الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ} (13)

فإن قلت : كيف صح أن يسند «قيل » إلى «لا تفسدوا ، وآمنوا » وإسناد الفعل إلى الفعل مما لا يصح ؟ قلت : الذي لا يصح هو إسناد الفعل إلى معنى الفعل ، وهذا إسناد له إلى لفظه ، كأنه قيل : وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام . فهو نحو قولك : «ألف » ضرب من ثلاثة أحرف . ومنه : «زعموا مطية الكذب » .

و«ما » في «كما » يجوز أن تكون كافة مثلها في ( ربما ) ، ومصدرية مثلها في { بِمَا رَحُبَتْ } [ التوبة : 25 ] .

واللام في «الناس » للعهد ، أي كما آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه . أو هم ناس معهودون كعبد الله بن سلام وأشياعه لأنهم من جلدتهم ومن أبناء جنسهم ، أي : كما آمن أصحابكم وإخوانكم ، أو للجنس أي : كما آمن الكاملون في الإنسانية . أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل .

والاستفهام في { أَنُؤْمِنُ } في معنى الإنكار . واللام في { السفهاء } مشار بها إلى الناس ، كما تقول لصاحبك : إن زيداً قد سعى بك ، فيقول : أو قد فعل السفيه . ويجوز أن تكون للجنس ، وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم واعتقادهم ؛ لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه .

فإن قلت : لم سفهوهم واستركوا عقولهم ، وهم العقلاء المراجيح ؟ قلت : لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم ، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً ؛ ولأنهم كانوا في رياسة وسطة في قومهم ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم . أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه ومفارقتهم دينهم وما غاظهم من إسلامهم وفت في أعضادهم . قالوا ذلك على سبيل التجلد توقياً من الشماتة بهم مع علمهم أنهم من السفه بمعزل ، والسفه سخافة العقل وخفة الحلم .

فإن قلت : فلم فصلت هذه الآية ب { لاَّ يَعْلَمُونَ } ، والتي قبلها ب { لاَّ يَشْعُرُونَ } ؟ قلت : لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحقّ وهم على الباطل ، يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة . وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دينويّ مبني على العادات ، معلوم عند الناس ، خصوصاً عند العرب في جاهليتهم وما كان قائماً بينهم من التغاور والتناحر والتحارب والتحازب ، فهو كالمحسوس المشاهد ؛ ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له . مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين فليس بتكرير ، لأن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان ما كانوا يعملون عليه مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم ، فإذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدقوهم ما في قلوبهم . وروي :

أن عبد الله بن أبيّ وأصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عبد الله انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم ، فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحباً بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار ، الباذل نفسه وماله لرسول الله . ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحباً بسيد بني عديّ الفاروق القويّ في دين الله ، الباذل نفسه وماله لرسول الله . ثم أخذ بيد عليّ فقال : مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله . ثم افترقوا فقال لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ؟ فأثنوا عليه خيراً ، فنزلت .