ثم ذكر الله قصة أصحاب الكهف فقال : { إذ أوى الفتية إلى الكهف } أي صاروا إليه ، واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف : فقال محمد بن إسحاق بن يسار : مرج أهل الإنجيل ، وعظمت فيهم الخطايا ، وطغت فيه الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده ، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت ، وقتل من خالفه ، وكان ينزل قرى الروم ، ولا يترك في قرية نزلها أحداً إلا فتنة حتى يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت أو قتله ، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف ، وهي أفسوس فلما نزلها كبر على أهل الإيمان ، فاستخفوا منه ، وهربوا في كل وجه ، وكان دقيانوس حين قدمها أمر أن يتبع أهل الإيمان فيجمعوا له ، واتخذ شرطاً من الكفار من أهلها ، يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان بالله جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فيقتلون ويقطعون ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت الفتنة ، فلما رأى ذلك الفتية حزنوا حزناً شديداً ، فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء ، وكانوا من أشراف الروم ، وكانوا ثمانية نفر ، بكوا وتضرعوا إلى الله وجعلوا يقولون : ربنا رب السماوات والأرض ، لن ندعو من دونه إلهاً ، لقد قلنا إذاً شططاً إن عبدنا غيره ، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة ، وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك ، فبينما هم على مثل ذلك ، وقد دخلوا في مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم وهم سجود على وجوههم ، يبكون ويتضرعون إلى الله ، فقالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك ؟ انطلقوا إليه ، ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس فقالوا : تجمع الناس للذبح لآلهتك وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزؤون بك ويعصون أمرك ! فلما سمع بذلك بعث إليهم ، فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة وجوههم بالتراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة لسادات من أهل مدينتكم ؟ اختاروا : إما أن تذبحوا لآلهتنا ، وإما أن أقتلكم . فقال مكسلمينا ، وهو أكبرهم : إن لنا إلهاً ملأ السماوات والأرض عظمة ، لن ندعو من دونه إلهاً أبداً ، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصاً أبداً ، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير ، فأما الطواغيت فلن نعبدها أبداً ، فاصنع بنا ما بدا لك ، وقال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال مكسلمينا ، فلما قالوا ذلك أمر فنزع عنهم لبوساً كان عليهم من لبوس عظمائهم ثم قال : سأفرغ لكم فأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة ، وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شباناً حديثة أسنانكم ، فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكرون فيه وتراجعون عقولكم ، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم ، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده . وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم قريباً منهم لبعض أموره ، فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه ، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم وأن يعذبهم فأتمروا بينهم أن يأخذ كل رجل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ، ويتزودوا بما بقي ، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له بخلوس ، فيمكثون فيه ويعبدون الله حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء ، فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها ، ثم انطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف ، فلبثوا فيه . قال كعب الأحبار : مروا بكلب فتبعهم فطردوه ففعل ذلك مراراً فقال لهم الكلب : يا قوم ما تريدون مني ؟ لا تخشون جانبي ، أنا أحب أحباب الله ، فناموا حتى أحرسكم . وقال ابن عباس : هربوا ليلاً من دقيانوس ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ، وتبعه كلبه ، فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد . قال ابن إسحاق : فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ابتغاء وجه الله ، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له : تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً ، وكان من أحملهم وأجلدهم ، وكان إذا دخل المدينة يضع ثياباً كانت عليه حساناً ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ، ثم يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً ، ويتجسس لهم الخبر هل ذكر هو وأصحابه بشيء ، ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما لبثوا ، ثم قدم دقيانوس المدينة فأمر عظماء أهلها فذبحوا للطواغيت ، ففزع من ذلك أهل الإيمان ، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، وأخبرهم أن الجبار قد دخل المدينة ، وأنهم قد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ، ففزعوا ووقعوا سجوداً يدعون الله ويتضرعون إليه ويتعوذون من الفتنة ، ثم إن تمليخا قال لهم : يا أخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم ، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع ، فطعموا ، وذلك غروب الشمس ، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضاً ، فبينما هم على ذلك ضرب الله على آذانهم النوم في الكهف ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابه ما أصابهم ، وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم . فلما كان من الغد فقدهم دقيانوس فالتمسهم فلم يجدهم ، فقال لبعضهم : لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا ، لقد كانوا ظنوا أن بي غضباً عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ، ما كنت لأحمل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي ، فقال عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة قد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاءوا لرجعوا في ذلك الأجل ، ولكنهم لم يتوبوا ، فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ، ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فسألهم عنهم ، فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني ، ووعدهم بالقتل ، فقالوا له : أما نحن فلم نعصك ، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا ، فأهلكوها في أسواق المدينة ، ثم انطلقوا وارتقوا إلى جبل يدعى بخلوس ؟ فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم ، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية ، فألقى الله في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم وأراد الله أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم ، وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروا قبراً لهم ، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيهم ما غشيهم ، يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال . ثم إن رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما اسم أحدهما يندروس واسم آخر روتاس ، ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ، ويجعلا التابوت في البنيان ، وقالا : لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة ، فيعلم من فتح عنهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم ، ففعلا وبنيا عليه فبقي دقيانوس ما بقي ، ثم مات هو وقومه وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك . وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتياناً مطوقين مسورين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي عظيم وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها ، وقذف الله في قلوب الفتية الإيمان ، وكان أحدهم وزير الملك ، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم إيمانه فقالوا في أنفسهم : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم ، لا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة ، فجلس فيه ، ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ، ثم خرج الآخر فاجتمعوا إلى مكان ، فقال بعضهم لبعض : ما جمعكم ؟ وكل واحد يكتم صاحبه إيمانه مخافةً على نفسه . ثم قالوا : ليخرج كل فتى فيخلو بصاحبه ثم يفشي كل واحد سره إلى صاحبه ، ففعلوا فإذا هم جميعاً على الإيمان ، وإذا كهف في الجبل قريب منهم فقال بعضهم لبعض : فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ، وفقدهم قومهم فطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان وفلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في مملكة فلان بن فلان ووضعوا اللوح في خزانة الملك ، وقالوا : ليكونن لهذا شأن ومات ذلك الملك ، وجاء قرن بعد قرن . وقال وهب بن منبه : جاء حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلا سجد له فكره أن يدخلها ، فأتى حماما ً قريباً من المدينة فكان يؤاجر نفسه من الحمامي ، ويعمل فيه ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا وصدقوه ، وكان شرط على صاحب الحمام أن الليل لي لا يحول بيني وبينه ولا بين الصلاة أحد ، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمام فعيره الحواري ، وقال : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه ؟ فاستحيا وذهب فرجع مرة أخرى ، فقال له مثل ذلك فسبه وانتهره ولم يلتفت إلى ذلك حتى دخلا فماتا في الحمام ، وأتى الملك فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك فالتمس فلم يقدر عليه وهرب ، فقال : من كان يصاحبه ؟ فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم على مثل إيمانهم فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوه ، وقالوا : نلبث هاهنا إلى الليل ثم نصبح إن شاء الله تعالى ، فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم ، فخرج الملك في أصحابه يبتغونهم حتى وجدوهم ، فدخلوا الكهف ، فلما أراد رجل منهم دخوله أرعب فلم يطق أحد أن يدخله ، فقال قائل منهم : أليس لو قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى ، قال : فابن عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتون جوعاً وعطشاً . ففعل . قال وهب : فعبر زمان بعد زمان بعدما سد عليهم باب الكهف ، ثم إن راعياً أدركه المطر عند الكهف فقال لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي فيه من المطر لكان حسنا ً ، فلم يزل يعالجه حتى فتح ورد الله عليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا . وقال محمد بن إسحاق : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له : بيدروس ، فلما ملك بقي في ملكه ثمانياً وستين سنة فتحزب الناس في ملكه فكانوا أحزاباً ، منهم من يؤمن بالله ، ويعلم أن الساعة حق ، ومنهم من يكذب بها ، فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرع إلى الله وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ، ويقولون لا حياة إلا حياة الدنيا ، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد ، فجعل بيدروس يرسل إلى من يظن فيه خيراً وأنهم أئمة في الخلق ، فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا أن يحولوا الناس عن الحق وملة الحواريين ، فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلقه عليه ، ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً فجلس عليه ، فدأب ليله ونهاره زماناً يتضرع إلى الله تعالى ويبكي ، ويقول : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث إليهم آية تبين لهم بطلان ما هم عليه ، ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ويستجيب لعبده الصالح بيدروس ويتم نعمته عليه ، وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه الكهف ، وكان اسم ذلك الرجل أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان تلك الحظيرة ، حتى نزعا ما على فم الكهف وفتحا باب الكهف وحجبهم الله عن الناس بالرعب ، فلما فتحا باب الكهف أذن الله ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف ، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض ، فكأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها إذا أصبحوا من ليلتهم ، ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا ألوانهم شيء ينكرونه كهيئتهم حين رقدوا ، وهم يرون دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقاتهم : أنبئنا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبار ؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون ، وقد تخيل إليهم أنهم قد ناموا أطول مما كانوا ينامون ، حتى يتساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض : كم لبثتم نياماً ؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، ثم قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، وكل ذلك في أنفسهم يسير ، فقال لهم تمليخا : التمستم في المدينة فلم توجدوا ، وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم ، فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم فما شاء الله بعد ذلك فعل ، فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله . ثم قالوا لتمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال علينا بها ، وما الذي يذكر عند دقيانوس ، وتلطف ولا تشعرن بك أحداً ، وابتغ لنا طعاما ً فائتنا به ، وزدنا على الطعام الذي جئنا به ، فقد أصبحنا جياعاً ، ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي يتنكر فيها وأخذ ورقاً من نفقتهم التي كانت معهم والتي ضربت بطابع دقيانوس ، فكانت كخفاف الربع ، فانطلق تمليخا خارجاً فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً فصد عن الطريق تخوفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة ، فلما أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان الإيمان ظاهراً فيها ، فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً وجعل ينظر يميناً وشمالاً ، ثم ترك ذلك الباب فتحول إلى باب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ، ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن يراهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ، ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول : يا ليت شعري ما هذا ؟ أما عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها ، وأما اليوم فإنها ظاهرة ، لعلي نائم ؟ ثم يرى أنه ليس بنائم ، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناساً يحلفون باسم عيسى ابن مريم فزاده فرقاً ورأى أنه حيران ، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدر المدينة ، يقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس على ظهر الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل ، وأما الغداة فاسمعهم وكل إنسان يذكر اسم عيسى ولا يخاف أحداً ، ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف ، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا ، فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى ؟ قال : اسمها أفسوس ، فقال في نفسه : لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي ، والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شر فأهلك ثم إنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن يفطن بي لكان أيسر بي ، فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم ، فقال : بعني بهذه الورق طعاماً فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل يتعجبون منها ، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض : إن هذا أصاب كنزاً خبيئاً في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم تمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً ، وجعل يرتعد ويظن أنهم قد فطنوا به وعرفوه ، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس ، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه فلا يعرفونه ، فقال لهم وهو شديد الفرق منهم : افضلوا علي قد أخذتم ورقي ، فأمسكوها وأما طعامكم فلا حاجة لي به ، فقالوا له : من أنت يا فتى ، وما شأنك ؟ والله لقد جئت كنزاً من كنوز الأولين ، وأنت تريد أن تخفيه عنا ، فانطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه . نخف عليك ما وجدت ، فإنك إن لم تفعل نأت بك إلى السلطان فنسلمك إليه فيقتلك ، فلما سمع قولهم قال في نفسه : قد وقعت في كل شيء كنت أحذر منه ، فقالوا : يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت ، فجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم ، وفرق حتى ما وجد ما يخبر إليهم شيئاً ، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه ، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة صغيرهم وكبيرهم حتى سمع به من فيها فسألوه : ما الخبر ؟ ، فقيل : هذا رجل عنده كنز ، فاجتمع إليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ، ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة ، وما رأيناه فيها قط وما نعرفه قط ، فجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم ، فلما اجتمع إليه أهل المدينة فرق فسكت فلم يتكلم ، وكان مستيقناً أن أباه وإخوته بالمدينة ، وأن حسبه ونسبه من أهل المدينة من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمراها ، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر طنطيوس ، فلما انطلق به إليهما ظن تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً ، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون ، وجعل تمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء فقال في نفسه : اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ اليوم علي صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيدني به عند هذا الجبار ، وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ولو أنهم يعلمون فيأتوني فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار ، فإنا كنا تواثقنا لنكونن معاً ، لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئاً ، فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبداً ، وكنا تواثقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبداً ، يحدث به نفسه تمليخا ، فيما أخبر أصحابه حين رجع إليهم ، حتى انتهى إلى الرجلين الصالحين أريوس و طنطيوس فلما رأى تمليخا أنه لا يذهب به إلى دقيانوس أفاق وذهب عنه البكاء ، فأخذ أريوس وطنطيوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها ، ثم قال له أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى ؟ فقال تمليخا : ما وجدت كنزاً ولكن هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم ، فقال أحدهم : فمن أنت ؟ فقال تمليخا : أما أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة ، فقالوا : ومن أبوك ومن يعرفك فيها ، فأنبأهم باسم أبيه ، فلم يجدوا أحداً يعرفه ولا أباه ، فقال له أحدهما : أنت رجل كذاب لا تنبئنا بالحق ، فلم يدر تمليخا ما يقول لهم ، غير أنه نكس رأسه وأطرق بصره إلى الأرض ، فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون ، وقال بعضهم : ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمداً لكي ينفلت منكم ، فقال له أحدها ونظر إليه نظراً شديداً : أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذا الورق وضربها أكثر من ثلثمائة سنة ، وإنما أنت غلام شاب أتظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شمط كما ترى ، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها ، وخزائن هذه البلدة بأيدينا ، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ، وإني لأظنني سآمر بك فتعذب عذاباً شديداً ، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته . فلما قال ذلك قال لهم تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدقتكم عما عندي ، فالوا : سل لا نكتمك شيئاً ، قال لهم : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا : لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يسمى دقيانوس ، ولم يكن إلا ملك هلك منذ زمان ودهر طويل وهلكت بعده قرون كثيرة ، فقال تمليخا : إني إذاً لحيران وما يصدقني أحد من الناس بما أقول ، لقد كنا فتية على دين واحد وهو الإسلام وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لهم طعاماً وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي ، فلما سمع أريوس ما يقول تمليخا ، قال : يا قوم لعل هذه آية من آيات الله جعلها الله لكم على يدي هذا الفتى ، فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه ، فانطلق معه أريوس و طنطيوس وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم ، ولما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به ظنوا أنه قد أخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس ، فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذ سمعوا الأصوات وجلب الخيل مصعدة نحوهم ، فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليؤتى لهم ، فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض ، وأوصى بعضهم بعضاً ، وقالوا : انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار ينتظر متى نأتيه ، فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس بين ظهري الكهف لم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفاً على باب الكهف . وسبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ، ثم سألوه عن شأنه فأخبرهم ، وقص عليهم النبأ كله ، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياماً بأمر الله ذلك الزمان كله بأمر الله ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقاً للبعث ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ثم دخل على أثر تمليخا أريوس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ثم دعا رجلاً من عظماء أهل المدينة ففتح التابوت عندهم ، فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوباً فيهما : أن مكسلمينا ، و مخشلمينا ، وتمليخا ، ومرطونس ، و كشطونس ، ويبرونس ، وديموس ، وبطيوس ، وحالوش كانوا فتية هربوا من مهلكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف ، فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسد عليهم بالحجارة وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم فلما قرؤوه وعجبوا ، وحمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم ، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية إلى الكهف فوجدوهم جلوساً بين ظهرانيهم مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم ، فخر أريوس وأصحابه سجوداً ، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ، ثم كلم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس من إكراههم على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت وإخفاء إيمانهم عنه وهربهم إلى الكهف ، ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح بيدروس أن عجل إلينا لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله في ملكك ، وجعلها آية للعالمين لتكون لهم نوراً وضياءً وتصديقاً للبعث ، فأعجل إلى فتية بعثهم الله عز وجل ، وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة ، فلما أتى الملك الخبر رجع إليه عقله وذهب همه فقال : أحمدك الله رب السماوات والأرض ، وأعبدك ، وأسبح لك ، تطولت علي ورحمتنى فلم تطفئ النور الذي كنت جعلته لآبائي للعبد الصالح بيدروس الملك ، فلما نبأ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس ، فتلقاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف ، فلما رأى الفتية بيدروس فرحوا به وخروا سجداً على وجوههم ، وقام بيدروس فاعتنقهم وبكى ، وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه ، ثم قال الفتية لبيدروس : نستودعك الله إيمانك وخواتيم أعمالك والسلام عليك ورحمة الله ، حفظك الله وحفظ ملكك ، ونعيذك بالله من شر الإنس والجن . فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله تعالى أنفسهم ، وقام الملك إليهم فجعل ثيابهم عليهم وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في المنام ، فقالوا له : إننا لم نخلق من ذهب ولا من فضة ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله منه ، فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم فأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجداً يصلى فيه وجعل لهم عيداً عظيماً وأمر أن يؤتى كل سنة . وقيل : إن تمليخا لما حمل إلى الملك الصالح قال له الملك : من أنت قال : أنا رجل من أهل هذه المدينة ، وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام ، وذكر منزله وأقواماً لم يعرفهم أحد ، وكان الملك قد سمع أن فتية فقدوا في الزمن الأول وأن أسماءهم مكتوبة على اللوح بالخزانة ، فدعا باللوح وقد نظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم ، وذكر أسماء الآخرين فقال تمليخا هم أصحابي ، فلما سمع الملك ذلك ركب ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا : دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم ، فدخل فبشرهم ، فقبض الله أرواحهم وأعمى عليهم أثرهم فلم يهتدوا إليهم ، وذلك قوله عز وجل : ( إذ أوى الفتية إلى الكهف ) أي : صاروا إلى الكهف ، يقال : أوى فلان إلى موضع كذا أي : اتخذه منزلاً إلى الكهف ، وهو غار في جبل بنجلوس واسم الكهف : خيرم . { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة } . ومعنى الرحمة : الهداية في الدين . وقيل : الرزق ، { وهيئ لنا } يسر لنا { من أمرنا رشداً } أي : ما يلتمس من رضاك وما فيه رشدنا ، وقال ابن عباس : رشداً أي : مخرجاً من الغار في سلامة
ثم ذكر قصتهم مجملة ، وفصلها بعد ذلك فقال : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ } أي : الشباب ، { إِلَى الْكَهْفِ } يريدون بذلك التحصن والتحرز من فتنة قومهم لهم ، { فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر ، وتوفقنا للخير { وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } أي : يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد ، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا ، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة ، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه ، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم ، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق ،
ثم حكى - سبحانه - ما قالوه عندما حطوا رحالهم فى الكهف فقال : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا : { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } .
و " إذ " هنا ظرف منصوب بفعل تقديره : اذكر .
و { أوى } فعل ماض - من باب ضرب - تقول : أوى فلان إلى مسكنه يأوى ، إذا نزله بنفسه . واستقر فيه .
و { الفتية } : جمع قلة لفتى . وهو وصف للإِنسان عندما يكون فى مطلع شبابه .
وقوله : { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا } : من التهيئة بمعنى : تيسير الأمر وتقريبه وتسهيله حتى لا يخالطه عسر أو مشقة .
والمراد بالأمر هنا : ما كانوا عليه من تركهم لأهليهم ومساكنهم ، ومن مفارقتهم لما كان عليه أعداؤهم من عقائد فاسدة .
والرشد : الاهتداء إلى الطريق المستقيم مع البقاء عليه . وهو ضد الغى . يقال : رشد فلان يرشد رشدا ورشادا ، إذا أصاب الحق .
أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - للناس ليعتبروا ، وقت أن خرج هؤلاء الفتية من مساكنهم ، تاركين كل شئ خلفهم من أجل سلامة عقيدتهم فالتجأوا إلى الكهف ، واتخذوه مأوى لهم ، وتضرعوا إلى خالقهم قائلين : يا ربنا آتنا من لدنك رحمة ، تهدى بها قلوبنا ، وتصلح بها شأننا ، وتردُّ بها الفتن عنا ، كما نسألك يا ربنا أن تهيئ لنا من أمرنا الذى نحن عليه - وهو : فرارنا بديننا . وثباتنا على إيماننا - ما يزيدنا سدادا وتوفيقا لطاعتك .
وقال - سبحانه - : { إِذْ أَوَى الفتية . . } بالإِظهار - مع أنه قد سبق الحديث عنهم بأنهم أصحاب الكهف لتحقيق ما كانوا عليه من فتوة ، وللتنصيص على وصفهم الدال على قلتهم ، وعلى أنهم شباب فى مقتبل أعمارهم ، ومع ذلك ضحوا بكل شئ فى سبيل عقيدتهم .
والتعبير بالفعل { أوى } يشعر بأنهم بمجرد عثورهم على الكهف . ألقوا رحالهم فيه واستقروا به استقرار من عثر على ضالته ، وآثروه على مساكنهم المريحة ، لأنه واراهم عن أعين القوم الظالمين .
والتعبير بالفاء فى قوله - سبحانه - { فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً . . } يدل على أنهم بمجرد استقرارهم فى الكهف ابتهلوا إلى الله - تعالى - بهذا الدعاء الجامع لكل خير .
والتنوين فى قوله : { رحمة } : للتهويل والتنويع . أى : آتنا يا ربنا من عندك وحدك لا من غيرك . رحمة عظيمة شاملة لجميع أحوالنا وشئوننا . فهى تشمل الأمان فى المنزل ، والسعة فى الرزق ؛ والمغفرة للذنب .
قال القرطبى ما ملخصه : هذه الآية صريحة فى الفرار بالدين وهجرة الأهل والأوطان . . خوف الفتنة ، ورجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين . . .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"أمْ حَسِبْتَ أنّ أصحَابَ الكَهْفِ والرّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبا" حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل، هربا بدينهم إلى الله، فقالوا إذ أووه: "رَبّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً "رغبة منهم إلى ربهم، في أن يرزقهم من عنده رحمة.
وقوله: "وَهَيّئ لَنا مِنْ أمْرِنا رَشَدا" يقول: وقالوا: يسّر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا، "رَشَدا" يقول: سَدادا إلى العمل بالذي تحبّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة} (قال الحسن: {آتنا من لدنك رحمة} أي حسنة {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} أي تيسيرا. وهو ما ذكر في قوله: {ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا} (الكهف: 16)...
وقال بعضهم: قوله: {آتنا من لدنك رحمة} أي رزقا... {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} أي احمل جميع أمورنا على الصواب والرشد على ما ذكرنا أنهم عرفوا سعة المفارقة للدين، ولكن لم يعرفوا سعة تلك إذا كان فيها خوف هلاك أنفسهم، فسألوا ربهم أن يحمل أمرهم ذلك على الرشد و الصواب. ويحتمل {آتنا من لدنك رحمة} نعمة وسعة {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} من أمر ديننا صوابا؛ يقول: {آتنا من لدنك رحمة} دينا {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} صوابا...
فيه الدلالة على أن على الإنسان أن يهرب بدينه إذا خاف الفتنة فيه... ويدل على أنه إذا أراد الهرب بدينه خوف الفتنة أن يدعو بالدعاء الذي حكاه الله عنهم؛ لأن الله قد رضي ذلك من فعلهم وأجاب دعاءهم وحكاه لنا على جهة الاستحسان لما كان منهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
آواهم إلى الكهف بظاهرهم، وفي الباطن فهو مُقِيلُهم في ظلِّ إقباله وعنايته، ثم أخذهم عنهم، وقام عنهم فأجرى عليهم الأحوال وهم غائبون عن شواهدهم. وأخبر عن ابتداء أمرهم بقوله. {رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيْئ لَنَا مِنْ أمْرِنَا رَشَداً}: أي أنهم أَخذُوا في التبرِّي مِنْ حَوْلِهم وقُوَّتِهم، ورجعوا إلى الله بِصِدْق فَاقتِهم، فاستجاب لهم دعوتَهم، ودفع عنهم ضرورتَهم، وبَوَّأَهم في كنف الإيواء مقيلاً حسناً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي رحمة من خزائن رحمتك، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء {وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} الذي نحن عليه من مفارقة الكفار {رَشَدًا} حتى نكون بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا رشداً كله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فقط، فإنها كافية، ويحتمل ذكر «الرحمة» أن يراد بها أمر الآخرة...
{إذ أوى الفتية إلى الكهف}... والتقدير: اذكر إذ أوى...
{ربنا آتنا من لدنك رحمة} أي رحمة من... جلائل... فضلك وإحسانك وهي الهداية بالمعرفة والصبر...
{من لدنك} يدل على عظمة تلك الرحمة وهي التي تكون لائقة بفضل الله تعالى وواسع جوده...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما صغر أمرهم بالنسبة إلى جليل آياته وعظيم بيناته وغريب مصنوعاته، لخص قصتهم التي عدوها عجباً وتركوا الاستبصار على وحدانية الواحد القهار بما هو العجب العجيب، والنبأ الغريب، فقال تعالى: {إذ أوى} أي كانوا على هذه الصفة حين أووا، ولكنه أبرز الضمير لبيان أنهم شبان ليسوا بكثيري العدد فليست لهم أسنان استفادوا بها من التجارب والتعلم ما اهتدوا إليه من الدين والدنيا، ولا كثرة حفظوا بها ممن يؤذيهم أيقاظاً ورقوداً فقال تعالى: {الفتية} وهم أصحاب الكهف المسؤول عنهم، والشبان أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ {إلى الكهف} المقارب لقريتهم المشهور ببلدتهم فراراً بدينهم كما أويت أنت والصديق إلى غار ثور فراراً بدينكما {فقالوا} عقب استقرارهم فيه: {ربنا ءاتنا} ولما كانت الموجودات -كما مضى عن الحرالي في آل عمران- على ثلاث رتب: حكميات جارية على قوانين العادات، وعنديات خارقة للمطردات ولدنيات مستغرقة في الأمور الخارقات، طلبوا أعلاها فقالوا: {من لدنك} أي من مستبطن الأمور التي عندك ومستغربها {رحمة} أي إكراماً تكرمنا به كما يفعل الراحم بالمرحوم {وهيىء لنا} أي جميعاً لا تخيب منا أحداً {من أمرنا رشداً} أي وجهاً ترشدنا فيه إلى الخلاص في الدارين، لا جرم صارت قصتهم على حسب ما أجابهم ربهم بديعة الشأن فردة في الزمان، يتحدث بها في سائر البلدان، في كل حين وأوان...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفسرت الرحمة بالمغفرة والرزق والأمن، والأولى تفسيرها بما يتضمن ذلك وغيره، وفي ذكر {مِن لَّدُنْكَ} إيماءً إلى أن ذلك من باب التفضل لا الوجوب فكأنهم قالوا ربنا تفضل علينا برحمة {رَشَدًا}: إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداءً إليه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر، وتوفقنا للخير {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق،
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالفتية: أصحاب الكهف، وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إذ أووا، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أتراباً متقاربي السن. وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خُلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي، وثبات الجأش، والدفاع عن الحق، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل: إذ أووا إلى الكهف. ودلت الفاء في جملة فقالوا} على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله. ودلت الفاء في جملة فقالوا} على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله. ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به، فزيادة {من لدنك} للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك، لأن في (من) معنى الابتداء وفي (لدن) معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا: آتنا رحمة، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألماً، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين. ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالاً تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين. فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء. و (من) في قوله: {من أمرنا} ابتدائية. والأمر هنا: الشأن والحال الذي يكونون فيه، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك. وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
عرفهم القرآن الكريم بأوصافهم، وأول وصف من هذه الأوصاف أنهم فتية جمع فتى، أي أنهم شبان في باكورة أعمارهم، نفوسهم غضة لم ترهقها الأوهام، ولا العادات والتقاليد، ومورثات الآباء العتيقة التي عششت في رؤوس من قبلهم، بل إنهم على الفطرة السليمة، والشباب دائما أسرع الناس إلى الحق إن لم يكن في توجيههم ما يعوق عنه أو يسدّ الحجاب دونه... هذا هو الوصف الأول الذي وصف الله به أهل الكهف، أما الوصف الثاني، وهي نتيجة لسلام الطوية أنهم اتجهوا إلى الله تعالى بقلب محس بقدرة الله ومعجزته، وبأنه سبحانه وتعالى المنعم الهادي دون غيره فقالوا: {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا} نادوا ربهم قائلين، {ربنا}، أي الذي خلقتنا وكونتنا وطهّرت قلوبنا، وخلّصت نفوسنا من الشرك وأوهامه، {آتنا من لدنك}، من حضرتك القدسية، وخزائنك التي لا تنفد، {رحمة} وإنعاما وتوفيقا، وسلوكا مستقيما ودواما للتوفيق. ورحمة الله وسعت كل شيء وهي تعم كل حياة الإنسان، والدعوة الثانية المنبعثة من إيمان عميق موجه، وإذعان صادق يملأ القلب نورا، {وهيئ لنا من أمرنا رشدا}، أي الأمر الذي اخترناه لأنفسنا من الإيمان في وسط الوثنية، والرشد هو إدراك الأمور إدراكا مستقيما لا عوج فيه، وهذا الطريق المستقيم يقتضي تجنب الشرك وطلب الحق، والابتعاد عن كل مهاوي الرذيلة، والاتجاه إلى طريق الفضيلة ومحاسن الأخلاق، وألا يكون شطط ولا إفراط، ولا تفريط، إلا أن يدفع إلى ذلك الحق وتجنب الهوى...
يظهر أن أولئك الفتية طوردوا حتى أووا إلى الكهف، فالإيواء لا يكون إلا عن منازعة يحسون فيها بأنهم لا قبل لهم بمن يريدون أن يفتنوهم عن دينهم، وقد كان ذلك واقعا في عهد اضطهاد النصارى، كما أشرنا وكما بينا في غير هذا الكتاب...
(أوى) من المأوى، وهو المكان الذي يأوي الهي الإنسان ويلجأ إليه (الفتية) جمع فتى، وهو الشاب في مقتبل العمر، والشباب هم معقد الآمال في حمل الأعباء والنهوض بكل أمر صعب، وهؤلاء شباب مؤمن وقفوا يحملون راية عقيدتهم وإيمانهم أمام جبروت الكفر وطغيان الشرك، فالفتاء فيهم فتاء إيمان وعقيدة. لذلك لجأوا إلى الكهف مخلفين وراءهم أموالهم وأهلهم وكل ما يملكون، وفروا بدينهم إلى هذا المكان الضيق الخالي من أي مقوم من مقومات الحياة؛ لأنهم لا يشغلون أنفسهم بهذه المقومات، بل يعلمون أن لهم رباً سيتولى أمرهم؛ لذلك ضرعوا إليه قائلين: {ربنا آتنا من لدنك رحمة}: أي: رحمة من عندك، أنت ترحم بها ما نحن فيه من انقطاع عن كل مقومات الحياة، فالرحمة في فجوة الجبل لن تكون من البشر، الرحمن هنا لا تكون إلا من الله: {وهيئ لنا من أمرنا رشداً}: أي: يسر لنا طريقاً سديداً للخير وللحق. إن هؤلاء الفتية المؤمنين حينما ألجأهم الكفر إلى ضيق الكهف تضرعوا واتجهوا إلى ربهم، فهو وحده القادر على أن يوسع عليهم هذا الضيق، كما قال تعالى: {فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا "43 "} (سورة الأنعام).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً} وهذا ما قد يحتاج العاملون في سبيل الله إلى استلهامه في أوقات الشدّة ومواضع الحيرة، عندما تضغط عليهم القوى الكافرة والطاغية بضغوطها الوحشية والهمجية، ويتحيّرون في مفترق الطرق، فلا يعرفون إلى أين يسيرون. إن الرجوع إلى الله في طلب الرحمة، وتهيئة سبيل الرشاد، يمنح المؤمنين العاملين قدراً كبيراً من الاستقرار الروحي، والطمأنينة النفسية، والهدوء الفكري، والثقة بالمستقبل... من خلال الثقة بالله، والاطمئنان إليه، والركون إلى ساحته الحصينة... وبذلك يمكنهم مواصلة الطريق نحو الهدف الكبير، بالرغم من كل الصعوبات والتحديات التي تحيط بهم من كل جانب.