قوله تعالى : { قال } الله عز وجل { يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } ، قرأ الكسائي ويعقوب : عمل بكسر الميم وفتح اللام غير بنصب الراء على الفعل : أي : عمل الشرك والتكذيب . وقرأ الآخرون بفتح الميم ورفع اللام وتنوينه ، غير برفع الراء معناه : أن سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح ، { فلا تسألن } ، يا نوح ، { ما ليس لك به علم } . قرأ أهل الحجاز والشام فلا تسألن بفتح اللام وتشديد النون ، ويكسرون النون غير ابن كثير فإنه يفتحها ، وقرأ الآخرون بجزم اللام وكسر النون خفيفة ، ويثبت أبو جعفر وأبو عمرو وورش ويعقوب الياء في الموصل .
قوله تعالى : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } . واختلفوا في هذا الابن ، قال مجاهد والحسن : كان ولد حنث من غير نوح ، ولم يعلم بذلك نوح ، ولذلك قال : { ما ليس لك به علم } وقرأ الحسن { فخانتاهما } [ التحريم-10 ] . وقال أبو جعفر الباقر : كان ابن امرأته وكان يعلمه نوح ولذلك قال { من أهلي } ولم يقل مني . وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرون : إنه كان نوح عليه السلام من صلبه . وقال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط .
وقوله تعالى : { إنه ليس من أهلك } أي : من أهل الدين ، لأن كان مخالفا له في الدين ، وقوله : { فخانتاهما } أي : في الدين والعمل الصالح لا في الفراش .
وقوله تعالى : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } ، يعني : أن تدعو بهلاك الكفار ثم تسأل نجاة كافر .
ف { قَالَ } الله له : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } الذين وعدتك بإنجائهم { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } أي : هذا الدعاء الذي دعوت{[430]} به ، لنجاة كافر ، لا يؤمن بالله ولا رسوله .
{ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : ما لا تعلم عاقبته ، ومآله ، وهل يكون خيرا ، أو غير خير .
{ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } أي : أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين ، وتنجو به من صفات الجاهلين .
وقوله - سبحانه - { قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ . . } رد من الله - تعالى - على نوح فيما طلبه منه .
أى : قال الله - تعالى - مجيبا لنوح - عليه السلام - فيما أسأله إياه : يا نوح إن ابنك هذا { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } لأن مدار الأهلية مبنى على القرابة الدينية ، وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر .
أو ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم ، بل هو ممن سبق عليه القول بسبب كفره .
فالمراد نفى أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، وليس المراد نفى أن يكون من صلبه ، لأن ظاهر الآية يدل على أنه ابنه من صلبه ، ومن قال بغير ذلك فقوله ساقط ولا يلتفت إليه ، لخلوه عن الدليل .
قال ابن كثير : وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب فى تفسير هذا إلا أنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن زنية .
وقال ابن عباس وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبى قط ، ثم قال : وقوله { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أى : الذين وعدتك بنجاتهم .
وقول ابن عباس فى هذا هو الحق الذى لا محيد عنه ؛ فإن الله - تعالى - أغير من أن يمكن امرأة نبى من الفاحشة .
وجملة { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } تعليل لنفى الأهلية .
وقد قرأ الجمهور ( عمل ) بفتح الميم وتنوين اللام - على أنه مصدر مبالغة فى ذمة حتى لكأنه هو نفس العمل غير الصالح وأصل الكلام إنه ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف للمبالغة بجعله عين عمله الفاسد لمداومته عليه .
وقرأ الكسائي ويعقوب { عمل } بوزن فرح بصيغة الفعل الماضى - أى : إنه عمل غير صالح وهو الكفر والعصيان ، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه .
قال صاحب الكشاف وقوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } تعليل لانتفاء كونه من أهله وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وأن نسيبك فى دينك ومعتقدك من الأباعد فى المنصب وإن كان حبشيا وكنت قرشيا لصيفك وخصيصك ، ومن لم يكن على دينك وإن كان أمس أقاربك رحما فهو أبعد بعيد منك .
وقال الفخر الرازى : هذه الآية يدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب ، فإن فى هذه الصورة كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ، ولكن لما انتفت قرابة الدين ، لا جرم نفاه الله - تعالى - بأبلغ الألفاظ وهو : قوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } .
والفاء فى قوله : { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ . . } للتفريع .
أى : ما دمت قد وقفت على حقيقة الحال ، فلا تلتمس منى ملتمسا لا تعلم على وجه اليقين ، أصواب هو أم غير صواب ، بل عليك أن تثبت من صحة ما تطلبه ، قبل أن تقدم على طلبه .
وجملة { إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } تأكيد لما قبلها ، ونهى له عن مثل هذا السؤال فى المستقبل ، بعد أن أعلمه بحقيقة حال ابنه .
أى : إن أنهاك يا نوح عن أن تكون من القوم الجاهلين ، الذين يسألون عن أشياء لا يتحققون وجه الصواب فيها .
وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها . فالأهل - عند الله وفي دينه وميزانه - ليسوا قرابة الدم ، إنما هم قرابة العقيدة . وهذا الولد لم يكن مؤمنا ، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن . . جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد ؛ وفيما يشبه التقريع والتأنيب والتهديد :
( قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) . .
إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين . حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا . عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد مالا يربطه النسب والقرابة :
( إنه ليس من أهلك . إنه عمل غير صالح ) . .
فهو منبت منك وأنت منبت منه ، ولو كان ابنك من صلبك ، فالعروة الأولى مقطوعة ، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة .
ولأن نوحا دعا دعاء من يستنجز وعدا لا يراه قد تحقق . . كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد :
( فلا تسألن ما ليس لك به علم . إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) . .
إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط ، أو حقيقة وعد الله وتأويله ، فوعد الله قد أول وتحقق ، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق .
{ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الذين وعدت إنجاءهم{[14627]} ؛ لأني{[14628]} إنما وعدتك{[14629]} بنجاة من آمن من أهلك ؛ ولهذا قال : { وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } [ هود : 40 ] ، فكان هذا الولد ممن سَبَق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبيّ الله نوحا ، عليه السلام .
وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن زِنْية{[14630]} ، ويحكى القول بأنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن امرأته عن مجاهد ، والحسن ، وعُبَيد بن عُمَير ، وأبي جعفر الباقر ، وابن جُرَيج ، واحتج بعضهم بقوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } وبقوله : { فَخَانَتَاهمُا } [ التحريم : 10 ] ، فممن قاله الحسن البصري ، احتج بهاتين الآيتين . وبعضهم يقول : كان ابن امرأته . وهذا يحتمل{[14631]} أن يكون أراد ما أراد الحسن ، أو أراد أنه نسب إليه مجازا ، لكونه كان ربيبًا عنده ، فالله أعلم .
وقال ابن عباس ، وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبي قط ، قال : وقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الذين وعدتك نجاتهم{[14632]} .
وقولُ ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه ، فإن الله سبحانه{[14633]} أغير من أن يمكن{[14634]} امرأة نبي من الفاحشة{[14635]} ولهذا غضب الله على الذين رمَوا أم المؤمنين عائشة بنتَ الصدّيق زوج النبي صلى الله عليه وسلم{[14636]} ، وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إلى قوله { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [ النور : 11 - 15 ] .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة وغيره ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية . قال عكرمة : في بعض الحروف : " إنه عَمِل عملا غير صالح " ، والخيانة تكون على غير باب .
وقد ورد في الحديث أن رسول الله قرأ بذلك ، فقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد قالت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : " إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِح " ، وسمعته يقول{[14637]} : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } ولا يبالي { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ]{[14638]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا وَكِيع ، حدثنا هارون النحوي ، عن ثابت البُنَاني ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أم سلمة أن رسول الله قرأها : " إنه عَمِل غَيْرَ صَالِح " {[14639]} أعاده أحمد أيضا في مسنده{[14640]} .
أم سلمة هي{[14641]} أم المؤمنين والظاهر - والله أعلم - أنها أسماء{[14642]} بنت يزيد ، فإنها تكنى بذلك أيضا{[14643]} .
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سليمان بن قَتَّة قال : سمعت ابن عباس - سُئِل - وهو إلى جَنْب الكعبة - عن قول الله : { فَخَانَتَاهُمَا } [ التحريم : 10 ] ، قال : أما وإنه لم يكن بالزنا ، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدل على الأضياف . ثم قرأ : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } قال ابن عيينة : وأخبرني عمار الدُهْبِي{[14644]} أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال : كان ابن نوح ، إن الله لا يكذب ! قال تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } قال : وقال بعض العلماء : ما فجرت امرأة نبي قط{[14645]} .
وكذا روي عن مجاهد أيضًا ، وعكرمة ، والضحاك ، وميمون بن مِهْران وثابت بن الحجاج ، وهو اختيار أبي جعفر بن جرير ، وهو الصواب [ الذي ]{[14646]} لا شك فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَنُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّيَ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } .
يقول الله تعالى ذكره : قال الله يا نوح إن الذي غرّقته فأهلكته الذي تذكر أنه من أهلك ليس من أهلك .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ فقال بعضهم : معناه : ليس من ولدك هو من غيرك . وقالوا : كان ذلك من حِنْث . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : لم يكن ابنه .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا يحيى بن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي جعفر : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : ابن امرأته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أصحاب ابن أبي عَروبة فيهم الحسن ، قال : لا والله ما هو بابنه .
قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : هذه بلغة طيّ لم يكن ابنه ، كان ابن امرأته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، ومنصور ، عن الحسن في قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : لم يكن ابنه . وكان يقرؤها : «إنّهُ عَمِلَ غيرَ صَالِحٍ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كنت عند الحسن فقال : نادي نوح ابنه : لعمر الله ما هو ابنه قال : قلت يا أبا سعيد يقول : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ وتقول : ليس بابنه ؟ قال : أفرأيت قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ ؟ قال : قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهَم معك ، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه . قال : إن أهل الكتاب يَكْذِبون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : سمعت الحسن يقرأ هذه الآية : «إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ إنّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ » فقال عند ذلك : والله ما كان ابنه ثم قرأ هذه الآية : فخانَتاهُما قال سعيد : فذكرت ذلك لقتال ، قال : ما كان ينبغي له أن يحلف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال : تبين لنوح أنه ليس بابنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال : بين الله لنوح أنه ليس بابنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
قال ابن جريج في قوله : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : ناداه وهو يحسبه أنه ابنه وكان وُلِد على فراشه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ثور ، عن أبي جعفر : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : لو كان من أهله لنجا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، وسمع عبيد بن عمير يقول : نرى أن ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم«الوَلَدُ للْفِرَاشِ » ، من أجل ابن نوح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن ابن عون ، عن الحسن ، قال : لا والله ما هو بابنه .
وقال آخرون : معنى ذلك : لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ الذين وعدتك أن أُنجيهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبي عامر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : هو ابنه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، قال : حدثنا أبو عامر ، عن الضحاك ، قال : قال ابن عباس : هو ابنه ، ما بغت امرأة نبيّ قطّ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي عامر الهمدانيّ ، عن الضحاك بن مزاحم ، عن ابن عباس ، قال : ما بغت امرأة نبيّ قطّ ، قال : وقوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ الذين وعدتك أن أنجيهَم معك .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وغيره ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : هو ابنه ، غيرَ أنه خالفه في العمل والنية . قال عكرمة في بعض الحروف : إنه عمل عملاً غير صالح ، والخيانة تكون على غير باب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان عكرمة يقول : كان ابنه ، ولكن كان مخالفا له في النية والعمل ، فمن ثم قيل له : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قَتّة ، قال : سمعت ابن عباس يُسأل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله تعالى : فخانَتاهُمَا قال : أَمَا إنه لم يكن بالزنا ، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدلّ على الأضياف . ثم قرأ : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ .
قال ابن عيينة : وأخبرني عمار الدّهْنِيّ أنه سأل سعيد بن جبير ، عن ذلك فقال : كان ابن نوح ، إن الله لا يكذب . قال : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : وقال بعض العلماء : ما فجرت امرأة نبيَ قط .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال الله وهو الصادق ، وهو ابنه : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سعيد ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس ، قال : ما بغت امرأة نبيّ قطّ .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : سألت أبا بشر ، عن قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : ليس من أهل دينك ، وليس ممن وعدتك أن أنجيهَم . قال يعقوب : قال هشيم : كان عامة ما كان يحدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، عن يعقوب بن قيس ، قال : أتى سعيدَ بن جبير رجل فقال : يا أبا عبد الله ، الذي ذكر الله في كتابه ابن نوح أبنه هو ؟ قال : نعم ، والله إن نبيّ الله أمره أن يركب معه في السفينة فعصى ، فقال : سآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ قالَ يا نُوحُ إنّهُ لَيسَ مِنْ أهْلِكَ إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ لمعصية نبيّ الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن أبي معاوية البَجَلِي ، عن سعيد بن جبير أنه جاء إليه رجل فسأله فقال : أرأيتك ابن نوح : أبنه ؟ فسبح طويلاً ثم قال : لا إله إلا الله ، يحدّث الله محمدا : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ وتقول ليس منه ولكن خالفه في العمل ، فليس منه من لم يؤمن .
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي هارون الغَنَوي ، عن عكرمة ، في قوله : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال : أشهد أنه ابنه ، قال الله : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قالا : هو ابنه .
حدثني فَضَالة بن الفضل الكوفي ، قال : قال بَزِيع : سأل رجل الضحاك عن ابن نوح فقال : ألا تعجبون إلى هذا الأحمق يسألني عن ابن نوح ؟ وهو ابن نوح ، كما قال الله : قال نوح لابنه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك أنه قرأ : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ . وقوله : لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : يقول : ليس هو من أهلك . قال : يقول : ليس هو من أهل ولايتك ، ولا ممن وعدتك أن أنجيَ من أهلك . إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ قال : يقول : كان عمله في شرك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هو والله ابنه لصلبه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ قال : ليس من أهل دينك ، ولا ممن وعدتك أن أنجيه ، وكان ابنه لصلبه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قالَ يا نُوحُ إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ يقول : ليس ممن وعدناه النجاة .
حُدثت عن الحسينِ بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ يقول : ليس من أهل ولايتك ، ولا ممن وعدتك أن أنجيَ من أهلك . إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ يقول : كان عمله في شرك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا خالد بن حيان ، عن جعفر بن بِرْقان ، عن ميمون ، وثابت بن الحجاج قالا : هو ابنه وُلد على فراشه .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : تأويل ذلك : إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجَيهم ، لأنه كان لدينك مخالفا وبي كافرا . وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه ، فقال : وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ وغير جائز أن يخبر أنه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر . وليس في قوله : إنّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ دلالة على أنه ليس بابنه ، إذ كان قوله : لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ محتملاً من المعنى ما ذكرنا ، ومحتملاً أنه ليس من أهل دينك ، ثم يحذف «الدين » فيقال : إنه ليس من أهلك ، كما قيل : وَاسأَلِ القَرْيَةَ التي كُنّا فِيها .
وأما قوله : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ بتنوين عمل ورفع غير .
واختلف الذي قرءوا ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : إن مسألتك إياي هذه عملٌ غيرُ صالح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ قال : إن مسألتك إياي هذه عمل غير صالح .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ أي سوء فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ يقول : سؤالك عما ليس لك به علم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن حمزة الزيات ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قوله : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ قال : سؤالك إياي عمل غير صالح فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .
وقال آخرون : بل معناه : إن الذي ذكرت أنه ابنك فسألتني أن أنجيَه عمل غير صالح ، أي أنه لغير رِشْدة . وقالوا : الهاء في قوله : «إنّهُ » عائدة على الابن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ابن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن أنه قرأ : عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ قال : ما هو والله بابنه .
ورُوي عن جماعة من السلف أنهم قرأوا ذلك : «إنّهُ عَمِلَ غيرَ صَالِحٍ » على وجه الخبر عن الفعل الماضي ، وغير منصوبة . وممن رُوي عنه أنه قرأ ذلك كذلك ابن عباس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قَتّة ، عن ابن عباس أنه قرأ : «عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ » .
حدثنا به ابن وكيع ، قال : حدثنا غُنْدر ، عن ابن أبي عَروبة عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : إنّهُ عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ قال : كان مخالفا له في النية والعمل .
ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من قراء الأمصار إلا بعض المتأخرين . واعتل في ذلك بخبر رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ذلك كذلك غير صحيح السند ، وذلك حديث رُوي عن شَهْر بن حَوْشَب ، فمرة يقول عن أمّ سلمة ، ومرّ يقول عن أسماء بنت يزيد ، ولا نعلم لبنت يزيد ولا نعلم لشَهْرٍ سماعا يصحّ عن أمّ سلمة .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وذلك رفع «عمل » بالتنوين ، ورفع «غير » ، يعني : إن سؤالك إياي ما تسألنيه في ابنك المخالف دينك الموالي أهل الشرك بي من النجاة من الهلاك ، وقد مضت إجابتي إياك في دعائك : لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا ما قد مضى من غير استثناء أحد منهم عملٌ غير صالح ، لأنه مسألة منك إليّ أن لا أفعل ما قد تقدم مني القول بأني أفعله في إجابتي مسألتك إياي فعله ، فذلك هو العمل غير الصالح . وقوله : فَلا تَسأَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ نهي من الله تعالى ذَكّره نبيه نوحا أن يسأله عن أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر . يقول له تعالى ذكره : إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهكلته ، فلا تسألن بعدها عما قد طَوَيت علمه عنك من أسباب أفعالي ، وليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين في مسألتك إياي عن ذلك .
وكان ابن زيد يقول في قوله : إنّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ من الجاهِلِينَ ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ أن تبلغ الجهالة بك أن لا أَفِيَ لك بوعد وعدتك حتى تسألني ما ليس لك به علم وَإلاّ تَغْفِرْ لي وَتَرْحَمِني أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فَلا تَسألَنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ علْمٌ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار فَلا تَسألْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِه علْمٌ بكسر النون وتخفيفها ، ونَحَوْا بكسرها إلى الدلالة على الياء التي هي كناية اسم الله فَلا تَسألْنِ . وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض أهل الشام : «فَلا تَسألَنّ » بتشديد النون وفتحها ، بمعنى : فلا تسألنّ يا نوح ما ليس لك به علم .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا تخفيف النون وكسرها ، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب المستعمل بينهم .
{ قال يا نوح انه ليس من أهلك } لقطع الولاية بين المؤمن والكافر وأشار إليه بقوله : { إنه عمل غير صالح } فإنه تعليل لنفي كونه من أهله ، وأصله إنه ذو عمل فاسد فجعل ذاته ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادْكّرتْ *** فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
ثم بدل الفاسد بغير الصالح تصريحا بالمناقضة بين وصفيها وانتفاء ما أوجب النجاة لمن نجا من أهله عنه . وقرأ الكسائي ويعقوب { إنه عمل غير صالح } أي عمل عملا غير صالح . { فلا تسألن ما ليس لك به علم } ما لا تعلم أصواب هو أم ليس كذلك ، وإنما سمي نداءه سؤالا لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه في شأن ولده أو استفسار المانع للإنجاز في حقه ، وإنما سماه جهلا وزجر عنه بقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال وأغناه عن السؤال ، لكن أشغله حب الولد عنه حتى اشتبه عليه الأمر . وقرأ ابن كثير بفتح اللام والنون الشديدة وكذلك نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة وعن نافع برواية رويس إثباتها في الوصل .
وقوله تعالى : { قال يا نوح } الآية ، المعنى قال الله تعالى : يا نوح ، وقالت فرقة : المراد أنه ليس بولد لك ، وزعمت أنه كان لغية{[6373]} ، وأن امرأته الكافرة خانته فيه ، هذا قول الحسن وابن سيرين وعبيد بن عمير : وقال بزي إنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش من أجل ابن نوح{[6374]} ، وحلف الحسن أنه ليس بابنه ، وحلف عكرمة والضحاك أنه ابنه .
قال القاضي أبو محمد : عول الحسن على قوله تعالى : { إنه ليس من أهلك } ، وعول الضحاك وعكرمة على قوله تعالى : { ونادى نوح ابنه } [ هود : 42 ] .
وقرأ الحسن ومن تأول تأويله : { إنه عمل غير صالح } على هذا المعنى ، وهي قراءة السبعة سوى الكسائي : وقراءة جمهور الناس ، وقال من خالف الحسن بن أبي الحسن : المعنى : ليس من أهلك الذين عمهم الوعد لأنه ليس على دينك وإن كان ابنك بالولاء{[6375]} . فمن قرأ من هذه الفرقة { إنه عمل غير صالح } جعله وصفاً له بالمصدر على جهة المبالغة ، فوصفه بذلك كما قالت الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها : [ البسيط ]
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت*** فإنما هي إقبال وإدبار{[6376]}
أي ذات إقبال وإدبار . وقرأ بعض هذه الفرقة «إنه عمل غير صالح » وهي قراءة الكسائي ، وروت هذه القراءة أم سلمة وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكره أبو حاتم ، وضعف الطبري هذه القراءة وطعن في الحديث بأنه من طريق شهر بن حوشب ، وهي قراءة علي وابن عباس وعائشة وأنس بن مالك ، ورجحها أبو حاتم وقرأ بعضها : «إنه عمل عملاً غير صالح » . وقالت فرقة : الضمير في قوله : «إنه عمل غير صالح » على قراءة جمهور السبعة على سؤال الذي يتضمنه الكلام وقد فسره آخر الآية ؛ ويقوي هذا التأويل أن في مصحف ابن مسعود «إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم » . وقالت فرقة : الضمير عائد على ركوب ولد نوح معهم الذي يتضمنه سؤال نوح ، المعنى : أن ركوب الكافر مع المؤمنين عمل غير صالح ، وقال أبو علي : ويحتمل أن يكون التقدير أن كونك مع الكافرين وتركك الركوب معنا عمل غير صالح .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل لا يتجه من جهة المعنى ، وكل هذه الفرق قال : إن القول بأن الولد كان لغية وولد فراش خطأ محض وقالوا : إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ما زنت امرأة نبي قط » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الحديث ليس بالمعروف ، وإنما هو من كلام ابن عباس رضي الله عنه ويعضده شرف النبوة . وقالوا في قوله عز وجل : { فخانتاهما }{[6377]} إن الواحدة كانت تقول للناس : هو مجنون ؛ والأخرى كانت تنبه على الأضياف ، وأما غير هذا فلا{[6378]} ، وهذه منازع ابن عباس وحججه ؛ وهو قوله وقول الجمهور من الناس{[6379]} .
وقرأ ابن أبي مليكة : «فلا تسلْني » بتخفيف النون وإثبات الياء وسكون اللام دون همز . وقرأت فرقة بتخفيف النون وإسقاط الياء وبالهمز «فلا تسألن » ، وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسر النون وشدها والهمز وإثبات الياء «فلا تسألنِّي » ، وقرأ نافع ذلك دون ياء «فلا تسألن » وقرأ ابن كثير وابن عامر «فلا تسألنَّ » بفتح النون المشددة ، وهي قراءة ابن عباس ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «فلا تسلْن » خفيفة النون ساكنة اللام ، وكان أبو عمرو يثبت الياء في الوصل ، وحذفها عاصم وحمزة في الوصل والوقف . ومعنى قوله : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد فإذ رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك واجب بحق عند الله .
قال القاضي أبو محمد : ولكن نوحاً عليه السلام حملته شفقة النبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير ، وعلى هذا القدر وقع عتابه ، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } ، وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فلا تكونن }{[6380]} ، وذلك هنا بحسب الأمر الذي عوتب فيه وعظمته ، فإنه لضيق صدره بتكاليف النبوة ، وإلا فمتقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل البشر وأولاهم بلين المخاطبة ؛ ولكن هذا بحسب الأمرين لا بحسب النبيين . وقال قوم : إنما وقر نوح لسنة . وقال قوم : إنما حمل اللفظ على محمد صلى الله عليه وسلم كما يحمل الإنسان على المختص به الحبيب إليه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، ويحتمل قوله : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } ، أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي ، وقال : إن { به } يجوز أن يتعلق بلفظة { علم } كما قال الشاعر : [ الرجز ] .
كان جزائي بالعصا أن أجلدا{[6381]}
ويجوز أن يكون { به } بمنزلة فيه ، فتتعلق الباء بالمستقر .
قال القاضي أبو محمد : واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي ، والمعنى في الآية واحد ، وروي أن هذا الابن إنما كان ربيبه وهذا ضعيف ؛ وحكى الطبري عن ابن زيد أن معنى قوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } في أن تعتقد أني لا أفي لك بوعد وعدتك به .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بشع ، وليس في الألفاظ ما يقتضي أن نوحاً اعتقد هذا وعياذاً بالله{[6382]} ، وغاية ما وقع لنوح عليه السلام أن رأى ترك ابنه معارضاً للوعد فذكر به ، ودعا بحسب الشفقة ليكشف له الوجه الذي استوجب به ابنه الترك في الغرقى .
معنى قوله تعالى : { إنّه ليس من أهلك } نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالاً لقول نوح عليه السّلام : { إن ابني من أهلي } ولكنّه إعلام بأنّ قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة ، وهذا المعنى شائع في الاستعمال .
قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن :
إذا حاولت في أسد فجوراً *** فإني لست منك ولست منّي
وقال تعالى : { ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قومٌ يفرقون } [ التوبة : 56 ] .
وتأكيد الخبر لتحقيقه لِغرابته .
وجملة { إنّه عَمل غير صالح } تعليل لمضمون جملة { إنه ليس من أهلك } ف ( إنّ ) فيه لمجرد الاهتمام .
و{ عَمَلٌ } في قراءة الجمهور بفتح الميم وتنوين اللام مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع { غيرُ } على أنه صفة ( عمل ) . وقرأه الكسائي ، ويعقوب { عَمِلَ } بكسر الميم بصيغة الماضي وبنصب { غيرَ } على المفعولية لفعل ( عمل ) . ومعنى العمل غير الصالح الكفر ، وأطلق على الكفر ( عمل ) لأنه عمل القلب ، ولأنّه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان .
وتفرع على ذلك نهيه أن يَسأل ما ليس له به علم نهيَ عتاب ، لأنّه لما قيل له { إنّه ليس من أهلك } بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح ، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله ، فكان حقيقاً بأن لا يسأله وأن يتدبّر ما أرَاد أن يسأله من الله .
وقرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر « فلا تسألنّي » بتشديد النون وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا . وأثبتَ ياء المتكلم من عدا ابنَ كثير من هؤلاء . أما ابن كثير فقرأ « فلا تسألنّ » بنون مشددة مفتوحة . وقرأه أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف « فلا تسألْنِ » بسكون اللام وكسر النون مخففة على أنّه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى إلى ياء المتكلم .
وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل ، وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو .
ثم إن كان نوح عليه السّلام لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم ، نهيَ تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤْلاً لا يعلم إجابته . وهذا كقوله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [ سبأ : 23 ] وقوله : { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } [ النبإ : 38 ] ، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل ، كما دل عليه قوله : { وإنّ وعدكَ الحقُ } ، وكان سؤاله المغفرة لابنه طلباً تخصيصَه من العموم . وكان نهيه نهيَ لَوم وعتاب حيث لم يتبيّن من ربه جواز ذلك .
وكان قوله : { ما ليس لك به علم } محتملاً لظاهره ، ومحتملاً لأن يكون كناية عن العلم بضده ، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع .
ثم إن كان قول نوح عليه السّلام { إنّ ابني من أهلي } إلى آخره تعريضاً بالمسؤول كان النّهي في قوله : { فلا تسألنّي ما ليس لك به علم } نهياً عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله ؛ وإن كان قول نوح عليه السّلام مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى : { فلا تسألنّي } نهياً عن الإفضاء بالسؤال الذي مَهّد له بكلامه . والمقصود من النهي تنزيهه عن تَعريض سؤاله للردّ .
وعلى كل الوجوه فقوله : { إني أعظك أن تكون من الجاهلية } موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام .
والجهل فيه ضد العلم ، وهو المناسب لمقابلته بقوله : { ما ليس لك به علم } .