13- وإذا قال قائل لهم ينصحهم ويرشدهم : أقبلوا على ما يجب ، وهو أن تؤمنوا إيماناً مخلصاً مثل إيمان الناس الكاملين المستجيبين لصوت العقل ؛ سخروا وتهكَّموا وقالوا : لا يليق بنا أن نتبع هؤلاء الجهلاء ضعاف العقول . فرد الله عليهم تطاولهم وحكم عليهم بأنهم - وحدهم - الجهلاء الحمقى . ولكنهم لا يعلمون علماً يقيناً أن الجهل ونقص الإدراك محصور فيهم مقصور عليهم .
قوله تعالى : { وإذا قيل لهم } . أي للمنافقين وقيل لليهود .
قوله تعالى : { آمنوا كما آمن الناس } . عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب وقيل كما آمن المهاجرون والأنصار .
قوله تعالى : { قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } . أي الجهال . فإن قيل كيف يصح النفاق مع المهاجرة بقولهم : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ قيل إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين . فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك فرد الله عليهم فقال :
قوله تعالى : { ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } . أنهم كذلك . والسفيه خفيف العقل رقيق الحلم من قولهم : ثوب سفيه أي رقيق . وقيل السفيه الكذاب الذي يتعمد الكذب بخلاف ما يعلم . قرأ أهل الكوفة والشام السفهاء ألا بتحقيق الهمزتين وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا والآخرون يحققون الأولى ويلينون الثانية في المختلفتين طلباً للخفة فإن كانتا متفقتين مثل : هؤلاء ، وأولياء ، وأولئك ، وجاء أمر ربك . قرأ أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بهمزة واحدة ، وقرأ أبو جعفر وورش والقواش و يعقوب بتحقيق الأولى وتليين الثانية ، وقرأ قالون بتليين الأولى وتحقيق الثانية لأن ما يستأنف أولى بالهمزة مما يسكت عليه .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ }
أي : إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس ، أي : كإيمان الصحابة رضي الله عنهم ، وهو الإيمان بالقلب واللسان ، قالوا بزعمهم الباطل : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ يعنون - قبحهم الله - الصحابة رضي الله عنهم ، بزعمهم{[49]} أن سفههم أوجب لهم الإيمان ، وترك الأوطان ، ومعاداة الكفار ، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك ، فنسبوهم إلى السفه ، وفي ضمنه{[50]} أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهى .
فرد الله ذلك عليهم ، وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة ، لأن حقيقة السفه{[51]} جهل الإنسان بمصالح نفسه ، وسعيه فيما يضرها ، وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم ، كما أن العقل والحجا ، معرفة الإنسان بمصالح نفسه ، والسعي فيما ينفعه ، و[ في ] دفع ما يضره ، وهذه الصفة منطبقة على [ الصحابة و ]المؤمنين وصادقة عليهم ، فالعبرة بالأوصاف والبرهان ، لا بالدعاوى المجردة ، والأقوال الفارغة .
ثم بين القرآن أن الناصحين قد أمروهم بالمعروف بعد أن نهوهم عن المنكر فقال :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء } .
المراد من الناس : المؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم الصادقون في إيمانهم .
السفهاء : جمع سفيه ، وأصل السفه : الخفة والرقة والتحرك والاضطراب يقال : ثوب سفيه ، إذا كان رديء النسج خفيفه ، أو كان بالياً رقيقاً . وتسفهت الريح الشجر . أي : مالت به . وزمام سفيه : كثير الاضطراب ، لمنازعة الناقة إياه ، وشاع في خفة العقل وضعف الرأي .
وهو المعنى المقصود بالسفهاء في الآية . فقد كان المنافقون يصفون المسلمين بذلك فيما بينهم . وروى أنهم كانوا يقولون : أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان ، وسفيه بني فلان ؟ ! فأوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذي كانوا يقولونه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وصفوهم بالسفه وهم العقلاء المراجيح ؟ قلت لأن المنافقين لجهلهم وإخلالهم بالنظر ، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق ، وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً ، ولأنهم كانوا في رياسة من قومهم ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهبب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم اه ملخصاً . وقد رد الله عليهم بما يكبتهم ويفضحهم فقال : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } لأنهم أعرضوا عن النظر في الدليل وباعوا آخرتهم بدنياهم ، وهذا أقصى ما يبلغه الإِنسان من سفه العقل . وقد تضمن هذا الرد تسفيههم وتكذيبهم في دعوى سفه الصادقين في إيمانهم ، فإن قوله - تعالى - { ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء } يفيد أن السفه مقصور عليهم فلا يتجاوزهم إلى المؤمنين ، وقد تضمنت هذه الجملة من المؤكدات ما تضمنته الجملة السابقة في قوله تعالى - { ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } .
ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامة الناس ، ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس :
( وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس ، قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ، ولكن لا يعلمون ) . .
وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء . إيمان المخلصين الذين دخلوا في السلم كافة ، وأسلموا وجوههم لله ، وفتحوا صدورهم لرسول الله [ ص ] يوجههم فيستجيبون بكليتهم مخلصين متجردين . . هؤلاء هم الناس الذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا مثلهم هذا الإيمان الخالص الواضح المستقيم . .
وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول [ ص ] ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام ! ومن ثم قالوا قولتهم هذه : ( أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ) . . ومن ثم جاءهم الرد الحاسم ، والتقرير الجازم :
( ألا إنهم هم السفهاء ، ولكن لا يعلمون ) . .
ومتى علم السفيه أنه سفيه ؟ ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم ؟ !
يقول الله{[1276]} تعالى : وإذا قيل للمنافقين : { آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ } أي : كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنَّة والنَّار وغير ذلك ، مما أخبر المؤمنين به وعنه ، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ } يعنون - لعنهم الله - أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنهم ، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره ، بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة ، وبه يقول الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ، يقولون : أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء ! !
والسفهاء : جمع سفيه ، كما أن الحكماء جمع حكيم [ والحلماء جمع حليم ]{[1277]} والسفيه : هو الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار ؛ ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء ، في قوله تعالى : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } [ النساء : 5 ] قال عامة علماء السلف : هم النساء والصبيان .
وقد تولى الله ، سبحانه ، جوابهم في هذه المواطن كلها ، فقال{[1278]} { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ } فأكد وحصر السفاهة فيهم .
{ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ } يعني : ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل ، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى ، والبعد عن الهدى .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النّاسُ قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السّفَهَآءُ أَلآ إِنّهُمْ هُمُ السّفَهَآءُ وَلََكِن لاّ يَعْلَمُونَ }
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كما آمَنَ النّاسُ يعني : وإذا قيل لهؤلاء الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم يقولون آمَنّا باللّهِ وَبِاليَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ : صَدّقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله كما صدّق به الناس . ويعني ب«الناس » المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوّته وما جاء به من عند الله . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس في قوله : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمَنُوا كما آمَنَ النّاسُ يقول : وإذا قيل لهم صدّقوا كما صدّق أصحاب محمد ، قولوا : إنه نبيّ ورسول ، وإن ما أنزل عليه حق . وصَدّقوا بالاَخرة ، وأنكم مبعوثون من بعد الموت .
وإنما أدخلت الألف واللام في «الناس » وهم بعض الناس لا جميعهم لأنهم كانوا معروفين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم . وإنما معناه : آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من عند الله وباليوم الاَخر ، فلذلك أدخلت الألف واللام فيه كما أدخلتا في قوله : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشُوهُمْ } لأنه أشير بدخولها إلى ناس معروفين عند من خوطب بذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : قَالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السّفَهَاءُ .
قال أبو جعفر : والسفهاء جمع سفيه ، كالعلماء جمع عليم ، والحكماء جمع حكيم . والسفيه : الجاهل الضعيف الرأي ، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ ولذلك سمى الله عزّ وجل النساء والصبيان سفهاء ، فقال تعالى : { وَلا تُؤْتُوا السّفَهَاء أَمْوَالَكُمْ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ } قِياما فقال عامة أهل التأويل : هم النساء والصبيان لضعف آرائهم ، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضارّ التي تصرف إليها الأموال . وإنما عنى المنافقون بقيلهم أنؤمن كما آمن السفهاء ، إذْ دُعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله ، والإقرار بالبعث ، فقال لهم : آمنوا كما آمن أصحاب محمد وأتباعه من المؤمنين المصدقين به أهل الإيمان واليقين والتصديق بالله وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه وباليوم الاَخر ، فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم : أنؤمن كما آمن أهل الجهل ونصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام كالذي :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : أنُؤْمِنُ كما آمَنَ السّفَهاءُ يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع بن أنس : قالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السّفَهاءُ يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : قالُوا أنُؤْمِنُ كمَا آمَنَ السّفَهاءُ قال : هذا قول المنافقين ، يريدون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السّفَهاءُ يقولون : أنقول كما تقول السفهاء ؟ يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، لخلافهم لدينهم .
القول في تأويل قوله تعالى : ألا إنّهُمُ هُمْ السّفَهاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ .
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعته لهم ووصْفُه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب ، أنهم هم الجهال في أديانهم ، الضعفاء الاَراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم من الشك والريب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوّته ، وفيما جاء به من عند الله ، وأمر البعث ، لإساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك ، وهم يحسبون أنهم إليها يحسنون . وذلك هو عين السفه ، لأن السفيه إنما يفسد من حيث يرى أنه يصلح ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ . فكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يرى أنه يطيعه ، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به ، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إليها ، كما وصفهم به ربنا جل ذكره فقال : ألا إنّهُمُ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وقال : ألا إنهم هم السفهاء دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه وبرسوله وثوابه وعقابه ، ولكن لا يعلمون . وكذلك كان ابن عباس يتأوّل هذه الآية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه : ألا إنّهُمْ هُمُ السّفَهاءُ يقول الجهال ، ولَكِنْ لا يَعْلَمُونَ يقول : ولكن لا يعقلون .
وأما وجه دخول الألف واللام في «السفهاء » فشبيه بوجه دخولهما في «الناس » في قوله : وَإذَا قِيلَ لَهمْ آمِنُوا كمَا آمَنَ النّاسُ وقد بينا العلة في دخولهما هنالك ، والعلة في دخولهما في السفهاء نظيرتها في دخولهما في الناس هنالك سواء . والدلالة التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبة من الله لا يستحقها إلا المعاند ربه مع علمه بصحة ما عانده فيه نظير دلالة الاَيات الأخر التي قد تقدّم ذكرنا تأويلَها في قوله : وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ونظائر ذلك .
{ وإذا قيل لهم آمنوا } من تمام النصح والإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين : الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله : { لا تفسدوا } ، والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله { آمنوا } .
{ كما آمن الناس } في حيز النصب على المصدر ، وما مصدرية أو كافة مثلها في ربما ، واللام في الناس للجنس والمراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل ، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه ، ولذلك يسلب عن غيره فيقال : زيد ليس بإنسان ، ومن هذا الباب قوله تعالى : { صم بكم عمي } ونحوه وقد جمعهما الشاعر في قوله :
أو للعهد ، والمراد به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه . أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأصحابه ، والمعنى آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص متمحضا عن شوائب النفاق مماثلا لإيمانهم ، واستدل به على قبول توبة الزنديق وأن الإقرار باللسان إيمان وإن لم يفد التقييد .
{ قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } الهمزة فيه للإنكار ، واللام مشار بها إلى الناس ، أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم ، وإنما سفهوهم لاعتقادهم فساد رأيهم ، أو لتحقير شأنهم ، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال ، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه . والسفه : خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل ، والحلم يقابله .
{ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } رد ومبالغة في تجهيلهم ، فإن الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله ، فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر ، وإنما فصلت الآية ب{ لا يعلمون } والتي قبلها ب{ لا يشعرون } لأنه أكثر طباقا لذكر السفه ، ولأن الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل مما يفتقر إلى نظر وفكر . وأما النفاق وما فيه من الفتن والفساد فإنما يدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ( 13 )
المعنى صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ، مثل ما صدقه المهاجرون والمحققون من أهل يثرب ، قالوا : أنكون كالذين خفت عقولهم ؟ والسفه الخفة والرقة الداعية إلى الخفة يقال «ثوب سفيه » إذا كان رقيقاً مهلهل النسج ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
مشين كما اهتزت رماح تسفهت . . . أعاليَها مرّ الرياح النواسم( {[237]} )
وهذا القول إنما كانوا يقولونه في خفاء فأطلع الله عليه نبيه والمؤمنين ، وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما هو في حيزهم وصفة لهم ، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء للرَّين الذي على قلوبهم .
وقال قوم : «الآية نزلت في منافقي اليهود ، والمراد بالناس عبد الله بن سلام ومن أسلم من بني إسرائيل » .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء } .
هو من تمام المقول قبله فحكمه حكمه بالعطف والقائل ، ويجوز هنا أن يكون القائل أيضاً طائفة من المنافقين يشيرون عليهم بالإقلاع عن النفاق لأنهم ضجروه وسئموا كُلَفَهُ ومتَّقياته ، وكَلَّت أذهانهم من ابتكار الحِيَل واختلاق الخطل . وحذف مفعول { آمِنوا } استغناء عنه بالتشبيه في قوله : { كما آمن الناس } أو لأنه معلوم للسامعين . وقوله : { كما آمن الناس } الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل ، واللام في ( الناس ) للجنس أو للاستغراق العرفي . والمراد بالناس من عَدَا المخاطبين ، كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر ، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء ، قال عَمْرو ابن البَرَّاقَة النِّهْمِي :
وننصُرُ مولانا ونَعَلُم أَنَّه *** كما الناسِ مجرومٌ عليه وجَارم
وقوله : { أنؤمن كما آمن السفهاء } استفهام للإنكار ، قصدوا منه التبرىء من الإيمان على أبلغ وجه ، وجعلوا الإيمان المتبرأ منه شبيهاً بإيمان السفهاء تشنيعاً له وتعريضاً بالمسلمين بأنهم حملهم على الإيمان سفاهة عقولهم ، ودلوا على أنهم علموا مراد من يقول لهم { كما آمن الناس } أنه يعني بالناس المسلمين .
والسفهاءُ جمع سفيه وهو المتصف بالسفاهة ، والسفاهة خفة العقل وقلة ضبطه للأمور قال السموأل :
نَخاف أن تَسْفَهَ أحلامُنَا *** فَنَخْمل الدهرَ مع الخامل
والعرب تطلق السفاهة على أفن الرأي وضعفه ، وتطلقها على سوء التدبير للمال . قال تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } [ النساء : 5 ] وقال : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً } [ البقرة : 282 ] الآية لأن ذلك إنما يجىء من ضعف الرأي . ووصفهم المؤمنين بالسفاهة بهتان لزعمهم أن مخالفتهم لا تكون إلا لخفة في عقولهم ، وليس ذلك لتحقيرهم ، كيف وفي المسلمين سادة العرب من المهاجرين والأنصار . وهذه شنشنة أهل الفساد والسفه أن يرموا المصلحين بالمذمات بهتاناً ووقاحة ليلهوهم عن تتبع مفاسدهم ولذلك قال أبو الطيب :
وإذا أتتْكَ مَذمَّتي من ناقص *** فهي الشهادةُ لي بأني كامل
وليس في هاته الآية دليل على حكم الزنديق إذا ظهر عليه وعرفت زندقته إثباتاً ، ولا نفياً لأن القائلين لهم { آمنوا كما آمن الناس } هم من أقاربهم أو خاصتهم من المؤمنين الذين لم يفشوا أمرهم فليس في الآية دليل على ظهور نفاقهم للرسول بوجه معتاد ولكنه شيء أطلع عليه نبيئه ، وكانت المصلحة في ستره ، وقد اطّلع بعض المؤمنين عليه بمخالطتهم وعلموا من النبيء صلى الله عليه وسلم الإعراض عن إذاعة ذلك فكانت الآية غير دالة على حكم شرعي يتعلق بحكم النفاق والزندقة .
{ ألاا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } .
أتى بما يقابل جفاء طبعهم انتصاراً للمؤمنين ، ولولا جفاء قولهم : { أنؤمن كما آمن السفهاء } لما تصدى القرآن لسبابهم مع أن عادته الإعراض عن الجاهلين ولكنهم كانوا مضرب المثل : « قُلتَ فأَوْجَبْتَ » ، ولأنه مقام بيان الحق من الباطل فتحسن فيه الصراحة والصرامة كما تقرر في آداب الخطابة ، وأعلن ذلك بكلمة ألاَ المؤذنة بالتنبيه للخبر ، وجاء بصيغة القصر على نحو ما قرر في : { ألا إنهم هم المفسدون } [ البقرة : 11 ] ليدل على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين فهو إضافي لا محالة . وإذا ثبتت لهم السفاهة انتفى عنهم الحِلم لا محالة لأنهما ضدان في صفات العقول .
{ إِنَّ } هنا لتوكيد الخبر وهو مضمون القصر وضمير الفصل لتأكيد القصر كما تقدم آنفاً . و { أَلا } كأختها المتقدمة في : { ألا إنهم هم المفسدون } .
وقوله : { ولكن لا يعلمون } نفى عنهم العلم بكونهم سفهاء بكلمة { يعلمون دون يشعرون خلافاً للآيتين السابقتين لأن اتصافهم بالسفه ليس مما شأنه الخفاء حتى يكون العلم به شُعوراً ويكونَ الجهل به نفيَ شُعور ، بل هو وصف ظاهر لا يخفى لأن لقاءهم كل فريق بوجه واضطرابهم في الاعتماد على إحدى الخَلَّتين وعدم ثباتهم على دينهم ثباتاً كاملاً ولا على الإسلام كذلك كافٍ في النداء بسفاهة أحلامهم فإن السفاهة صفة لا تكاد تخفى ، وقد قالت العرب : السفاهة كاسمها ، قال النابغة :
نُبئْتُ زرعة والسفاهةُ كاسمها *** يُهدى إليّ غَرائبَ الأشعار
وقال جَزْءُ بن كلاب الفَقْعَسي :
تَبَغّى ابنُ كُوز والسَّفَاهَة كاسمها *** لِيَسْتَادَ مِنَّا أَنْ شَتَوْنَا لَيَالِيا
فظنهم أن ما هم عليه من الكفر رُشد ، وأن ما تقلده المسلمون من الإيمان سَفَه يدل على انتفاء العلم عنهم . فموقع حرف الاستدراك لدفع تعجب من يتعجب من رضاهم بالاختصاص بوصف السفاهة .