{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } ، السفه : الخفة .
ومنه قيل للثوب الخفيف النسج سفيه ، وفي الناس خفة الحلم ، قاله ابن كيسان ، أو البهت والكذب والتعمد خلاف ما يعلم ، قاله مؤرج ، أو الظلم والجهل ، قاله قطرب .
والسفهاء جمع سفيه ، وهو جمع مطرد في فعيل الصحيح الوصف المذكر العاقل الذي بينه وبين مؤنثه التاء ، والفعل منه سفه بكسر العين وضمها ، وهو القياس لأجل اسم الفاعل .
قالوا : ونقيض السفه : الرشد ، وقيل : الحكمة ، يقال رجل حكيم ، وفي ضده سفيه ، ونظير السفه النزق والطيش .
لكن : حرف استدراك ، فلا يجوز أن يكون ما قبلها موافقاً لما بعدها ، فإن كان نقيضاً أو ضداً جاز ، أو خلافاً ففي الجواز خلاف ، وفي التصحيح خلاف .
وحكى أبو القاسم بن الرمال جواز أعمالها مخففة عن يونس ، وحكى ذلك غيره عن الأخفش ، وحكى عن يونس أنها ليست من حروف العطف ، ولم تقع في القرآن غالباً إلا وواو العطف قبلها ، ومما جاءت فيه من غير واو قوله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم } { لكن الله يشهد } وفي كلام العرب :
إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله *** لكن وقائعه في الحرب تنتظر
وبقية أحكام لكن مذكورة في النحو .
الكاف : حرف تشبيه تعمل الجر وأسميتها مختصة عندنا بالشعر ، وتكون زائدة وموافقة لعلى ، ومن ذلك قولهم : كخير في جواب من قال كيف أصبحت ، ويحدث فيها معنى التعليل ، وأحكامها مذكورة في النحو .
ولما نهاهم تعالى عن الإفساد أمرهم بالإيمان لأن الكمال يحصل بترك مالا ينبغي وبفعل ما ينبغي ، وبدئ بالمنهي عنه لأنه الأهم ، ولأن المنهيات عنها هي من باب التروك ، والتروك أسهل في الامتثال من امتثال المأمورات بها .
والكاف من قوله : { كما آمن الناس } في موضع نصب ، وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتاً لمصدر محذوف التقدير عندهم : آمنوا إيماناً كما آمن الناس ، وكذلك يقولون : في سير عليه شديد ، أو : سرت حثيثاً ، إن شديداً وحثيثاً نعت لمصدر محذوف التقدير : سير عليه سيراً شديداً ، وسرت سيراً حثيثاً .
ومذهب سيبويه ، رحمه الله ، أن ذلك ليس بنعت لمصدر محذوف ، وإنما هو منصوب على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار على طريق الاتساع ، وإنما لم يجز ذلك لأنه يؤدي إلى حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير المواضع التي ذكروها .
وتلك المواضع أن تكون الصفة خاصة بجنس الموصوف ، نحو : مررت بكاتب ومهندس ، أو واقعة خبراً ، نحو : زيد قائم ، أو حالاً ، نحو : مررت بزيد راكباً ، أو وصفاً لظرف ، نحو : جلست قريباً منك ، أو مستعملة استعمال الأسماء ، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه ، نحو : الأبطح والأبرق .
وإذا خرجت الصفة عن هذه المواضع لم تكن إلا تابعة للموصوف ، ولا يكتفي عن الموصوف ، ألا ترى أن سيبويه منع : ألا ماء ولو بارداً وأن تقدم ما يدل على حذف الموصوف وأجاز : ولو بارداً ، لأنه حال ، وتقرير هذا في كتب النحو .
و( ما ) من : كما آمن الناس ، مصدرية التقدير كإيمان الناس ، فينسبك من ما ، والفعل بعدها مصدر مجرور بكاف التشبيه التي هي نعت لمصدر محذوف ، أو حال على القولين السابقين ، وإذا كانت ما مصدرية فصلتها جملة فعلية مصدرة بماض متصرف أو مضارع ، وشذ وصلها بليس في قول الشاعر :
بما لستما أهل الخيانة والغدر***
ولا توصل بالجملة الاسمية خلافاً لقوم ، منهم : أبو الحجاج الأعلم ، مستدلين بقوله :
وجدنا الحمر من شر المطايا *** كما الحبطات شر بني تميم
وأجاز الزمخشري ، وأبو البقاء في ما من قوله : كما آمن ، أن تكون كافة للكاف عن العمل مثلها في : ربما قام زيد ، وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية ، لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها من العمل ، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على ما المصدرية ، وقد أمكن ذلك في : كما آمن الناس ، فلا ينبغي أن تجعل كافة .
والألف واللام في الناس يحتمل أن تكون للجنس ، فكأنه قال : الكاملون في الإنسانية ، أو عبر بالناس عن المؤمنين لأنهم هم الناس في الحقيقة ، ومن عداهم صورته صورة الناس ، وليس من الناس لعدم تمييزه ، كما قال الشاعر :
ليس من الناس ولكنه *** يحسبه الناس من الناس
ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد ، ويعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قاله ابن عباس ، أو عبد الله بن سلام ، ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود ، قاله مقاتل ، أو معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وأسيد بن الحضير ، وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي .
والأولى حملها على العهد ، وأن يراد به من سبق إيمانه قبل قول ذلك لهم ، فيكون حوالة على من سبق إيمانه لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان .
والتشبيه في : كما { آمن الناس } إشارة إلى الإخلاص ، وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها .
أنؤمن : معمول لقالوا ، وهو استفهام معناه الإنكار أو الاستهزاء .
ولما كان المأمور به مشبهاً كان جوابهم مشبهاً في قولهم : { أنؤمن كما آمن السفهاء } ، والقول في الكاف وما في هذا كالقول فيهما في : { كما آمن الناس } .
والألف واللام في السفهاء للعهد ، فيعني به الصحابة ، قاله ابن عباس ؛ أو الصبيان والنساء ، قاله الحسن ، أو عبد الله بن سلام وأصحابه ، قاله مقاتل ، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج تحته من فسر به الناس من المعهودين ، أو الكاملون في السفه ، أو لأنهم انحصر السفه فيهم إذ لا سفيه غيرهم .
وأبعد من ذهب إلى أن الألف واللام للصفة الغالبة نحو : العيوق والدبران ، لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم ، فصاروا إذا قيل : السفهاء ، فهم منه ناس مخصوصون ، كما يفهم من العيوق نجم مخصوص .
ويحتمل قولهم : { كما آمن السفهاء } أن يكون ذلك من باب التعنت والتجلد حذراً من الشماتة ، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء .
ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاعتقاد الجزم عندهم ، فيكونوا قد نسبوهم للسفه معتقدين أنهم سفهاء ، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدّي إلى إدراك الحق ، وهم كانوا في رئاسة ويسار ، وكان المؤمنون إذ ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال ، فاعتقدوا أن من كان بهذه المثابة كان من السفهاء لأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا عن طلب الرئاسة والغنى وما به السؤدد في الدنيا ، وذلك هو غاية السفه عندهم .
وفي قوله : { كما آمن السفهاء } إثبات منهم في دعواهم بسفه المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه ، وهو رزانة الأحلام ورجحان العقول ، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء ، وصدر الجملة بألا التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم السفهاء ، وأكد ذلك بأن وبلفظ هم .
وإذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو : { السفهاء ألا } ، ففي ذلك أوجه .
أحدها : تحقيق الهمزتين ، وبذلك قرأ الكوفيون ، وابن عامر .
والثاني : تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واواً كحالها إذا كانت مفتوحة قبلها ضمة في كلمة نحو : أواتي مضارع آتى ، فاعل من أتيت ، وجؤن تقول : أواتي وجون ، وبذلك قرأ الحرميان ، وأبو عمرو .
والثالث : تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو ، وتحقيق الثانية .
والرابع : تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واواً .
خامساً : وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو ، وجعل الثانية بين الهمزة والواو ، ومنع بعضهم ذلك لأن جعل الثانية بين الهمزة والواو تقريباً لها من الألف ، والألف لا تقع بعد الضمة ، والأعاريب الثلاثة التي جازت في : هم ، في قوله : { هم المفسدون } ، جائزة في : هم ، من قوله : { هم السفهاء } .
والاستدراك الذي دلت عليه لكن في قوله : { ولكن لا يعلمون } ، مثله في قوله تعالى : { ولكن لا يشعرون } ، وإنما قال هناك لا يشعرون وهنا لا يعلمون لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد ، وهو مما يدرك بأدنى تأمل ، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر ، وهي الحواس ، مبالغة في تجهيلهم ، وهو أن الشعور الذي قد يثبت للبهائم منفي عنهم ، والمثبت هنا هو السفه ، والمصدر به هو الأمر بالإيمان ، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ، ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم ، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالمأمور ، قال السموأل :
نخاف أن تسفه أحلامنا *** فنجهل الجهل مع الجاهل
والعلم نقيض الجهل ، فقابله بقوله : لا يعلمون ، لأن عدم العلم بالشيء جهل به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.