{ لتركبن طبقا عن طبق } قرأ أهل مكة وحمزة والكسائي :{ لتركبن } بفتح الباء ، يعني لتركبن يا محمد . قال الشعبي ومجاهد : سماء بعد سماء . قال الكلبي : يعني تصعد فيها . ويجوز أن يكون درجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى والرفعة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سعيد بن النضر ، أنبأنا هيثم ، أنبأنا أبو البشر عن مجاهد قال قال ابن عباس : " { لتركبن طبقاً عن طبق } حالاً بعد حال ، قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم " . وقيل : أراد به السماء تتغير لوناً بعد لون ، فتصير تارة كالدهان وتارة كالمهل ، وتنشق بالغمام مرة وتطوى أخرى . وقرأ الآخرون بضم الباء ، لأن المعنى بالناس أشبه ، لأنه ذكر من قبل : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } وشماله وذكر من بعد : { فما لهم لا يؤمنون } وأراد : لتركبن حالاً بعد حال ، وأمراً بعد أمر في موقف القيامة ، يعني : الأحوال تنقلب بهم ، فيصيرون في الآخرة على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا . وعن بمعنى بعد . وقال مقاتل : أي الموت ثم الحياة ثم الموت ثم الحياة . قال عطاء : مرة فقيراً ومرة غنياً . وقال عمرو بن دينار عن ابن عباس : يعني الشدائد وأهوال الموت ، ثم البعث ثم العرض . وقال عكرمة : حالاً بعد حال ، رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ . وقال أبو عبيدة : لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالكم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، أنبأنا أبو عمر الصنعاني من اليمن عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتتعبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراعً ، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ " .
{ لَتَرْكَبُنَّ } [ أي : ] أيها الناس { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } أي : أطوارا متعددة وأحوالا متباينة ، من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى نفخ الروح ، ثم يكون وليدًا وطفلًا ، ثم مميزًا ، ثم يجري عليه قلم التكليف ، والأمر والنهي ، ثم يموت بعد ذلك ، ثم يبعث ويجازى بأعماله ، فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد ، دالة على أن الله وحده هو المعبود ، الموحد ، المدبر لعباده بحكمته ورحمته ، وأن العبد فقير عاجز ، تحت تدبير العزيز الرحيم ،
وقوله - سبحانه - { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } جواب القسم - كما سبق أن أشرنا - .
والمراد بالركوب : الملاقاة والمعاناة ، والخطاب للناس ، والطبق جمع طبقة ، وهى الشئ المساوى لشئ آخر ، والمراد بها هنا : الحالة أو المرتبة ، وعن بمعنى بعد .
أى : وحق الشفق ، والمراد بها هنا : الحالة أو المرتبة ، وعن بمعنى بعد .
أى : وحق الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . . لتلاقن - أيها الناس - أحوالا بعد أحوال ، هى طبقات ومراتب فى الشدة ، بعضها أصعب من بعض ، وهى الموت ، وما يكون بعده من حساب وجزاء يوم القيامة .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } خطاب لجنس الإِنسان المنادى أولا ، باعتبار شموله لأفراده ، والمراد بالركوب : الملاقاة ، والطبق فى الأصل ما طابق غيره مطلقا .
وخص فى العرف بالحال المطابقة لغيرها . . و " عن " للمجاوزة ، أو بمعنى " بعد " والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة أو حالا من فاعل لتركبن ، والظاهر أن " طبقا " منصوب على المفعولية ، أى : لتلاقن حالا كائنة بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها فى الشدة والهول . . منها ما هو فى الدنيا ، ومنها ما هو فى الآخرة .
وقرأ الأخوان - حمزة الكسوائى - وابن كثير { لتركبن } بفتح الباء - على أنه خطاب للإِنسان - أيضا - ، ولكن باعتبار اللفظ ، لا باعتبار الشمول .
وأخرج البخارى عن ابن عباس أنه خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ، أى : لتركبن - أيها الرسول الكريم - أحوال شريفة بعد أخرى من مراتب القرب . أو مراتب من الشدة بعد مراتب من الشدة ، ثم تكون العاقبة لك . .
( لتركبن طبقا عن طبق ) . . أي لتعانون حالا بعد حال ، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال . ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها . والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي ، كقولهم : " إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه " . . وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة . وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق ، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة ، مقدرة كذلك مرسومة ، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم ، الذي تحدثت عنه الفقرة السالفة . . وهذا التتابع المتناسق في فقرات السورة ، والانتقال اللطيف من معنى إلى معنى ، ومن جولة إلى جولة ، هو سمة من سمات هذا القرآن البديع .
وقوله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال البخاري : أخبرنا سعيد بن النضر ، أخبرنا هُشَيم ، أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد قال : قال ابن عباس : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال - قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم .
هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ{[29893]} ، وهو محتمل أن يكون ابن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فيكون قوله : " نبيكم " مرفوعا على الفاعلية من " قال " وهو الأظهر ، والله أعلم ، كما قال أنس : لا يأتي عام إلا والذي بعده شَرٌّ منه ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ؛ أن ابن عباس كان يقول : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم ، يقول : حالا بعد حال . وهذا لفظه{[29894]} .
وقال علي ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال . وكذا قال عكرمة ومُرَّة الطّيِّب ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك [ ومسروق وأبو صالح ]{[29895]} .
ويحتمل أن يكون المراد : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال . قال : هذا ، يعني المراد بهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فيكون مرفوعا على أن " هذا " و " نبيكم " يكونان مبتدأ وخبرا ، والله أعلم . ولعل هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثير من الرواة ، كما قال أبو داود الطيالسي وغُنْدَر : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : محمد صلى الله عليه وسلم . ويؤيد هذا المعنى قراءةُ عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعامة أهل مكة والكوفة : " لَتَرْكَبَنّ " بفتح التاء والباء .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن الشعبي : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : لتركَبن يا محمد سماء بعد سماء . وهكذا رُوي عن ابن مسعود ، ومسروق ، وأبي العالية : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } سماء بعد سماء .
وقال أبو إسحاق ، والسدي{[29896]} عن رجل ، عن ابن عباس : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } منزلا على منزل . وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس مثله - وزاد : " ويقال : أمرا بعد أمر ، وحالا بعد حال " .
وقال السدي نفسهُ : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } أعمال من قبلكم منزلا بعد منزل .
قلت : كأنه أراد معنى الحديث الصحيح : " لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم ، حَذْو القُذَّة بالقُذَّة ، حتى لو دخلوا جُحر ضَبِّ لدخلتموه " . قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن ؟ " {[29897]} وهذا محتمل .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة ، حدثنا ابن جابر ، أنه سمع مكحولا يقول في قول الله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : في كل عشرين سنة ، تحدثون أمرا لم تكونوا عليه .
وقال الأعمش : حدثني إبراهيم قال : قال عبد الله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : السماء تنشق ثم تحمر ، ثم تكون لونا بعد لون .
وقال الثوري ، عن قيس بن وهب ، عن مرة ، عن ابن مسعود : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : السماء مَرةً كالدهان ، ومرة تنشق .
وروى البزار من طريق جابر الجعفي ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } يا محمد ، يعني حالا بعد حال . ثم قال : ورواه جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس .
وقال سعيد بن جبير : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : قوم كانوا في الدنيا خسيس أمرهم ، فارتفعوا في الآخرة ، وآخرون كانوا أشرافا في الدنيا ، فاتضعوا في الآخرة .
وقال عكرمة : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال ، فطيما بعد ما كان رضيعًا ، وشيخًا بعد ما كان شابا .
وقال الحسن البصري : { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } يقول : حالا بعد حال ، رخاء بعد شدة ، وشدة بعد رخاء ، وغنى بعد فقر ، وفقرا بعد غنى ، وصحة بعد سقم ، وسَقَما بعد صحة .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عبد الله بن زاهر : حدثني أبي ، عن عمرو بن شَمِر ، عن جابر - هو الجعفي - عن محمد بن علي ، عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن ابن آدم لفي غفلة مما خُلِقَ له ؛ إن الله إذا أراد خلقه قال للملك : اكتب رزقه ، اكتب أجله ، اكتب أثره ، اكتب شقيا أو سعيدًا ، ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله إليه مَلَكا آخر فيحفظه حتى يدرك ، ثم يرتفع ذلك الملك ، ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته ، فإذا حَضَره الموتُ ارتفع ذانك الملكان ، وجاءه ملك الموت فقبض روحه ، فإذا دخل قبره رَدَّ الروح في جسده ، ثم ارتفع ملك الموت ، وجاءه مَلَكَا القبر فامتحناه ، ثم يرتفعان ، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات ، فانتشطا كتابا معقودا في عنقه ، ثم حضرا معه : واحدٌ سائقا وآخر شهيدا " ، ثم قال الله عز وجل : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } [ ق : 22 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال : " حالا بعد حال " . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن قدامكم لأمرا عظيما لا تَقدرُونه ، فاستعينوا بالله العظيم " {[29898]} .
هذا حديث منكر ، وإسناده فيه ضعفاء ، ولكن معناه صحيح ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
ثم قال ابن جرير بعد ما حكى أقوال الناس في هذه الآية من القراء والمفسرين : والصواب من التأويل قول من قال لَتَرْكَبَنّ أنت - يا محمد - حالا بعد حال وأمرًا بعد أمر من الشَّدَائد . والمراد بذلك - وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَجَّها {[29899]} - جَميعَ الناس ، وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا{[29900]} .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وابن عباس وعمر بخلاف عنهما ، وأبو جعفر والحسن والأعمش وقتادة وابن جبير : «لتركبُن » بضم الباء على مخاطبة الناس ، والمعنى «لتركبن » الشدائد : الموت والبعث والحساب حالاً بعد حال أو تكون من النطفة إلى الهرم كما تقول طبقة بعد طبقة و { عن } تجيء في معنى بعد كما يقال : ورث المجد كابراً عن كابر وقيل المعنى «لتركبن » هذه الأحوال أمة بعد أمة ، ومنه قول العباس بن عبد المطلب عن النبي عليه السلام :
وأنت لما بعثت أشرقت الأ . . . رض وضاءت بنورك الطرق
تنقل من صالب إلى رحم . . . إذا مضى علم بدا طبق{[11711]}
أي قرن من الناس لأنه طبق الأرض ، وقال الأقرع بن حابس : [ البسيط ]
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره . . . وساقني طبق منه إلى طبق{[11712]}
أي حال بعد حال ، وقيل المعنى : «لتركبن » الآخرة بعد الأولى ، وقرأ عمر بن الخطاب أيضاً : «ليركبن » على أنهم غيب ، والمعنى على نحو ما تقدم ، وقال ابو عبيدة ومكحول : المعنى «لتركبن » سنن من قبلكم .
قال القاضي أبو محمد : كما جاء في الحديث : «شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع{[11713]} » ، فهذا هو { طبق عن طبق } ، ويلتئم هذا المعنى مع هذه القراءة التي ذكرنا عن عمر بن الخطاب ، ويحسن مع القراءة الأولى ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وعمرو بن مسعود{[11714]} ومجاهد والأسود ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وعيسى : «لتركبَن » ، بفتح الباء على معنى : أنت يا محمد ، وقيل المعنى : حال بعد حال من معالجة الكفار ، وقال ابن عباس المعنى : سماء بعد سماء في الإسراء ، وقيل هي عدة بالنصر ، أي «لتركَبن » العرب قبيلاً بعد قبيل{[11715]} ، وفتحاً بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك ، قال ابن مسعود : المعنى : «لتركبَن » السماء في أهوال القيامة ، حالاً بعد حال تكون كالمهل وكالدهان وتتفطر وتتشقق ، فالسماء هي الفاعلة ، وقرأ ابن عباس أيضاً وعمر رضي الله عنهما : «ليركبن » بالياء على ذكر الغائب ، فإما أن يراد محمد صلى الله عليه وسلم على المعاني المتقدمة ، وقاله ابن عباس يعني : نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وإما ما قال الناس في كتاب النقاش من أن المراد : القمر ، لأنه يتغير أحوالاً وأسرارا واستهلالا .
وجملة : { لتركبن طبقاً عن طبق } نسج نظمها نسجاً مجملاً لتوفير المعاني التي تذهب إليْها أفهام السامعين ، فجاءت على أبدع ما يُنسج عليه الكلام الذي يُرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسْج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها .
فلمعاني الركوب المجازية ، ولمعاني الطبَق من حقيقي ومجازي ، مُتَّسَع لما تفيده الآية من المعاني ، وذلك ما جعَل لإِيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإِعجاز القرآني .
فأما فعل { لتركبن } فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدةٌ ، منها الغلَب والمتابعة ، والسلوك ، والاقتحام ، والملازمة ، والرفعة .
وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال : رَكب أمراً صعباً وارتكب خطَأ .
وأما كلمة { طبق } فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئاً آخر في حجمه وقدره ، وظاهر كلام « الأساس » و« الصحاح » أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشّيء لمُسَاويه فهو حقيقة في الغِطاء فيكون من الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيَّد كالخِوان والكأس ، وظاهر « الكشاف » أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قَيد الاعتلاء عارضاً بغلبة الاستعمال ، يقال : طابَق النعل النعل .
وأيّامَّا كان فهو اسم على وزن فَعَل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عومل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق . وإما أن يكون أصله اسمَ الطبَق وهو الغطاء لُوحظ فيه التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المُساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة .
ويطلق اسماً مفرداً للغطاء الذي يغطى به ، ومنه قولهم في المثل : « وافَقَ شنّ طبَقه » أي غِطآءَه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساوٍ لما يغطّيه . ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طُبق عليه .
ويطلق اسماً مفرداً أيضاً على شيء متخذ من أدم أوْ عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها ، وكأنه سمي طبقاً لأن أصله أن يستعمل غِطَاءَ الآنية فتوضع فيه أشياء .
ويطلق اسمَ جمععٍ لطبقة : وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثلَه في المقدار إلا أنه مرتفع عليه . وهذا من المجاز يقال : أتانا طَبق من الناس ، أي جماعة .
ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى { عن } من مجاوزة وهي معنى حقيقي ، أو من مرادفةِ كلمة ( بعد ) وهو معنى مجازي .
وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقاً بين المفعول به والحال ، وتزداد هذه المحامل إذا لم تُقْصَر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية : { يا أيها الإنسان إنك كادح } [ الانشقاق : 6 ] الآيات . ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد ، ومن اقتضاء فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل . فتتركب من هذه المحامل معاننٍ كثيرة صالحة لتأويل الآية .
فقيل المعنى : لتركُبن حالاً بعد حال ، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم والأظهرُ أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين « طبق » في الموضعين للتعظيم والتهويل و { عن } بمعنى ( بعد ) والبعدية اعتبارية ، وهي بعدية ارتقاء ، أي لَتُلاقُنَّ هَوْلاً أعظم من هول ، كقوله تعالى : { زدناهم عذاباً فوق العذاب } [ النحل : 88 ] . وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها .
وروى أبو نعيم عن جابر بن عبد الله تفسير الأحوال بأنها أحوال موت وإحياء ، وحشر ، وسعادة أو شقاوة ، ونعيم أو جحيم ، كما كتب الله لكل أحد عند تكوينه رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن كثير هو حديث مُنْكَر وفي إسناده ضعفاء ، أو حالاً بعد حال من شدائد القيامة وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن مع اختلاف في تعيين الحال .
وقيل : { لتركبن } منزلة بعد منزلة على أن طبقاً اسم للمنزلة ، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتَصِيرُنَّ من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة ، أو إن قوماً كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة ، فالتنوين فيهما للتنويع .
وقيل : من كان على صلاح دعاه إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فَوقه ، لأن كل شيء يجرُّ إلى شكله ، أي فتكون الجملة اعتراضاً بالموعظة وتكون { عن } على هذا على حقيقتها للمجاوزة ، والتنوين للتعظيم .
ويحتمل أن يكون الركوب مجازاً في السير بعلاقة الإِطلاق ، أي لتحضُرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى : { إلى ربك يومئذ المساق } [ القيامة : 30 ] وهذا تهديد لمنكريه ، وأن يكون الركوب مستعملاً في المتابعة ، أي لتَتَّبِعُنَّ . وحذف مفعول : « تركبن » بتقدير : ليَتبعن بعضُكم بعضاً ، أي في تصميمكم على إنكار البعث . ودليل المحذوف هو قوله : { طبقاً عن طبق } ويَكون { طبقاً } مفعولاً به وانتصاب { طبقاً } إما على الحال من ضمير { تركبُنّ } . وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية .
وموقع { عن طبق } موقع النعت ل { طبقاً } .
ومعنى { عن } إما المجاوزة ، وإما مرادفة معنى ( بعد ) وهو مجاز ناشىء عن معنى المجاوزة ، ولذلك لما ضمَّن النابغة معنى قولهم : « ورثوا المجد كابراً عن كابر » غيَّر حرف ( عن ) إلى كلمة ( بعد ) فقال :
لآلِ الجُلاَحِ كَابِراً بعدَ كابِر
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر { لتركبن } بضم الموحدة على خطاب الناس . وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى : { يا أيها الإنسان إنك كادح } [ الانشقاق : 6 ] . وحُمل أيضاً على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء ، أي تعتريها أحوال متعاقبة من الانشقاق والطيّ وكونها مرة كالدِّهان ومرة كالمُهل . وقيل : خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية : قيل : هي عِدة بالنَّصر ، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما وجد بعد ذلك ( أي بعد نزول الآية حين قويَ جانبُ المسلمين ) فيكون بشارة للمسلمين ، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة : { إنه ظن أن لن يحور } [ الانشقاق : 14 ] وجملة : { فما لهم لا يؤمنون } [ الانشقاق : 20 ] . وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين .