الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (46)

{ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } تعليل لانتفاء كونه من أهله . وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وأنّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب وإن كان حبشياً وكنت قرشياً لصيقك وخصيصك . ومن لم يكن على دينك - وإن كان أمس أقاربك رحماً - فهو أبعد بعيد منك ، وجعلت ذاته عملاً غير صالح ، مبالغة في ذمّه ، كقولها :

فَإنَّمَا هي إقْبَالٌ وَإدْبَارُ ***

وقيل : الضمير لنداء نوح ، أي : إنّ نداءك هذا عمل غير صالح وليس بذاك -

فإن قلت : فهلا قيل : إنه عمل فاسد ؟ قلت : لما نفاه عن أهله ، نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقي معها لفظ المنفي ، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم ، لا لأنهم أهلك وأقاربك . وإنّ هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك ، كقوله : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً } [ التحريم : 10 ] وقرئ : «عمل غير صالح » أي عمل عملا غير صالح . وقرئ : «فلا تسئلنّ » بكسر النون بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء ، يعني فلا تلتمس مني ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب ، حتى تقف على كنهه . وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه .

فإن قلت : لم سمي نداؤه سؤالاً ولا سؤال فيه ؟ قلت : قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به ، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق فقد استنجز . وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً وغباوة ، ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين .

فإن قلت : قد وعده أن ينجي أهله ، وما كان عنده أن ابنه ليس منهم ديناً ، فلما أشفى على الغرق تشابه عليه الأمر ، لأن العدة قد سبقت له وقد عرف الله حكيماً لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد ، فطلب إماطة الشبهة وطلبُ إماطة الشبهة واجب ، فلم زجر وسمي سؤاله جهلاً ؟ قلت : إن الله عز وعلا قدّم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم ، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح ، وأن كلهم ليسوا بناجين ، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه .