الكلام عليها كالكلام على التي قبلها .
و " آمنوا " فعل وفاعل ، والجملة في محل رفع لقيامها مقام الفاعل على ما تقدم في { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } [ البقرة : 11 ] والأقوال هناك تعود هُنَا . والكاف في قوله " كما آمن " في محلّ نصب .
وأكثر المعربين يجعلون نعتاً لمصدر محذوف ، والتقدير : آمنوا إيماناً كإيمان النَّاس ، وكذلك يقولون في : " سير عليه حثيثاً " : أي سيراً حثيثاً وهذا ليس مذهب سيبويه ، إنما مذهبه في هذا ونحوه أن يكون منصوباً على الحال من المصدر والمضمر المفهوم من الفعل المتقدم .
وإنما أحوج سيبويه إلى ذلك أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلاَّ في مواضع محصورة ، ليس هذا منها ، فتلك المواضع : أن تكون الصفة خاصة بالموصوف ، نحو : " مررت بكاتب " .
أو واقعة خبراً نحو : " زيد قائم " .
أنو حالاً نحو : " جاء زيد راكباً " .
أو صفة لظرف نحو : " جلست قريباً منك " .
أو مستعملة استعمال الأسماء ، وهذا يحفظ ولا يُقَاس عليه ، نحو : " الأبْطَح والأَبْرَق " وما عدا هذه المَوَاضع لا يجوز فيها حذف المَوْصُوف ؛ ألا ترى أنَّ سيبويه منع لا ماء ولو بارداً ، وإن تقدّم ما يدلُّ على الموصوف ، وأجاز : " إلا ماء ولو بارداً " ؛ لأنه نصب على الحال .
و " ما " مصدرية في محل جَرّ بالكاف ، و " آمَنَ النَّاسُ " صلتها .
واعلم أنَّ " ما " المصدرية توصَلُ بالماضي أو المضارع المتصرّف ، وقد شَذَّ وصلها بغير المتصرف في قوله : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** بِمَا لَسْتُمَا أَهْلَ الخِيَانَةِ ، والغَدْرِ{[678]}
وهل توصل بالجمل الاسمية ؟ خلاف ، واستدل على جوازه بقوله : [ الكامل ]
وَاصِلْ خَلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ *** فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عَنْ قَلِيلٍ ذَاهِبُ{[679]}
أَحْلاَمُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ *** كَمَا دِمَاؤُكُمُ تَشْفِي مِنَ الكَلَبِ{[680]}
فإِنَّ الحُمْرَ مِنْ شَرِّ المَطَايَا *** كَمَا الحَبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ{[681]}
إلاّ أن ذلك يكثر فيها إذا أفهمت الزمان ؛ كقوله : [ الكامل ]
وَاصِلْ خَلِيلَكَ . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[682]}
وأجاز الزَّمخشري وأبو البقاء أن تكون " ما " كافّة ل " الكاف " عن العمل .
مثلها في قولك : ربما قدم زيد ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا ؛ لأن جعلها مصدريةً مبقٍ ل " الكاف " على ما عهد لها من العمل ، بخلاف جعلها كافة .
والألف واللام في " النَّاس " تحتمل أن تكون للجنس ، وفيها وجهان .
أحدهما : المراد " الأوس " و " الخزرج " ؛ لأن أكثرهم كانوا مسلمين ، وهؤلاء المنافقون كانوا منهم ، وكانوا قليلين ، ولفظ العموم قد يُطْلق على الأكثر .
والثاني : المُرَاد جميع المؤمنين ؛ لأنهم هم النَّاس ؛ لكونهم أعطوا الإنسانية حقَّهَا ؛ لأن فضل الإنسان على سَائِرِ الحيوان بالعَقْلِ المرشد .
وتحتمل أن تكون " الألف " و " اللام " للعهد ، فيكون المراد : كما آمن الرسول ومن معه ، وهم ناسٌ معهودون ، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب .
ورد لفظ " النَّاس " على سبعة أوجه :
الأول : المُرَاد به عبد الله بن سلام ، وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب .
الثاني : المُرَاد به النَّبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ] .
أي : يحسدون النبي - عليه الصلاة والسلام - على النِّسَاء .
الثَّالث : الناس : المؤمنون خاصّة قال تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] ، ومثله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [ البقرة : 21 ] .
الرابع والخامس : كُفّار قريش ، وزيد بن مسعود ، قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } يعني نَعِيم المكّي : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ }
السادس : آدم - عليه الصلاة والسَّلام - قال تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [ البقرة : 199 ] يعني : آدم عليه الصلاة والسلام .
السابع : الرِّجَال ؛ قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] يعني : الرجال .
الهمزة في " أنؤمن " للإنكار ، والاستهزاء ، ومَحَلّ " أنؤمن " النصب ب " قالوا " وقوله : { كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ } القول في " الكاف " و " ما " كالقول فيهما فيما تقدّم ، و " الألف " و " اللام " في " السفهاء " تحتمل أن تكون للجنس أو للعهد ، وأبعد من جعلها للغَلَبَة كالعيّوق ؛ لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم ، بحيث إذا قيل : السفهاء فيهم منهم ناس مخصوصون ، كما يفهم من العيوق كوكب مخصوص .
والسَّفه : الخِفّة ، يقال : ثوب سفيه أي : خفيف النَّسْج ، ويقال : سفهت الرِّيح الشيء : إذا حَرَّكته ؛ قال ذو الرمّة : [ الطويل ]
جَرَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاحٌ تَسَفَّهَتْ *** أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ{[683]}
سَفِيهُ الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إذَا مَا *** بَدَا فَضْلُ السَّفِيهِ عَلَى الحَلِيمِ{[684]}
أراد سريع الطَّعن بالرُّمْحِ خفيفه ، وإنما قيل لبذيء اللسان : سفيه ؛ لأنه خفيف الهداية .
وقال عليه الصلاة والسلام : " شَارِبُ الخَمْرِ سَفِيهٌ " {[685]} لقلة عقله .
وقيل : السفيه : الكَذّاب الذي يعمل بخلاف ما يعلم ، وإنما سمّى المنافقون المسلمين بالسُّفهاء ، لأن المُنَافقين كانوا من أهل الرياسة ، وأكثر المسلمين كانوا فقراء ، وكان عند المنافقين أن دين محمد باطلٌ ، والباطل لا يقبله إلا السَّفيه ، فلهذا نسبوهم إلى السَّفاهة ، ثم إنّ الله - تعالى - قلب عليهم هذا القول فقال : " أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ " لوجوه :
أحدها : أنَّ من أعرض عن الدّليل ، ثم نسب المتمسّك به إلى السَّفَاهة ، فهو السَّفيه .
وثانيها : أنَّ من باع آخرته بِدُنْيَاهُ فهو السَّفيه .
وثالثها : أنَّ من عادى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عادى الله ، وذلك هو السَّفيه .
والكلام على قوله : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } كالكلام على قوله : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }
وقرأ أهل " الشام " و " الكوفة " {[686]} " السّفهاء أَلاَ " بتحقيق الهمزتين ، وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا ، والآخرون يحققون الأولى ، ويليّنون الثانية في المختلفتين طلباً للخفّة فإن كانتا متّفقتين مثل : { هَؤُلاءِ إِن } [ البقرة : 31 ] ، و{ أَوْلِيَاءُ أُوْلَئِكَ }
[ الأحقاف : 32 ] ، و{ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ هود : 101 ] قرأها أبو عمرو والبزي{[687]} عن ابن كثير بهمزة واحدةٍ .
وقرأ أبو جعفر ، وورش ، ويعقوب{[688]} : بِتَحْقِيق الأولى وتَلْيين الثانية .
وقرأ قَالُون{[689]} : بتليين الأولى ، وتحقيق الثانية ، لأن ما يستأنف أولى بالهمزة ممّا يسكت عليه .
إنما قال هناك : " ولكن لا يشعرون " ، وقال ها هنا : " ولكن لا يعلمون " لوجهين :
أحدهما : أن المثبت لهم - هناك - الإفساد ، وهو مما يدرك بأدنى تأمّل ، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فِكْرٍ كثير ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر ، وهي الحواسّ مبالغة في تجهيلهم ، وهو أنَّ الشعور الذي قد ثبت للبهائم مَنْفِيّ عنهم ، والمثبت - هنا - هو السَّفه والمصدر به هو الأمر بالإيمان ، وذلك مما يحتاج إلى إِمْعَان فكرٍ ونَظَرٍ ، فإنه مُفْضٍ إلى الإيمان والتصديق ، ولم يقع منهم المأمور به وهو الإيمان ، فناسب ذلك نفي العلم عنهم .
الوجه الثاني : أن السَّفه خفّة العقل والجَهْل بالأمور ؛ قال : [ السريع ]
نَخَافُ أنْ تَسْفَهَ أحْلاَمُنَا *** فَنَجْهَلَ الجَهْلَ مَعَ الجَاهِلِ{[690]}
والعلم نقيض الجَهْل فقابله بقوله : { لاَّ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 13 ] ؛ لأن عدم العلم بالشيء جهل به .
قال ابن الخطيب{[691]} : لما نهاهم في الآية الأولى عن الفساد في الأرض ، ثم أمرهم في هذه الآية بالإيمان دلّ على أن كمال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين ، وهو تركه ما لا يَنْبَغِي ، وفعل ما ينبغي .
وقوله : { آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ } أي : إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق .
ولقائل أن يستدلّ بهذه الآية على أنّ مجرد الإقرار إيمان ، فإنه لو لم يَكُنْ إيماناً لما تحقّق مُسَمّى الإيمان إلاَّ إذا حصل بالإخلاص ، فكان قوله : " آمنوا " كافياً في تحصل المطلوب ، وكان ذكر قوله : { كَمَا آمَنَ النَّاسُ } لغواً .