اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ} (13)

الكلام عليها كالكلام على التي قبلها .

و " آمنوا " فعل وفاعل ، والجملة في محل رفع لقيامها مقام الفاعل على ما تقدم في { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } [ البقرة : 11 ] والأقوال هناك تعود هُنَا . والكاف في قوله " كما آمن " في محلّ نصب .

وأكثر المعربين يجعلون نعتاً لمصدر محذوف ، والتقدير : آمنوا إيماناً كإيمان النَّاس ، وكذلك يقولون في : " سير عليه حثيثاً " : أي سيراً حثيثاً وهذا ليس مذهب سيبويه ، إنما مذهبه في هذا ونحوه أن يكون منصوباً على الحال من المصدر والمضمر المفهوم من الفعل المتقدم .

وإنما أحوج سيبويه إلى ذلك أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلاَّ في مواضع محصورة ، ليس هذا منها ، فتلك المواضع : أن تكون الصفة خاصة بالموصوف ، نحو : " مررت بكاتب " .

أو واقعة خبراً نحو : " زيد قائم " .

أنو حالاً نحو : " جاء زيد راكباً " .

أو صفة لظرف نحو : " جلست قريباً منك " .

أو مستعملة استعمال الأسماء ، وهذا يحفظ ولا يُقَاس عليه ، نحو : " الأبْطَح والأَبْرَق " وما عدا هذه المَوَاضع لا يجوز فيها حذف المَوْصُوف ؛ ألا ترى أنَّ سيبويه منع لا ماء ولو بارداً ، وإن تقدّم ما يدلُّ على الموصوف ، وأجاز : " إلا ماء ولو بارداً " ؛ لأنه نصب على الحال .

و " ما " مصدرية في محل جَرّ بالكاف ، و " آمَنَ النَّاسُ " صلتها .

واعلم أنَّ " ما " المصدرية توصَلُ بالماضي أو المضارع المتصرّف ، وقد شَذَّ وصلها بغير المتصرف في قوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** بِمَا لَسْتُمَا أَهْلَ الخِيَانَةِ ، والغَدْرِ{[678]}

وهل توصل بالجمل الاسمية ؟ خلاف ، واستدل على جوازه بقوله : [ الكامل ]

وَاصِلْ خَلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ *** فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عَنْ قَلِيلٍ ذَاهِبُ{[679]}

وقال الآخر : [ البسيط ]

أَحْلاَمُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ *** كَمَا دِمَاؤُكُمُ تَشْفِي مِنَ الكَلَبِ{[680]}

وقول الآخر : [ الوافر ]

فإِنَّ الحُمْرَ مِنْ شَرِّ المَطَايَا *** كَمَا الحَبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ{[681]}

إلاّ أن ذلك يكثر فيها إذا أفهمت الزمان ؛ كقوله : [ الكامل ]

وَاصِلْ خَلِيلَكَ . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[682]}

البيت .

وأجاز الزَّمخشري وأبو البقاء أن تكون " ما " كافّة ل " الكاف " عن العمل .

مثلها في قولك : ربما قدم زيد ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا ؛ لأن جعلها مصدريةً مبقٍ ل " الكاف " على ما عهد لها من العمل ، بخلاف جعلها كافة .

والألف واللام في " النَّاس " تحتمل أن تكون للجنس ، وفيها وجهان .

أحدهما : المراد " الأوس " و " الخزرج " ؛ لأن أكثرهم كانوا مسلمين ، وهؤلاء المنافقون كانوا منهم ، وكانوا قليلين ، ولفظ العموم قد يُطْلق على الأكثر .

والثاني : المُرَاد جميع المؤمنين ؛ لأنهم هم النَّاس ؛ لكونهم أعطوا الإنسانية حقَّهَا ؛ لأن فضل الإنسان على سَائِرِ الحيوان بالعَقْلِ المرشد .

وتحتمل أن تكون " الألف " و " اللام " للعهد ، فيكون المراد : كما آمن الرسول ومن معه ، وهم ناسٌ معهودون ، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب .

فصل في أوجه ورود لفظ الناس

ورد لفظ " النَّاس " على سبعة أوجه :

الأول : المُرَاد به عبد الله بن سلام ، وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب .

الثاني : المُرَاد به النَّبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ] .

أي : يحسدون النبي - عليه الصلاة والسلام - على النِّسَاء .

الثَّالث : الناس : المؤمنون خاصّة قال تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] ، ومثله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [ البقرة : 21 ] .

الرابع والخامس : كُفّار قريش ، وزيد بن مسعود ، قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } يعني نَعِيم المكّي : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ }

[ آل عمران : 173 ] .

السادس : آدم - عليه الصلاة والسَّلام - قال تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [ البقرة : 199 ] يعني : آدم عليه الصلاة والسلام .

السابع : الرِّجَال ؛ قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] يعني : الرجال .

فصل في إعراب الآية

الهمزة في " أنؤمن " للإنكار ، والاستهزاء ، ومَحَلّ " أنؤمن " النصب ب " قالوا " وقوله : { كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ } القول في " الكاف " و " ما " كالقول فيهما فيما تقدّم ، و " الألف " و " اللام " في " السفهاء " تحتمل أن تكون للجنس أو للعهد ، وأبعد من جعلها للغَلَبَة كالعيّوق ؛ لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم ، بحيث إذا قيل : السفهاء فيهم منهم ناس مخصوصون ، كما يفهم من العيوق كوكب مخصوص .

والسَّفه : الخِفّة ، يقال : ثوب سفيه أي : خفيف النَّسْج ، ويقال : سفهت الرِّيح الشيء : إذا حَرَّكته ؛ قال ذو الرمّة : [ الطويل ]

جَرَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاحٌ تَسَفَّهَتْ *** أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ{[683]}

وقال أبو تمام : [ الوافر ]

سَفِيهُ الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إذَا مَا *** بَدَا فَضْلُ السَّفِيهِ عَلَى الحَلِيمِ{[684]}

أراد سريع الطَّعن بالرُّمْحِ خفيفه ، وإنما قيل لبذيء اللسان : سفيه ؛ لأنه خفيف الهداية .

وقال عليه الصلاة والسلام : " شَارِبُ الخَمْرِ سَفِيهٌ " {[685]} لقلة عقله .

وقيل : السفيه : الكَذّاب الذي يعمل بخلاف ما يعلم ، وإنما سمّى المنافقون المسلمين بالسُّفهاء ، لأن المُنَافقين كانوا من أهل الرياسة ، وأكثر المسلمين كانوا فقراء ، وكان عند المنافقين أن دين محمد باطلٌ ، والباطل لا يقبله إلا السَّفيه ، فلهذا نسبوهم إلى السَّفاهة ، ثم إنّ الله - تعالى - قلب عليهم هذا القول فقال : " أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ " لوجوه :

أحدها : أنَّ من أعرض عن الدّليل ، ثم نسب المتمسّك به إلى السَّفَاهة ، فهو السَّفيه .

وثانيها : أنَّ من باع آخرته بِدُنْيَاهُ فهو السَّفيه .

وثالثها : أنَّ من عادى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عادى الله ، وذلك هو السَّفيه .

والكلام على قوله : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } كالكلام على قوله : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }

[ البقرة : 12 ] .

وقرأ أهل " الشام " و " الكوفة " {[686]} " السّفهاء أَلاَ " بتحقيق الهمزتين ، وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا ، والآخرون يحققون الأولى ، ويليّنون الثانية في المختلفتين طلباً للخفّة فإن كانتا متّفقتين مثل : { هَؤُلاءِ إِن } [ البقرة : 31 ] ، و{ أَوْلِيَاءُ أُوْلَئِكَ }

[ الأحقاف : 32 ] ، و{ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ هود : 101 ] قرأها أبو عمرو والبزي{[687]} عن ابن كثير بهمزة واحدةٍ .

وقرأ أبو جعفر ، وورش ، ويعقوب{[688]} : بِتَحْقِيق الأولى وتَلْيين الثانية .

وقرأ قَالُون{[689]} : بتليين الأولى ، وتحقيق الثانية ، لأن ما يستأنف أولى بالهمزة ممّا يسكت عليه .

فصل في نظم الآية

إنما قال هناك : " ولكن لا يشعرون " ، وقال ها هنا : " ولكن لا يعلمون " لوجهين :

أحدهما : أن المثبت لهم - هناك - الإفساد ، وهو مما يدرك بأدنى تأمّل ، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فِكْرٍ كثير ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر ، وهي الحواسّ مبالغة في تجهيلهم ، وهو أنَّ الشعور الذي قد ثبت للبهائم مَنْفِيّ عنهم ، والمثبت - هنا - هو السَّفه والمصدر به هو الأمر بالإيمان ، وذلك مما يحتاج إلى إِمْعَان فكرٍ ونَظَرٍ ، فإنه مُفْضٍ إلى الإيمان والتصديق ، ولم يقع منهم المأمور به وهو الإيمان ، فناسب ذلك نفي العلم عنهم .

الوجه الثاني : أن السَّفه خفّة العقل والجَهْل بالأمور ؛ قال : [ السريع ]

نَخَافُ أنْ تَسْفَهَ أحْلاَمُنَا *** فَنَجْهَلَ الجَهْلَ مَعَ الجَاهِلِ{[690]}

والعلم نقيض الجَهْل فقابله بقوله : { لاَّ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 13 ] ؛ لأن عدم العلم بالشيء جهل به .

فصل في تعلق الآية بما قبلها

قال ابن الخطيب{[691]} : لما نهاهم في الآية الأولى عن الفساد في الأرض ، ثم أمرهم في هذه الآية بالإيمان دلّ على أن كمال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين ، وهو تركه ما لا يَنْبَغِي ، وفعل ما ينبغي .

وقوله : { آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ } أي : إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق .

ولقائل أن يستدلّ بهذه الآية على أنّ مجرد الإقرار إيمان ، فإنه لو لم يَكُنْ إيماناً لما تحقّق مُسَمّى الإيمان إلاَّ إذا حصل بالإخلاص ، فكان قوله : " آمنوا " كافياً في تحصل المطلوب ، وكان ذكر قوله : { كَمَا آمَنَ النَّاسُ } لغواً .


[678]:- عجز بيت، وصدره: أليس أميري، في الأمور، بأنتما *** ...................... ينظر الجنى الداني: ص 332، والمغني: 339، وشرح شواهده: 717، والعيني: 1/422 - 423، والدر المصون: 1/122.
[679]:- ينظر الدرر المصون: (1/122)
[680]:- البيت للكميت بن زيد ينظر الدرر: 1/252، ومعاهد التنصيص: 3/88، تذكرة النحاة: ص 51، وهمع الهوامع: 1/81، الدر المصون: 1/122.
[681]:- البيت لزياد الأعجم. ينظر ديوانه: ص 97، وخزانة الأدب: 10/204، 206، 208، 211، 213، والمقاصد النحوية: 3/346، والأزهية: ص 77، الحيوان: 1/363، وشرح الأشموني: 2/298، وشرح ابن عقيل: ص 370، والأمالي الشجرية: (2/235)، والكافية الشافية: (2/819)، الدر المصون: (1/122).
[682]:- تقدم قريبا.
[683]:- ينظر ديوانه: ص 754، وخزانة الأدب: 4/225، وشرح أبيات سيبويه: 1/58، والكتاب: 1/52، 65، والمحتسب: 1/237، والمقاصد النحوية: 3/367، لسان العرب: (صدر)، (سفه)، الخصائص: 2/417، وشرح الأشموني: 2/310، شرح ابن عقيل: ص 380، وشرح عمدة الحافظ: ص 838، والأشباه والنظائر: 5/239.
[684]:- ينظر البيت في ديوانه: 3/161، الفخر الرازي: 2/62.
[685]:- لم أجده في المصادر الحديثية بهذا اللفظ وقد ذكره الفخر الرازي في تفسيره (2/62).
[686]:- انظر حجة القراءات: 91، وإعراب القراءات: 1/69، وشرح الطيبة: 4/9، وإتحاف: 379. وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر.
[687]:- انظر تفصيل ذلك في حجة القراءات: 90، وما بعدها، والبحر المحيط: 1/200، والحجة للقراء السبعة: 1/358، وما بعدها.
[688]:- وقرأ بها ابن كثير. انظر إعراب القراءات: 1/69، وحجة القراءات: 92.
[689]:- ينظر الحاشية قبل السابقة.
[690]:- ينظر البحر المحيط: 1/201، والدر المصون: 1/123.
[691]:- ينظر الرازي: 2/61.