معاني القرآن للفراء - الفراء  
{بِئۡسَمَا ٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡ أَن يَكۡفُرُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بَغۡيًا أَن يُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (90)

وقوله : { بِئْسَما اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ . . . }

معناه - والله أعلم - باعوا به أنفسَهم . وللعرب في شَرَوْا واشْتَروا مذهبان ، فالأكثرُ منهما أن يكون شَرَوْا : باعوا ، واشتروا : ابتاعوا ، وربما جعلوهما جميعا في معنى باعوا ، وكذلك البيع ؛ يقال : بعت الثوب . على معنى أخرجتُه من يدي ، وبعته : اشتريتُه ، وهذه اللُّغة في تميم وربيعة . سمعت أبا ثَرْوانَ يقول لرجل : بِعْ لي تمرا بدرهم . يريد اشتر لي ؛ وأنشدني بعض ربيعة :

ويأْتِيكَ بالأَخْبارِ مَنْ لَم تَبِعْ لَهُ *** بَتَاتاً ولم تَضْرِبْ له وقْتَ مَوْعِدِ

على معنى لم تشتر له بتاتا ؛ قال الفرّاء : والبتاتُ الزاد . وقوله : { بِئْسَما اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } " أَنْ يَكْفُروا " في موضع خفض ورفع ؛ فأما الخفض فأن تردّه على الهاء التي في " به " على التكرير على كلامين كأنّك قلتَ اشتروا أنفسهم بالكفر . وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع " ما " التي تلى " بِئس " . ولا يجوز أن يكون رفعاً على قولك بئس الرجل عبد الله ، وكان الكسائي يقول ذلك . قال الفراء : وبئس لا يليها مرفوعٌ موقّت ولا منصوبٌ موقَّت ، ولها وجهان ؛ فإذا وصلتها بنكرة قد تكون معرفةً بحدوث ألِفٍ ولام فيها نصبت تلك النكرةَ ، كقولك : بِئس رجلاً عمرو ، ونِعم رجلاً عمرو ، وإذا أوليتها معرفة فلتكن غير موقَّتة ، في سبيل النكرة ، ألا ترى أنك ترفع فتقول : نِعم الرجلُ عمرو ، وبِئس الرجلُ عمرو ، فإن أضفت النكرة إلى نكرة رفعتَ ونصبتَ ، كقولك : نِعم غلامُ سفر زيدٌ ، وغلامَ سفر زيدٌ وإن أضفت إلى المعرفة شيئا رفعتَ ، فقلت : نِعم سائسُ الخيل زيدٌ ، ولا يجوز النّصب إلا أن يُضطرَّ إليه شاعرٌ ، لأنهم حين أضافوا إلى النكرة رفعوا ، فهم إذا أضافوا إلى المعرفة أَحْرى ألاّ يَنْصبوا . وإذا أوليتَ نِعم وبِئس من النكرات ما لا يكون معرفةً مثل " مثْل " و " أي " كان الكلام فاسدا ؛ خطأٌ أن تقول : نِعْمَ مِثْلُك زيدٌ ، ونعم أي رجل زيد ؛ لأن هذين لا يكونان مفسِّرين ، ألا ترى أنك لا تقول : [ لله ] دَرُّك مِن أي رجل ، كما تقول : لِلّه دَرُّك مِن رجل . ولا يصلح أن تُولِى نِعْم وبِئْسَ " الذي " ولا " مَنْ " ولا " ما " إلا أن تَنْوى بهما الاكتفاء دون أن أتى بعد ذلك اسمٌ مرفوع . من ذلك قولك : بِئسما صنعت ، فهذه مكتفية ، وساء ما صنعت . ولا يجوز ساء ما صنيعك . وقد أجازه الكسائي في كتابه على هذا المذهب . قال الفراء : ولا نعرف ما جهته ، وقال : أرادت العرب أن تجعل " ما " بمنزلة الرجل حرفا تاما ، ثم أضمروا لِصنعتَ " ما " كأنّه قال : بئسما ما صنعت ، فهذا قوله وأنا أجيزه . فإذا جعلت " نِعْمَ " ( صلة لما ) بمنزلة قولك " كُلّما " و " إنّما " كانت بمنزلة " حَبّذَا " فرفعت بها الأسماء ؛ من ذلك قول الله عز وجل : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِما هي } رفعت " هي " ب " نِعِما " ولا تأنيث في " نِعم " ولا تثنيةَ إذا جعلت " ما " صلة لها فتصير " ما " مع " نِعم " بمنزلة " ذا " من " حَبّذَا " ألا ترى أنّ " حبذا " لا يدخلها تأنيث ولا جمعٌ . ولو جعلت " ما " على جهة الحشو كما تقول : عما قليلٍ آتيك ، جاز فيه التأنيث والجمع ، فقلت : بئسما رجلين أنتما ، وبئست ما جاريةً جاريتُك . وسمعت العرب تقول في " نِعم " المكتفية بما : بئسما تزويجٌ ولا مهر ، فيرفعون التزويج ب " بئسما " .

وقوله : { بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ . . . }

موضع " أنْ " جزاء ، وكان الكسائي يقول في " أنْ " : هي في موضع خفض ، وإنما هي جزاء .

إذا كان الجزاء لم يقع عليه شيء قبله ( وكان ) ينوى بها الاستقبال كسرتَ " إنْ " وجزمت بها فقلت : أكرمك إنْ تَأتنِي . فإن كانت ماضية قلت : أكرمك أن تَأتِيَني . وأبْيَنُ من ذلك أن تقول : أكرمك أنْ أتَيْتَنى ؛ كذلك قال الشاعر :

أتَجْزَعُ أنْ بَانَ الخَلِيطُ المُوَدّعُ *** وحَبْلُ الصَّفَا مِنْ عَزَّةَ المُتَقَطِّعُ

يريد أتجزع بِأنْ ، أو لأنْ كان ذلك . ولو أراد الاستقبالَ ومَحْض الجزاء لكسر " إنْ " وجزم بها ، كقول الله جلّ ثناؤه : { فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نفْسَكَ على آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا } فقرأها القُرَّاء بالكسر ، ولو قرِئت بفتح " أن " على معنى [ إذ لم يؤمنوا ] ولأن لم يؤمنوا ، ومن أن لم يؤمنوا [ لكان صوابا ] وتأويلُ " أن " في موضع نصب ، لأنها إنما كانت أداة بمنزلة " إذْ " فهي في موضع نصب إذا ألقيتَ الخافضَ وتَمَّ ما قبلها ، فإذا جعلتَ لها الفعل أو أوْقَعته عليها أو أحدثت لها خافضا فهي في موضع ما يصيبها من الرفع والنصب والخفض .

/خ90

/خ88