غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ} (13)

8

البحث الرابع : في قوله { وإذا قيل لهم آمنوا } الآية .

هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين ، وذلك أن المؤمنين أتوهم في النصيحة من وجهين : أحدهما : تقبيح ما كانوا عليه مما يجرّ إلى الفساد والفتنة ، والثاني : دعوتهم إلى الطريقة المثلى من اتباع ذوي الأحلام . وبعبارة أخرى أمرهم أولاً بالتخلية عما لا ينبغي ، وثانياً بالتحلية بما ينبغي لأن كمال حال الإنسان في هاتين . وكان من جوابهم فيما بينهم أو للقائل أن سفهوهم لتمادي سفههم ، وفي هذا تسلية للعالم إذا لم يعرف حقه الجاهل .

وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني كامل

وما في { كما } يجوز أن تكون كافة تصحح دخول الجار على الفعل وتفيد تشبيه مضمون الجملة بالجملة كقولك : يكتب زيد كما يكتب عمرو ، أو زيد صديقي كما عمرو أخي . ويجوز أن تكون مصدرية مثلها في { بما رحبت } [ التوبة : 25 ، 118 ] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون أي ليكن إيمانكم ثابتاً كما أن إيمان هؤلاء ثابت ، أو ليحصل إيمانكم كحصول إيمان هؤلاء ، أو آمنوا كما آمن عبد الله بن سلام وأتباعه لأنهم من جلدتهم أي كما آمن أصحابكم . ويحتمل أن تكون للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية من الإقرار اللساني الناشئ عن الاعتقاد القلبي ، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس ومن عداهم كالنسناس في عدم التمييز بين الحق والباطل . والاستفهام في { أنؤمن } في معنى الإنكار ، واللام في { السفهاء } مشار بها إلى الناس كقولك لصاحبك : إن زيداً قد سعى بك . فتقول : أوقد فعل السفيه ؟ أو للجنس وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه وهو ضد الحلم ، وأصله الخفة والحركة يقال : تسفهت الريح الشجر إذا مالت به ، قال ذو الرمة :

جرين كما اهتزت رماح تسفهت *** أعاليها مر الرياح النواسم

وإنما سفهو المؤمنين مع رجحان عقول أهل الإيمان ، لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر الصحيح اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق ، ولأنهم كانوا في رياسة وثروة وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موالٍ كصهيب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم كما قال قوم نوح { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } [ هود : 27 ] أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه لما غاظهم من إسلامهم وفتَّ في أعضائهم . عن أنس أنه سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض مخترف ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي . فما أوّل أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " أخبرني بهن جبريل آنفاً . أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت . وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الوالد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت " . قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني . فجاءت اليهود فقال : أي رجل عبد الله فيكم ؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا . قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام . قالوا : أعاذه الله من ذلك . فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فقالوا : شرنا وابن شرنا فانتقصوه . قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله . ثم إن الله تعالى ألقى عليهم هذا اللقب مقروناً بالمؤكدات التي بيناها في قوله { ألا إنهم هم المفسدون } وذلك أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفه فهو السفيه ، وكذا من باع آخرته بدنياه . قال صلى الله عليه وسلم : " الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " وأيضاً من السفه معاداة المحمديين { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] .

كالطود يحقر نطحة الأوعال *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إنما فصلت هذه الآية ب{ لا يعلمون } والتي قبلها ب{ لا يشعرون } لأن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري ، وأما النفاق وما يؤول إليه من الفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات ، وخصوصاً عند العرب في جاهليتهم . وما كان قائماً بينهم من التحارب والتجاذب فهو كالمحسوس المشاهد ، ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له .