الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{بِئۡسَمَا ٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡ أَن يَكۡفُرُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بَغۡيًا أَن يُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (90)

بئسَ : فعلٌ ماض غيرُ متصرفٍ ، معناه الذمُّ ، فلا يَعْمُل إلا في معرَّفٍ بأل ، أو فيما أُضيف إلى ما هما فيه ، أو في مضمرٍ مفسَّرٍ بنكرةٍ ، أو في " ما " على قول سيبويه . وفيه لغاتٍ : بَئِسَ بكسر العينِ وتخفيفٍ ، هذا الأصلُ ، وبِئِس بكسرِ الفاء إتباعاً للعينِ وتخفيفٍ ، هذا الإِتباعُ ، وهو أشهرُ الاستعمالاتِ ، ومثلُها " نِعْمَ " في جميع ما تقدَّم من الأحكام واللغات . وزعم الكوفيون أنهما اسمان ، مستدلِّين بدخول حرف الجر عليهما في قولهم : " ما هي بِنِعْمَ الولد نصرُها بكاءٌ وبِرُّها سَرِقة " ، " ونِعْمَ السيرُ على بِئس العَيْر " وقولِه :

صَبَّحَكَ اللهُ بخيرٍ باكرِ *** بنِعْمَ طيرٍ وشبابٍ فاخِرِ

وقد خَرَّجه البصريون على حَذْفِ موصوف ، قامَتْ صفتُه مَقَامَه تقديرُه : ما هي بولدٍ مقولٍ فيه نِعْم الولد ، ولها أحكامٌ كثيرة ، ولا بُدَّ بعدَها من مخصوصٍ بالمدحِ أو الذمِّ ، وقد يُحْذَفُ لقرينةٍ ، هذا حكمُ بِئْسَ .

أمَّا ، " ما " الواقعةُ بعدَها كهذه الآيةِ : فاختلف النحويون فيها اختلافاً كثيراً ، واضطربت النقولُ عنهم اضطراباً شديداً ، فاختلفوا : هَلْ لها محلٌّ من الإِعراب أم لا ؟ فذهبَ الفراء إلى أنها مع " بِئْسَ " شيءٌ واحد رُكِّبَ تركيبَ " حَبَّذا " نَقَلَه ابنُ عطية ، ونَقَلَ عنه المهدوي أنه يُجَوِّز أن تكونَ " ما " مع بئسَ بمنزلة كُلَّما ، فظاهرُ هذين النقلين أنها لا محلَّ لها . وذهب الجمهورُ إلى أنَّ لها مَحَلاً ، ثم اختلفوا :حَلُّها رفعٌ أو نصبٌ ؟ فذهب الأخفشُ إلى أنها في محلِّ نصبٍ على التمييزِ والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ صفةً لها ، وفاعلُ بئس مضمرٌ تُفَسِّرُه " ما " ، والمخصوصُ بالذمِّ هو قولُه : { أَن يَكْفُرُواْ } لأنه في تأويلِ مصدرٍ ، والتقدير : بِئْسَ هو شيئاً اشتَروا به كفرُهم ، وبه قال الفارسي في أحدِ قوليه ، واختاره الزمخشري ، ويجوزُ على هذا أن يكونَ المخصوصُ بالذمِّ محذوفاًَ ، و " اشتَرَوا " صفةً له في محلِّ رفعٍ تقديرُه : بئس شيئاً شيءٌ أو كفرٌ اشتروا به ، كقولِه .

لنِعْمَ الفتى أَضْحَى بأَكْنافِ حَائِل *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : فتىً أَضْحى ، و { أَن يَكْفُرُواْ } بدلٌ من ذلك المحذوفِ ، أو خبرٌ مبتدأ محذوفٍ أي : هو أَنْ يكفروا . وذهبَ الكسائي إلى أنَّ " ما " منصوبةُ المحلِّ أيضاً ، لكنه قَدَّر بعدها " ما " أخرى موصولةً بمعنى الذي ، وجعل الجملةَ مِنْ قولِه " اشتَرَوا " صلتها ، و " ما " هذه الموصولةُ هي المخصوصُ بالذمِّ ، والتقديرُ : بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم ، فلا محلَّ ل " اشتروا " على هذا ، ويكونُ { أَن يَكْفُرُواْ } على هذا القولِ خبراً لمبتدأ محذوفٍ كما تقدَّم ، فتلخَّص في الجملة الواقعةِ بعد " ما " على القولِ بنصبِها ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنها صفةٌ لها فتكونُ في محلِّ نصبٍ أو صلةٌ ل " ما " المحذوفةِ فلا محلَّ لها أو صفةٌ للمخصوصِ بالذم فتكونُ في محلِّ رفعٍ .

وذهب سيبويه إلى أَنَّ موضعَها رفعٌ على أنَّها فاعلُ بئس ، فقال سيبويه : هي معرفةٌ تامةٌ ، التقديرُ : بئس الشيء ، ُ والمخصوصُ بالذمِّ على هذا محذوفٌ أي شيءٌ اشتَرَوا به أنفَسَهم ، وعُزي هذا القولُ أيضاً للكسائي . وذهب الفراء والكسائي أيضاً إلى أنَّ " ما " موصولةٌ بمعنى الذي والجملةُ بعْدَها صلتُها ، ونقلَه ابن عطية عن سيبويه ، وهو أحدُ قَوْلَيْ الفارسي ، والتقدير : بئسَ الذي اشتروا به أنفسَهم أَنْ يكفُروا ، فأَنْ يكفروا هو المخصوصُ بالذمِّ . قال الشيخ : " وما نَقَلَه ابنُ عطية عن سيبويه وَهْمٌ عليه " . ونقل المهدوي وابن عطية عن الكسائي أيضاً أن " ما " يجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، والتقديرُ : بئسَ اشتراؤُهم ، فتكونُ " ما " وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ . قال ابنُ عطية : " وهذا معترضٌ بأنَّ " بِئْسَ " لا تَدْخُل على اسمٍ معيَّنٍ يتعرَّفُ بالإِضافةِ للضمير " . قال الشيخ : " وهذا لا يَلْزَم إلا إذا نَصَّ أنه مرفوعُ بئس ، أمَّا إذا جعله المخصوصَ بالذمِّ وجعل فاعلَ " بئس " مضمراً والتمييزُ محذوفٌ لفهم المعنى ، والتقدير : بئسَ اشتراءً اشتراؤُهم فلا يَلْزَمُ الاعتراضُ " قلت : وبهذا أَعْني بجَعْلِ فاعلِ بئسَ مضمراً فيها جَوَّز أبو البقاء في " ما " أَنْ تكونَ مصدريةً ، فإنه قال : " والرابعُ أن تكونَ مصدريةً أي : بئسَ شِراؤُهم ، وفاعلُ بئسَ على هذا مضمرٌ لأنَّ المصدر ههنا مخصوصٌ ليس بجنسٍ " يعني فلا يكونُ فاعلاً ، لكن يُبْطِلُ هذا القولَ عَوْدُ الضمير في " به " على " ما " والمصدريةُ لا يعودُ عليها ، لأنها حرفٌ عند الجمهور ، وتقديرُ أَدِلَّةِ كلِّ فريق مذكورٍ في المُطَوَّلات . فهذه نهايةُ القولِ في " بئسما " و " نِعِمَّا " واللهُ أعلم .

قوله : { أَن يَكْفُرُواْ } قد تقدَّم فيه أنه يجوزُ أن يكونَ هو المخصوصَ بالذمِّ فتكونُ الأوجهُ الثلاثة : إمَّا مبتدأ وخبرُه الجملةُ قبلَه ، ولا حاجةَ إلى الرابطِ ، لأنَّ العمومَ قائمٌ مَقامَه إذ الألفُ واللامُ في فاعلِ نِعْم وبئسَ للجنسِ ، أو لأنَّ الجملةَ نفسُ المبتدأ ، وإمّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وإمَّا مبتدأٌ وخبره محذوف ، وتقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ بدلاً أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ حَسْبما تقرَّر وتحرَّر . وأجاز الفراء أن يكونَ في محلِّ جَرِّ بدلاً من الضميرِ في " به " إذا جَعَلْتَ " ما " تامَّة .

قوله : { بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ } متعلِّق بيكفُروا ، وقد تقدَّم أنَّ " كفر " يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرفِ الجرِّ أخرى ، و " ما " موصولةٌ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ تقديرُه : أَنْزله ، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً ، وكذلك جَعْلُها مصدريةً والمصدرُ قائمٌ مقامَ المفعولِ أي بإنزالِه يعني بالمُنَزَّل .

قوله : { بَغْيَاً } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مفعولٌ مِنْ أَجْله وهو مستوفٍ لشروطِ النصبِ ، وفي الناصبِ له قولان ، أحدُهما وهو الظاهر أنه " يكفروا " أي علةُ كفرِهم البغيُ . والثاني أنه { اشْتَرَوْاْ } ، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشري ، فإنه قال : " وهو علةُ { اشْتَرَوْا } . والثاني من الأوجهِ الثلاثة : أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ يَدُلُّ عليه ما تَقَدَّم أي بَغَوْا بَغْيَاً . والثالث : أنه في موضعِ حالٍ ، وفي صاحِبها القولان المتقدَّمان : إمَّا فاعلُ { اشْتَرَوْاْ } وإمَّا فاعلُ { يَكْفُرُواْ } ، تقديرُه : اشْتَرَوا باغِين ، أو يَكْفُروا باغِين .

والبَغْيُ : أصلُه الفَسادُ مِنْ قَوْلِهم : بَغَى الجُرْحُ أي فَسَدَ قاله الأصمعيْ وقيل : هو شِدَّةُ الطلبِ ، ومنه قولُه تعالى : { مَا نَبْغِي } [ يوسف : 65 ] ، وقال الراجز :

أُنْشِدُ والباغي يُحِبُّ الوِجْدانْ *** قلائِصاً مختلفاتِ الألْوانْ ومنه " البَغِيُّ " لشدة طلبها له .

قوله { أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ } فيه قولان ، أحدُهما : أنَّه مفعولٌ من أجلِه والناصبُ له " بَغْياً " أي : عِلَّةُ البغيِ إنزالُ الله فَضْلَه على محمدٍ عليه السلامُ . والثاني أنَّه على إسقاطِ الخافضِ والتقديرُ : بَغْياً على أَنْ يُنَزِّلَ ، أي : حَسَدَاً على أَنْ يُنَزِّلَ ، فيجيءُ فيه الخلافُ المشهورُ : أهي في موضعِ نصبٍ أو في موضعِ جرِ ؟ والثالثُ : أنَّه في محلِّ جرٍّ بدلاً من " ما " في قوله : { بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ } بدلَ اشتمال ، أي : بإنزال الله فيكونُ مثلَ قولِ امرئ القيس :

أَمِنْ ذِكْر سلمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميعَ المضارع من " أَنْزَل " مخففاً إلا ما وقع الإِجماع على تشديدِه في الحجرِ { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ } [ الحجر : 21 ] ، وقد خالفا هذا الأصلَ : أمَّا أبو عمرو فإنه شدَّد { عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } [ الآية : 37 ]/ في الأنعام ، وأمَّا ابن كثير فإنه شَدَّد في الإِسراء ، { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ } [ الإسراء :82 ] { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً } [ الإسراء : 93 ] والباقون بالتشديد في جميع المضارع إلا حمزة والكسائيَّ فإنهما خالفا هذا الأصلَ فخَفَّفا : { وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } [ الآية : 34 ] آخر لقمان ، { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ } [ الآية : 28 ] في الشورى . والهمزةُ والتضعيفُ للتعديَةِ ، وقد تقدَّم : هل بينهما فرقٌ ؟ وتحقيقُ كلٍّ من القولين ، وقد ذَكَر القُرَّاءُ مناسباتٍ للإِجماعِ على التشديد في ذلك الموضعِ ومخالفةِ كلِّ واحدٍ أصلَه لماذا ؟ بما يطول ذكره ، والأظهرُ من ذلك كلِّه أنه جَمْعٌ بين اللغات .

قوله : { مِن فَضْلِهِ } : " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ ، وفيه قولان ، أحدُهما : أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولُ " يُنَزِّل " أي : أَنْ يُنَزِّل الله شيئاً كائناً من فضلِه فيكونُ في محلِّ نصب . والثاني : أنَّ " مِنْ " زائدةٌ ، وهو رأيُ الأخفش ، وحينئذٍ فلا تَعَلُّقَ له ، والمجرورُ بها هو المفعولُ أي : أَنْ يُنَزِّلُ الله فضله .

قوله { عَلَى مَن يَشَآءُ } متعلقٌ بيُنَزِّلَ . و " مَنْ " يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، والعائدُ على الموصولِ أو الموصوفِ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ المجوِّزةِ للحَذْفِ ، والتقديرُ : على الذي يشاؤُه أو على رجلٍ يشاؤه ، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً فإنه قال بعد تجويزِه في " مَنْ " أن تكونَ موصوفةً أو موصولةً " ومفعولُ " يشاء " محذوفٌ أي : يَشَاءُ نزولَه عليه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ يشاءُ يختارُ ويصطفي " انتهى .

وقد عَرَفْت أن العائدَ المجرورَ لا يُحْذَفُ إلا بشروطٍ وليسَتْ موجودةٌ هنا فلا حاجةَ إلى هذا التقديرِ .

قوله : { مِنْ عِبَادِهِ } فيه قولان : أحدُهما : أنَّه حالٌ من الضميرِ المحذوفِ الذي هو عائدٌ على الموصولِ أو الموصوفِ ، والإِضافةُ تقتضي التشريفَ . والثاني : أَنْ يكونَ صفةً ل " مَنْ " بعدَ صفةٍ على القولِ بكونِها نكرةً ، قاله أبو البقاء . وهو ضعيفٌ لأنَّ البداءة بالجارِّ والمجرورِ على الجملةِ في باب النعتِ عند اجتماعهما أَوْلَى لكونِه أقربَ إلى المفردِ ، فهو في محلِّ نصبٍ على الأولِ وجَرٍّ على الثاني ، وفي كِلا القولين يتعلَّق بمحذوفٍ وجوباً لِما عَرَفْتَ .

قوله : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ } الباءُ للحال ، أي : رَجَعوا ملتبسين بغضبٍ أي مغضوباً عليهم وقد تقدم ذلك . قوله { عَلَى غَضَبٍ } في محل جر لأنه صفة لقوله " بغضب " أي : كائن على غضب أي بغضبٍ مترادفٍ . وهل الغضبانِ مختلفانِ لاختلافِ سببهما ، فالأولُ لعبادةِ أسلافِهم العجلَ والثاني لكفرِهم بمحمدٍ السلام ، أو الأولُ لكفرِهم بعيسى والثاني لكفرِهم بمحمدٍ صلى الله وسلم عليهما ، أو هما شيءٌ واحدٌ وذُكِرا تشديداً للحال وتأكيداً ؟ خلافٌ مشهور .

قوله : { مُّهِينٌ } صفة لعذاب ، وأصلُه : " مُهْوِن " لأنه من الهَوان وهو اسمُ فاعلٍ من أَهان يُهين إهانةً ، مثل أَقامَ يُقيم إقامةً ، فنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ على الساكن قبلَها ، فَسَكَنَتِ الواوُ بعدَ كسرةٍ فَقُلِبَتْ ياءً . والإِهانةُ : الإِذلالُ والخِزْيُ ، وقال : " وللكافرين " ولم يَقُلْ : " ولهم " تنبيهاً على العلةِ المقتضيةِ للعذابِ المُهينِ .