في نعمائه يتقلب - .
فاليهود قد كفروا بما أنزل الله ، من أجل حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على النبوة ولأنه لم يكن منهم وكان من العرب ، وكراهية لأن ينزل الله الوحي على من يصطفيه للرسالة من غيرهم ، فعدم إيمانهم بما عرفوه وارتقبوه سببه أنانيتهم البغيضة ، وأثرتهم الذميمة التي حملتهم على أن يحسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وأن يتوهموا أن النبوة مقصورة عليهم ، فليس لله - تعالى - في زعمهم ، - أن ينزعها من ذرية إسحاق ليجعلها في ذرية إسماعيل عليهما السلام - .
ولم يصرح - سبحانه - بأن المحسود هو النبي صلى الله عليه وسلم لعلم ذلك من سياق الآيات الكريمة وللتنبيه على أن الحسد في ذاته مذموم كيفما كان حال المحسود .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما آل إليه أمرهم من خسران مبين فقال تعالى : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } : باء بإثمه يبوء أي : رجع أي : فرجعوا من أجل كفرهم وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم بغضب مضموم إلى غضب آخر كانوا قد استحقوه بسبب كفرهم بعيسى - عليه السلام - وبسبب تحريفهم للكلم عن مواضعه ، وتضييعهم لأحكام التوراة . فهم بسبب كفرهم المستمر الذي تعددت أسبابه ، يصيبهم غضب كثير متعاقب من الله - تعالى - .
ويصح أن يكون معنى قوله : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } أنهم رجعوا بغضب شديد مؤكد ، لصدوره من الله - تعالى - .
ولامراد بالكافرين ، اليهود الذين تحدث عنهم فيما سبق ، فهم الذين عرفوا صدق محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته بما نطقت به التوراة ، ومع ذلك كفروا به فاستحبوا العمى على الهدى .
وعبر عنهم بهذا العنوان للتنبيه على أن ما أصابهم من عذاب مذل لهم كان بسبب كفرهم ، ويصح أن يراد بالكافرين : كل كافروهم يدخلون فيه دخولا أوليا ؛ وإنما كان لهم العذاب المهين لأن كفرهم لما كان سببه البغي والحسد والتكبر والأنانية ، قوبلوا بالإِهانة والصغار .
وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد كشفتا عن لون من صفات اليهود الذميمة وهو إعراضهم عن الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يستنصرون به على أعدائهم قبل بعثته ، وبيعهم الإِيمان الذي كان في مكنتهم الظفر به بالكفر بما أنزل الله من دين قويم ، وكتاب كريم إرضاء لغريزة الحقد الذي استحوذ على قلوبهم ، وتمشياً مع أثرتهم التي أبت عليهم أن يؤمنوا بنبي ليس من نسل إسرائيل ولو جاءهم بالحق المبين ، فحق عليهم قول الله - تعالى - : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } .
ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه ؛ بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها :
( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ، بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين ) . .
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . . . لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم ! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما ، يكثر أو يقل . أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع . وإن بدا تمثيلا وتصويرا . لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين . وبماذا خرجوا في النهاية ؟ خرجوا بالكفر ، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه !
وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله [ ص ] أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم ، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . وكان هذا بغيا منهم وظلما فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب ؛ وهناك ينتظرهم عذاب مهين ، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم .
وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود ، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد ؛ وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها ؛ ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى ، التي تربط البشرية جميعا . . وهكذا عاش اليهود في عزلة ، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة ؛ ويتربصون بالبشرية الدوائر ؛ ويكنون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ، ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض ، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم ، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفىء ، وهلاكا يسلطونه على الناس ، ويسلطه عليهم الناس . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة : ( بغيا . . أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ) . .
قال مجاهد : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } يهودُ شَرَوُا الحقَّ بالباطل ، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه .
وقال السدي : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } يقول : باعوا به أنفسهم ، يعني : بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به [ وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم إلى تصديقه ومؤازرته ونصرته ]{[2161]} .
وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية { أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ولا حسد أعظم من هذا .
قال ابن إسحاق عن محمد ، عن عكرمة أو سعيد ، عن ابن عباس : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي : إن الله جعله من غيرهم { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } قال ابن عباس : فالغضب على الغضب ، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم .
قلت : ومعنى { بَاءُوا } استوجبوا ، واستحقوا ، واستقروا بغضب على غضب . وقال أبو العالية : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثم غضب عليهم بكفرهم بمحمد ، وبالقرآن {[2162]} عليهما السلام ، [ وعن عكرمة وقتادة مثله ]{[2163]} .
قال السدي : أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العِجْل ، وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم
[ وعن ابن عباس مثله ]{[2164]} .
وقوله : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ، ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، [ أي : صاغرين حقيرين ذليلين راغمين ]{[2165]} .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، حدثنا ابن عَجْلان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس ، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنًا في جهنم ، يقال له : بُولَس فيعلوهم نار الأنيار يسقون{[2166]} من طينة الخبال : عصارة أهل النار " {[2167]} .
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } ( 90 )
«وبيس »( {[934]} ) أصله «بئس » سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها ، ويقال في «بئس » «بيس » اتباعاً للكسرة ، وهي مستوفية للذم كما نعم مستوفية للمدح( {[935]} ) ، واختلف النحويون في { بيسما } في هذا الموضع ، فمذهب سيبويه أن «ما » فاعلة ببيس ، ودخلت عليها بيس كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها «ما » في الإبهام ، فالتقدير على هذا القول : بيس الذي { اشتروا به أنفسهم أن يكفروا } ، كقولك : بيس الرجل زيد ، و «ما » في هذا القول موصولة ، وقال الأخفش : «ما » في موضع نصب على التمييز كقولك «بيس رجلاً زيد » ، فالتقدير «بيس شيئاً أن يكفروا » ، و { اشتروا به أنفسهم } في هذا القول صفة «ما »( {[936]} ) ، وقال الفراء «بيسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا » ، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل ، و «ما » إنما تكف أبداً حروفاً( {[937]} ) ، وقال الكسائي : «ما » ، و { اشتروا } بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه ، فالتقدير بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا( {[938]} ) ، وهذا أيضاً معترض لأن «بيس » لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير ، وقال الكسائي أيضاً : إن «ما » في موضع نصب على التفسير وثم «ما » أخرى مضمرة ، فالتقدير بيس شيئاً ما اشتروا به أنفسهم ، و { أن يكفروا } في هذا القول بدل من «ما » المضمرة ، ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون { أن يكفروا } في موضع خفض بدلاً من الضمير في { به } ، وأما في القولين الأولين ف { أن } { يكفروا } ابتداء وخبره فيما قبله ، و { اشتروا } بمعنى باعوا ، يقال : شرى واشترى بمعنى باع ، وبمعنى ابتاع( {[939]} ) ، و { بما أنزل الله } يعني به القرآن ، ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام فقد كفروا بالتوراة ، ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن ، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل ، و { بغياً } مفعول من أجله ، وقيل نصب على المصدر( {[940]} ) ، و { أن ينزل } نصب على المفعول من أجله أو في موضع خفض بتقدير بأن ينزل( {[941]} ) .
وقرأ أبو عمرو( {[942]} ) وابن كثير «أن ينزل » بالتخفيف في النون والزاي ، و { من فضله } يعني من النبوة والرسالة . و { من يشاء } يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب . ويدخل في المعنى عيسى عليه السلام لأنهم قد كفروا به بغياً ، والله قد تفضل عليه ، و «باؤوا » معناه : مضوا متحملين لما يذكر أنهم باؤوا به ، و { يغضب } معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على غضب متقدم من الله تعالى عليهم ، قيل لعبادتهم العجل ، وقيل لقولهم عزير ابن الله ، وقيل لكفرهم بعيسى عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : فالمعنى على غضب قد باء به أسلافهم حظ هؤلاء وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم لها .
وقال قوم : المراد بقوله { بغضب على غضب } التأكيد وتشديد الحال عليهم لا أنه أراد غضبين معللين بقصتين( {[943]} ) ، و { مهين } مأخوذ من الهوان وهو ما اقتضى الخلود في النار لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد لا هوان فيه بل هو تطهير له . ( {[944]} )
استئناف لذمهم وتسفيه رأيهم إذ رضوا لأنفسهم الكفر بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأعرضوا عن النظر فيما اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد موسى ، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون أنهم مع ذلك قد استبقَوْا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن ، فهذا إيقاظ لهم نحو معرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين .
و { بئسما } مركّب من ( بئسَ ) و ( ما ) الزائدة . وفي بئسَ وضِدّها نِعْمَ خلاف في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان . وفي ( ما ) المتصلة بهما مذاهب أحدها أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازاً عن ( ما ) الموصولة فقوله : { بئسما } يفسر ببئس الشيء قاله سيبويه والكسائي . والآخر أنها موصولة قاله الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها ( ما ) وحدها كانت ( ما ) معرفة تامة نحو قوله تعالى : { إن تبدوا الصدقات فنِعِمَّا هي } [ البقرة : 271 ] أي نعم الشيء هي وإن وقعت بعد ما جملة تصلح لأن تكون صلة كانت ( ما ) معرفة ناقصة أي موصولة نحو قوله هنا : { بئسما اشتروا به أنفسهم } و ( ما ) فاعل ( بئس ) .
وقد يذكر بعد بئس ونِعْم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المَدْح ، ويسمى في علم العربية المخصوصَ وقد لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه فقوله : { أن يكفروا } هو المخصوص بالذم والتقدير كفرهم بآيات الله ، ولك أن تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبراً محذوف المبتدأ أو بدلاً أوبياناً من ( ما ) وعليه فقوله تعالى : { اشتروا } إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و { أن يكفروا } هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نِعْم الرجل فلان .
والاشتراء الابتياع وقد تقدم في قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] فقوله تعالى هنا : { بئسما اشتروا به أنفسهم } مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيهاً لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأَبْقَوْا عليها بأن كفروا بالقرآن حسداً ، فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لتمسكهم بالتوراة وأَن قوله فيما تقدم { فلما جاءهم ما عرفوا } [ البقرة : 89 ] بمعنى جاءهم ما عرفوا صفتَه وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف ، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله : { بئسما اشتروا به أنفسهم } أي بئسما هو في الواقع وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم وقوله : { أن يكفروا بما أنزل الله } هو أيضاً بحسب الواقع ، وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت . وإن كانوا معتقدين صدق الرسول وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله : { فلما جاءهم ما عرفوا } على أحد الاحتمالين المتقدمين ، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي أي بئس العوض بَذلُهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق بالآية على نحو قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } [ البقرة : 86 ] .
وقيل : إن { اشتروا } بمعنى باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى ، على أنك قد علمت إمكان الجمع بين مقتضى قوله : { ما عرفوا } وقوله هنا : { اشتروا به أنفسهم } فأنتَ في غنى عن التكلف . وعلى كلا التفسيرين يكون { اشتروا } مع ما تفرع عنه من قوله : { فباءُوا بغضب على غضب } تمثيلاً لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران ، وهو تمثيل يقبَل بعضُ أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية .
وجيء بصيغة المضارع في قوله : { أن يَكفروا } ولم يؤتَ به على ما يناسب المبيَّن وهو { مَا اشتروا } المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر بالقرآن من قبل نزول الآية فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى ، ثم لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم كفروا فيما مضى أيضاً إذ كان المبيَّن بأن يَكْفروا معبَّراً عنه بالماضي بقوله : { ما اشتروا } .
وقوله : { بغياً } مفعُول لأجله علة لقوله : { أن يكفروا } لأنه الأقرب إليه ، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذمُوم ، والبغي هنا مصدر بَغى يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلماً خاصاً وهو الحسد وإنما جُعل الحسد ظلماً لأن الظلم هو المعاملة بغير حق والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع ، ولا من بقائها ضر ، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ المعنى في قوله :
وأَظْلَمُ خلقِ الله من بات حاسداً *** لِمنْ بَاتَ في نَعْمائِه يَتَقَلَّب
وقوله : { أن ينزل الله } متعلق بقوله : { بغياً } بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل { بغياً } بمعنى حسداً .
فاليهود كفروا حسداً على خروج النبوءة منهم إلى العرب وهو المشار إليه بقوله تعالى : { على من يشاء من عباده } وقوله : { فباءوا بغضب على غضب } أي فرجعوا من تلك الصفقة وهي اشتراء أنفسهم بالخسران المبين وهو تمثيل لحالهم بحال الخارج بسلعته لتجارة فأصابته خسارة فرجع إلى منزله خاسراً . شبه مصيرهم إلى الخسران برجوع التاجر الخاسر بعد ضميمة قوله : { بئس ما اشتروا به أنفسهم } .
والظاهر أن المراد بغضب على غضب الغضب الشديد على حد قوله تعالى : { نور على نور } [ النور : 35 ] أي نور عظيم وقوله : { ظلمات بعضها فوق بعض } [ النور : 40 ] وقول أبي الطيب :
* أَرَقٌ على أرَق ومثْلِىَ يَأْرَقُ *
وهذا من استعمال التكرير باختلاف صيغه في معنى القوة والشدة كقول الحطيئة :
أنت آل شماس بن لأي وإنما *** أتاهم بها الإحكام والحسب العد
أي الكثير العدد أي العظيم وقال المعري : * بني الحسب الوضاح والمفخر الجم * أي العظيم قال القرطبي قال بعضهم : المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم للكفر وللحسد أو للكفر بمحمد وعيسى عليهما السلام .
وقوله : { وللكافرين عذاب مهين } هو كقوله : { فلعنة الله على الكافرين } [ البقرة : 89 ] أي ولهم عذاب مهين لأنهم من الكافرين ، والمهين المذل أي فيه كيفية احتقارهم .