مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ} (13)

قوله تعالى { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } .

اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين ، وذلك لأنه سبحانه لما نهاهم في الآية المتقدمة عن الفساد في الأرض أمرهم في هذه الآية بالإيمان ، لأن كمال حال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين . أولهما : ترك ما لا ينبغي وهو قوله { آمنوا } وههنا مسائل :

المسألة الأولى : قوله { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس } أي إيمانا مقرونا بالإخلاص بعيدا عن النفاق ، ولقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان ، فإنه لو لم يكن إيمانا لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص ، فكان قوله { آمنوا } كافيا في تحصيل المطلوب ، وكان ذكر قوله { كما آمن الناس } لغوا ، والجواب : أن الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص ، أما في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بإقرار الظاهر فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده بقوله { كما آمن الناس } .

المسألة الثانية : اللام في { الناس } فيها وجهان : أحدهما : أنها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه ، وهم ناس معهودون ، أو عبد الله بن سلام وأشياعه . لأنهم من أبناء جنسهم والثاني : أنها للجنس ثم هاهنا أيضا وجهان . أحدهما : أن الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين ، وهؤلاء المنافقون كانوا ، منهم وكانوا قليلين ، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر . والثاني : أن المؤمنين هم الناس في الحقيقة ، لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي .

المسألة الثالثة : القائل { آمنوا كما آمن الناس } إما الرسول ، أو المؤمنون ، ثم كان بعضهم يقول لبعض : أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان ، والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى { ألا إنهم هم السفهاء } .

المسألة الرابعة : السفه الخفة يقال : سفهت الريح الشيء إذا حركته ، قال ذو الرمة :

جرين كما اهتزت رياح تسفهت *** أعاليها مر الرياح الرواسم

وقال أبو تمام الطائي :

سفيه الرمح جاهله إذا ما *** بدا فضل السفيه على الحليم

أراد به سريع الطعن بالرمح خفيفه ، وإنما قيل لبذيء اللسان سفيه ؛ لأنه خفيف لا رزانة له وقال تعالى { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } وقال عليه السلام : «شارب الخمر سفيه » لقلة عقله وإنما سمى المنافقون المسلمين بالسفهاء ؛ لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة ، وأكثر المؤمنين كانوا فقراء ، وكان عند المنافقين أن دين محمد صلى الله عليه وسلم باطل ، والباطل لا يقبله إلا السفيه ؛ فلهذه الأسباب نسبوهم إلى السفاهة ثم إن الله تعالى قلب عليهم هذا اللقب -وقوله الحق- لوجوه . أحدها : أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه . وثانيها : أن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه . وثالثها : أن من عادى محمدا عليه الصلاة والسلام فقد عادى الله ، وذلك هو السفيه .

المسألة الخامسة : إنما قال في آخر هذه الآية { لا يعلمون } وفيما قبلها { لا يشعرون } لوجهين : الأول : أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري ، وأما أن النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض فضروري جار مجرى المحسوس . الثاني : أنه ذكر السفه وهو جهل ، فكان ذكر العلم أحسن طباقا له والله أعلم .