البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ} (13)

{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } ، السفه : الخفة .

ومنه قيل للثوب الخفيف النسج سفيه ، وفي الناس خفة الحلم ، قاله ابن كيسان ، أو البهت والكذب والتعمد خلاف ما يعلم ، قاله مؤرج ، أو الظلم والجهل ، قاله قطرب .

والسفهاء جمع سفيه ، وهو جمع مطرد في فعيل الصحيح الوصف المذكر العاقل الذي بينه وبين مؤنثه التاء ، والفعل منه سفه بكسر العين وضمها ، وهو القياس لأجل اسم الفاعل .

قالوا : ونقيض السفه : الرشد ، وقيل : الحكمة ، يقال رجل حكيم ، وفي ضده سفيه ، ونظير السفه النزق والطيش .

لكن : حرف استدراك ، فلا يجوز أن يكون ما قبلها موافقاً لما بعدها ، فإن كان نقيضاً أو ضداً جاز ، أو خلافاً ففي الجواز خلاف ، وفي التصحيح خلاف .

وحكى أبو القاسم بن الرمال جواز أعمالها مخففة عن يونس ، وحكى ذلك غيره عن الأخفش ، وحكى عن يونس أنها ليست من حروف العطف ، ولم تقع في القرآن غالباً إلا وواو العطف قبلها ، ومما جاءت فيه من غير واو قوله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم } { لكن الله يشهد } وفي كلام العرب :

إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله *** لكن وقائعه في الحرب تنتظر

وبقية أحكام لكن مذكورة في النحو .

الكاف : حرف تشبيه تعمل الجر وأسميتها مختصة عندنا بالشعر ، وتكون زائدة وموافقة لعلى ، ومن ذلك قولهم : كخير في جواب من قال كيف أصبحت ، ويحدث فيها معنى التعليل ، وأحكامها مذكورة في النحو .

ولما نهاهم تعالى عن الإفساد أمرهم بالإيمان لأن الكمال يحصل بترك مالا ينبغي وبفعل ما ينبغي ، وبدئ بالمنهي عنه لأنه الأهم ، ولأن المنهيات عنها هي من باب التروك ، والتروك أسهل في الامتثال من امتثال المأمورات بها .

والكاف من قوله : { كما آمن الناس } في موضع نصب ، وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتاً لمصدر محذوف التقدير عندهم : آمنوا إيماناً كما آمن الناس ، وكذلك يقولون : في سير عليه شديد ، أو : سرت حثيثاً ، إن شديداً وحثيثاً نعت لمصدر محذوف التقدير : سير عليه سيراً شديداً ، وسرت سيراً حثيثاً .

ومذهب سيبويه ، رحمه الله ، أن ذلك ليس بنعت لمصدر محذوف ، وإنما هو منصوب على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار على طريق الاتساع ، وإنما لم يجز ذلك لأنه يؤدي إلى حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير المواضع التي ذكروها .

وتلك المواضع أن تكون الصفة خاصة بجنس الموصوف ، نحو : مررت بكاتب ومهندس ، أو واقعة خبراً ، نحو : زيد قائم ، أو حالاً ، نحو : مررت بزيد راكباً ، أو وصفاً لظرف ، نحو : جلست قريباً منك ، أو مستعملة استعمال الأسماء ، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه ، نحو : الأبطح والأبرق .

وإذا خرجت الصفة عن هذه المواضع لم تكن إلا تابعة للموصوف ، ولا يكتفي عن الموصوف ، ألا ترى أن سيبويه منع : ألا ماء ولو بارداً وأن تقدم ما يدل على حذف الموصوف وأجاز : ولو بارداً ، لأنه حال ، وتقرير هذا في كتب النحو .

و( ما ) من : كما آمن الناس ، مصدرية التقدير كإيمان الناس ، فينسبك من ما ، والفعل بعدها مصدر مجرور بكاف التشبيه التي هي نعت لمصدر محذوف ، أو حال على القولين السابقين ، وإذا كانت ما مصدرية فصلتها جملة فعلية مصدرة بماض متصرف أو مضارع ، وشذ وصلها بليس في قول الشاعر :

بما لستما أهل الخيانة والغدر***

ولا توصل بالجملة الاسمية خلافاً لقوم ، منهم : أبو الحجاج الأعلم ، مستدلين بقوله :

وجدنا الحمر من شر المطايا *** كما الحبطات شر بني تميم

وأجاز الزمخشري ، وأبو البقاء في ما من قوله : كما آمن ، أن تكون كافة للكاف عن العمل مثلها في : ربما قام زيد ، وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية ، لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها من العمل ، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على ما المصدرية ، وقد أمكن ذلك في : كما آمن الناس ، فلا ينبغي أن تجعل كافة .

والألف واللام في الناس يحتمل أن تكون للجنس ، فكأنه قال : الكاملون في الإنسانية ، أو عبر بالناس عن المؤمنين لأنهم هم الناس في الحقيقة ، ومن عداهم صورته صورة الناس ، وليس من الناس لعدم تمييزه ، كما قال الشاعر :

ليس من الناس ولكنه *** يحسبه الناس من الناس

ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد ، ويعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قاله ابن عباس ، أو عبد الله بن سلام ، ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود ، قاله مقاتل ، أو معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وأسيد بن الحضير ، وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي .

والأولى حملها على العهد ، وأن يراد به من سبق إيمانه قبل قول ذلك لهم ، فيكون حوالة على من سبق إيمانه لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان .

والتشبيه في : كما { آمن الناس } إشارة إلى الإخلاص ، وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها .

أنؤمن : معمول لقالوا ، وهو استفهام معناه الإنكار أو الاستهزاء .

ولما كان المأمور به مشبهاً كان جوابهم مشبهاً في قولهم : { أنؤمن كما آمن السفهاء } ، والقول في الكاف وما في هذا كالقول فيهما في : { كما آمن الناس } .

والألف واللام في السفهاء للعهد ، فيعني به الصحابة ، قاله ابن عباس ؛ أو الصبيان والنساء ، قاله الحسن ، أو عبد الله بن سلام وأصحابه ، قاله مقاتل ، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج تحته من فسر به الناس من المعهودين ، أو الكاملون في السفه ، أو لأنهم انحصر السفه فيهم إذ لا سفيه غيرهم .

وأبعد من ذهب إلى أن الألف واللام للصفة الغالبة نحو : العيوق والدبران ، لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم ، فصاروا إذا قيل : السفهاء ، فهم منه ناس مخصوصون ، كما يفهم من العيوق نجم مخصوص .

ويحتمل قولهم : { كما آمن السفهاء } أن يكون ذلك من باب التعنت والتجلد حذراً من الشماتة ، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء .

ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاعتقاد الجزم عندهم ، فيكونوا قد نسبوهم للسفه معتقدين أنهم سفهاء ، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدّي إلى إدراك الحق ، وهم كانوا في رئاسة ويسار ، وكان المؤمنون إذ ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال ، فاعتقدوا أن من كان بهذه المثابة كان من السفهاء لأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا عن طلب الرئاسة والغنى وما به السؤدد في الدنيا ، وذلك هو غاية السفه عندهم .

وفي قوله : { كما آمن السفهاء } إثبات منهم في دعواهم بسفه المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه ، وهو رزانة الأحلام ورجحان العقول ، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء ، وصدر الجملة بألا التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم السفهاء ، وأكد ذلك بأن وبلفظ هم .

وإذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو : { السفهاء ألا } ، ففي ذلك أوجه .

أحدها : تحقيق الهمزتين ، وبذلك قرأ الكوفيون ، وابن عامر .

والثاني : تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واواً كحالها إذا كانت مفتوحة قبلها ضمة في كلمة نحو : أواتي مضارع آتى ، فاعل من أتيت ، وجؤن تقول : أواتي وجون ، وبذلك قرأ الحرميان ، وأبو عمرو .

والثالث : تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو ، وتحقيق الثانية .

والرابع : تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واواً .

وأجاز قوم وجهاً .

خامساً : وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو ، وجعل الثانية بين الهمزة والواو ، ومنع بعضهم ذلك لأن جعل الثانية بين الهمزة والواو تقريباً لها من الألف ، والألف لا تقع بعد الضمة ، والأعاريب الثلاثة التي جازت في : هم ، في قوله : { هم المفسدون } ، جائزة في : هم ، من قوله : { هم السفهاء } .

والاستدراك الذي دلت عليه لكن في قوله : { ولكن لا يعلمون } ، مثله في قوله تعالى : { ولكن لا يشعرون } ، وإنما قال هناك لا يشعرون وهنا لا يعلمون لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد ، وهو مما يدرك بأدنى تأمل ، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر ، وهي الحواس ، مبالغة في تجهيلهم ، وهو أن الشعور الذي قد يثبت للبهائم منفي عنهم ، والمثبت هنا هو السفه ، والمصدر به هو الأمر بالإيمان ، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ، ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم ، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالمأمور ، قال السموأل :

نخاف أن تسفه أحلامنا *** فنجهل الجهل مع الجاهل

والعلم نقيض الجهل ، فقابله بقوله : لا يعلمون ، لأن عدم العلم بالشيء جهل به .