الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا} (10)

ثمّ ذكر قصتهم فقال : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ } ، أي رجعوا وصاروا . واختلفوا في مسيرهم إلى الكهف ، فقال محمد بن إسحاق بن يسار : مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم بقايا على دين المسيح ابن مريم ( عليه السلام ) ، متمسكين بعبادة الله عزّ وجّل وتوحيده . وكان ممّن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يُقال له دقيانوس كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه في ذلك ممّن أقام على دين المسيح . وكان ينزل بقرى الروم فلا يترك في قرية ينزلها أحداً إلاّ فتنه حتى يعبد الأصنام ، ويذبح للطواغيت ، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي أفسوس ، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه . وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبّع أهل الإيمان ، فيجمعوا له ، واتّخذ شرطاً من الكفار من أهلها ، فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان في مساكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت ، فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأصنام والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيُقتل .

فلما رأى ذلك أهل الشّدة في الإيمان بالله عز وجّل ، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فيُقتّلون ويقطّعون ثمّ يربط ما قُطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها كلّها وعلى كلّ باب من أبوابها ، حتّى عظمت الفتنة على أهل الإيمان فمنهم من أقّر فتُرك ومنهم مَن صَلُبَ على دينه فقتل .

فلما رأى الفتية ذلك حزنوا حزناً شديداً ، فقاموا وصلّوا وصاموا واشتغلوا بالدعاء والتسبيح لله عز وجّل ، وكانوا من أشراف الرّوم ، وكانوا ثمانية نفر ، فبكوا وتضرّعوا وجعلوا يقولون : { رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } ، اكشف عن عبادك هذه الفتنة ، وارفع عنهم البلاء ، وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك حتى يعلنوا عبادتك .

فبينا هم على ذلك إذ أدركهم الشرَط ، وكانوا قد دخلوا في مصلّى لهم فوجدوهم سجوداً على وجوههم يبكون ويتضرّعون إلى الله عز وجّل ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفئته . فلما رآهم أُولئك الكفرة قالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك ؟ انطلقوا إليه . ثمّ خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس ، فقالوا : نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون منك ويعصون أمرك ؟ فلما سمع ذلك أُتي بهم تفيض أعينهم من الدّمع ، معفّرة وجوههم في التراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا لذبح الآلهة الّتي تعبد في الأرض ، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم ؟ اختاروا إمّا أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح النّاس وإما أن أقتلكم . فقال مكسلمينا وكان أكبرهم : إن لنا إلهاً ملأ السماوات والأرض عظمته ، لن ندعو من دونه إلهاً أبداً ، ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إليه أبداً ، ولكنّا نعبد الله ربّنا ، وله الحمد والتكبير والتّسبيح من أنفسنا خالصاً ، إيّاه نعبد ، وإيّاه نسأل النجاة والخير فأمّا الطواغيت وعبادتها ، فلن نعبدها أبداً ، فاصنع بنا ما بدا لك . ثمّ قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له ، فلما قالوا ذلك أمرهم فنُزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم ، ثمّ قال : أمّا إذا فعلتم فإنّي أُؤخركم ، وسأفرغ لكم فأُنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة ، وما يمنعني أن اعجل ذلك لكم إلاّ أني أراكم شباباً ، حديثة أسنانكم ، ولا أُحب أن أُهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكّرون فيه ، وتراجعون عقولكم .

ثمّ أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت منهم ، ثمّ أمر بهم حتى أُخرجوا من عنده ، وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي كانوا بها قريباً منهم لبعض أُموره ، فلما رأى الفتية أن دقيانوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه ، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم ، فائتمروا بينهم أن يأخذ كلّ رجل نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا بها ويتزوّدوا مما بقي ، ثمّ ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس فيمكثون فيه ، ويعبدون الله عزّ وجلّ ، حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء .

فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، عمد كلّ فتى منهم إلى بيت أبيه وأخذ نفقة فتصدّقوا بها ، انطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم ، وأتبعهم كلب كان لهم ، حتى إذا أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل تلبثوا فيه .

وقال كعب الأحبار : مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه ، فعاد ففعلوا ذلك مراراً ، فقال لهم الكلب : ما تريدون منّي ؟ لا تخشون إجابتي .

أنا أُحب أحبّاء الله ، فناموا حتى أحرسكم .

وقال ابن عباس : هربوا ليلاً من دقيانوس بن جلانوس حيث دعاهم إلى عبادة الأصنام ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب ، وكان على دينهم ، فخرجوا من البلد فأووا إلى الكهف ، وهو قريب من البلدة ، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلاّ الصلاة والتسبيح والتكبير والتّحميد ابتغاء وجه الله تعالى ، فجعلوا نفقتهم إلى فتىً منهم يُقال له تمليخا ، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرًّا ، وكان من أجملهم وأجلدهم . وكان تمليخا يصنع ذلك ، فإذا دخل البلد يضع ثيابا كانت عليه حساناً ، ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ، ثمّ يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري طعاماً وشراباً ويسّمّع ويتجسس لهم الخبر : هل ذكروا أصحابه بشيء ؟ ثمّ يرجع إلى أصحابه .

فلبثوا بذلك ما لبثوا ، ثمّ قدم دقيانوس الجبّار إلى المدينة فأمر العظماء فذبحوا للطواغيت ، ففزع من ذلك أهل الإيمان ، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، فأخبرهم أنّ الجبّار دقيانوس قد دخل المدينة ، وأنهم ذُكروا والتُمسوا مع عظماء المدينة ليذبحوا للطواغيت . فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجوداً يدعون الله عز وجّل ويتضرّعون ويتعوّذون به من الفتنة .

ثمّ إنّ تمليخا قال لهم : ارفعوا رؤوسكم فاطعموا من رزق الله وتوكلّوا على بارئكم . فرفعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً وخوفاً على أنفسهم ، فطعموا منه وذلك مع غروب الشمس . ثمّ جلسوا يتحدّثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضاً ، فبينا هم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابه ما أصابهم ، وهم مؤمنون موقنون ، ونفقتهم عند رؤوسهم . فلما كان من الغد تفقّدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم ، فقال لبعضهم : لقد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا ، لقد كانوا ظنوني غضِباً عليهم بجهلهم ما جهلوا من أمري ، ما كنت لأحمل عليهم في نفسي ولا لواحد منهم إن تابوا وعبدوا آلهتي فقال له عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم ، وقد كنت أجّلت لهم أجلاً ، فلوا شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ، ولكنّهم لم يتوبوا .

فلما قالوا له ذلك غضب غضباً شديداً ، ثمّ أرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم ، فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني . فقالوا له : أمّا نحن فلم نعصك ، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثمّ انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى ينجلوس ؟ فلما قالوا له ذلك خلّى سبيلهم ، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية ، فألقى الله عز وجّل في نفسه أن يأمر بالكهف فيُسد عليهم ، أراد الله عز وجل أن يكرمهم ويجعلهم آية لأُمّة يَستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور .

فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم ، وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشاً وجوعاً ، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبراً لهم . وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، قد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ، بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم ، يتقلّبون ذات اليمين وذات الشمال .

ثمّ إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما ، اسم أحدهما بيدروس ، واسم الآخر روتاس ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص يجعلانه في تابوت من نحاس ، ثمّ يجعلان التابوت في البنيان ، وقالا : لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ هذا الكتاب . ففعلا ، ثمّ بنيا عليه ، فبقي دقيانوس ما بقي ، ثمّ مات وقومه وقرون بعد كثيرة ، وخلفت الملوك بعد الملوك .

وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتياناً مطوّقين مسوّرين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم ، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون الله ، وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا ، وأخفى كل واحد منهم الاِيمان عن صاحبه فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر بعضهم لبعض : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ، ثمّ خرج آخر فرآه جالساً وحده ، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ، فجلس إليه ثمّ خرج الآخرون فجاؤوا فجلسوا إليهما ، فاجتمعوا وقال بعضهم لبعض : ما جمعكم ، وكل واحد يكتم إيمانه على صاحبه مخافة على نفسه ؟ ثمّ قالوا : ليخرج كل فتيين منكم فيخلوَا ثمّ ليفششِ كل واحد منكم إلى صاحبه .

فخرج فتيان منهم فتواقفا ثمّ تكلّما فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه ، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما فقالا : قد اتفقنا على أمر واحد . فإذا هم جميعاً على الإيمان ، وإذا كهف في الجبل قريب منهم ، فقال بعضهم لبعض : { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } . فدخلوا ومعهم كلب صيد ، فناموا { ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً } .

قال : وفقدهم قومهم ، وطلبوهم فعمّى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فلما لم يقدموا كتب أحدهم في لوح : فلان وفلان أبناء ملوكنا ، فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان بن فلان . ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا : ليكوننّ لهذا شأن . ومات ذلك الملك ، وجاء قرن بعد قرن .

وقال وهب بن منبّه : جاء أحد حواريّ عيسى بن مريم ( عليه السلام ) الى مدينة أصحاب الكهف ، فأراد أن يدخلها ، فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلاّ سجد له .

فكره أن يدخلها فأتى حمّاماً قريباً من تلك المدينة ، فكان فيه ، وكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه .

ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة ، ودرّ عليه الرزق ، وجعل يقوم عليه ، وعلقه فتية من أهل المدينة ، فجعل يخبرهم خبر السماء وخبر الأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدّقوه ، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة . وكان شرطه على صاحب الحمام : إن الليل لي لا يحول بيني وبين الصلاة أحد ، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام ، فعيّره الحواري وقال له : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه ؟ فاستحيا ، فذهب ، فرجع مرّة أُخرى فقال له مثل ذلك ، فسبّه وانتهره ولم يلتفت حتى دخلا معاً فماتا جميعاً في الحمام ، فأُتي الملك فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك . فالتُمس فلم يُقدر عليه ، فهرب ، فقال : من كان يصحبه ؟ فسمّوا الفتية فالتُمسوا فخرجوا من المدينة ، فمرّوا بصاحب لهم في زرع وهو على مثل إيمانهم فذكروا له أنهم التُمسوا ، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوا وقالوا : نبيت هاهنا الليلة ، ثمّ نصبح إن شاء الله فترون رأيكم . فضرب الله على آذانهم .

فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف ، وكلّما أراد الرجل منهم دخوله أُرعب ، فلم يطق أحد دخوله ، وقال قائل : أليس لو قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى . قال : فابنِ عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتوا عطشاً وجوعاً . ففعل .

قال وهب : تركهم بعد ما سدّ عليهم باب الكهف زماناً بعد زمان ، ثمّ إنّ راعياً أدركه المطر عند الكهف فقال : لو فتحت هذا الكهف فادخلته غنمي من المطر فلم يزل يعالجه حتى فتح ، وردّ الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا .

وقال محمد بن إسحاق : ثمّ ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيدوسيس ، فلما ملك بقي في ملكه ثمانياً وثلاثين سنة فتحزب الناس في ملكه ، وكانوا أحزاباً ؛ منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق ، ومنهم من يكذّب بها ، فكبر ذلك على الملك الصالح ، وبكى إلى الله عز و جّل ، وتضرّع إليه ، وحزن حزناً شديداً . فلما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون : لا حياة إلاّ الحياة الدنيا ، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فأما الجسد فتأكله الأرض . ونسوا ما في الكتاب ، فجعل تيدوسيس يرسل إلى من يظن فيه خيراً وأنه معه في الحق ، فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يحولون الناس عن الحقّ وملّة الحواريين .

فلما رأى ذلك الملك الصالح تيدوسيس دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً ثمّ جلس عليه فدأب ليله ونهاره زماناً يتضرع إلى الله ويبكي مما يرى فيه الناس ، ويقول : أي رب ، قد ترى اختلاف هؤلاء الناس ، فابعث إليهم من يبين لهم .

ثمّ إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية له وحجة عليهم ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن يستجيب لعبده الصالح تيدوسيس ويتم نعمته عليه ، ولا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه ، وأن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ، وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين .

فألقى الله عز و جّل في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف وكان اسم ذلك الرجل أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذّي على فم الكهف ، فيبني به حظيرة لغنمه ، فأستاجر عاملين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما على فم الكهف ، وفتحا عليهم باب الكهف ، فحجبهم الله تعالى من الناس بالرعب . فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم أن يدخل من باب الكهف لم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف ، نائماً .

فلما نزعا الحجارة وفتحا باب الكهف أذن الله عز و جّل بالقدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف ، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم ، فسلّم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها . ثمّ قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون ، لا يُرى في وجوههم ولا أبشارهم ولا ألوانهم شيء ينكرونه ، وإنما هم كهيئتهم حين رقدوا ، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبّار في طلبهم .

فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم : إيتنا يا أخانا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمسِ عند هذا الجبّار وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون ، وقد خيّل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها ، حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض : { كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } .

وكل ذلك في أنفسهم يسير ، فقال لهم تمليخا : افتقدتم والتُمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم ، فما شاء الله بعد ذلك فعل . فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه ، اعلموا أنكم ملاقو الله ، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غداً . ثمّ قالوا لتمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمّع ما يقال [ عنّا ] بها اليوم وما الذي نُذكر به عند دقيانوس ، وتلطف ولا تشعرنّ بنا أحداً ، وابتع لنا طعاماً فائتنا به ، فإنه قد نالنا الجوع ، وزدنا على الطّعام الذي جئتنا به فإنه كان قليلاً فقد أصبحنا جياعاً . ففعل تمليخا كما كان يفعل ، ووضع ثيابه ، وأخذ الثياب التي كان يتنكّر فيها ، فأخذ ورقاً من نفقتهم الّتي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس ، وكانت كخفاف الربع .

فانطلق تمليخا خارجاً فلمّا مّر بباب الكهف رأى حجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ، ثمّ مّر فلم يبالِ بها ، حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصدّ عن الطريق تخوّفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه فيذهب إلى دقيانوس ، ولا يشعر العبد الصالح أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة .

فلما رأى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان ، فلمّا رآها عجب وجعل ينطر إليها مستخفياً ، فنظر يميناً وشمالاً ثمّ ترك ذلك الباب فتحوّل إلى باب آخر من أبو ابها فنظر فرأى مثل ذلك ، فجعل يخيّل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك ، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران ، ثمّ رجع إلى الباب التي أتى منها ، فجعل يتعجب منه ومن نفسه ويقول : ياليت شعري أمّا هذه عشية أمس فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها ، فأما اليوم فإنها ظاهرة فلعلّي حالم ثمّ يرى أنه ليس بنائم ، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثمّ دخل المدينة ، فجعل يمشي بين ظهراني سوقها فيسمع ناساً كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم ، فزادهُ فرقاً فرأى أنه حيران ، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدر المدينة ويقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا ، أمّا عشية أمسِ فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل ، وأمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى ولا يخاف .

ثمّ قال في نفسه : لعلّ هذه المدينة ليست بالمدينة التي أعرفها اسمع كلام أهلها ولا أعرف أحداً منهم والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران لا يتوجّه وجهاً ، ثمّ لقي فتىً من أهل المدينة ، فقال : ما اسم هذه المدينة يا فتى ؟ قال : دفسُوس . فقال في نفسه : لعل بي مسّاً أو أمراً أذهب عقلي ، والله يحقّ لي أن أُسرع بالخروج منها قبل أن أُخزى أو يصيبني شر فأهلك .

هذا الذي حدّث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم . ثمّ إنّه أفاق فقال : والله لو عجّلت الخروج منها قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي . فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم ، فقال : يا عبد الله ، بعني بهذا الورق طعاماً . فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها ، فعجب منها ثمّ طرحها إلى رجل من أصحابه ، فنظر إليها . ثمّ جعلوا يتطارحونها من رجل إلى رجل ، ويعجبون منها ، ثمّ جعلوا يتسارّون من أجله ، ففرق فرقاً شديداً وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه ، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس ، وجعل أُناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه ، فقال لهم وهو شديد الفرق : أفصلوا عليّ ، قد أخذتم ورقي فأمسكوا ، وأما طعامكم فلا حاجة لي به .

فقالوا : من أنت يا فتى ؟ وما شأنك ؟ والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأوّلين ، وأنت تريد أن تخفيه عنا ، انطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه نُخفِ عليك ما وجدت ؛ فإنك إن لم تفعل نأتِ بك السّلطان فنسلمك إليه فيقتلك .

فلما سمع قولهم عجب في نفسه ، وقال : قد وقعت في كل شيء أحذر منه ، ثمّ قالوا : يا فتى ، إنك والله ما تستطيع أن تكتم ما حدث ، ولا تظن في نفسك أنك سنُخفي عليك .

فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم ، وفرق حتى ما يخبرهم شيئاً ، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطوقوه في عنقه ، ثمّ جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكبباً ، حتى سمع به من فيها ، فقيل : أُخذ رجل عنده كنز ، فاجتمع عليه أهل المدينة ، صغيرهم وكبيرهم ، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة ، وما رأيناه فيها قط ، وما نعرفه . فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم مع ما يسمع منهم ، فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق وسكت ولم يتكلم ، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يُصدّق ، وكان مستيقناً أن أباه وإخوته بالمدينة ، وأن حسبه في أهل المدينة من عظماء أهلها ، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا ، وقد استيقن أنه عشية أمس يعرف كثيراً من أهلها وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحداً .

فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله : أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه ، فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبرَيها اللذين يدبّران أمرها ، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أرموس واسم الآخر أسطيوس . فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه يُنطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه ، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً ، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون والحيران ، فجعل تمليخا يبكي ثمّ رفع رأسه إلى السماء وإلى الله عزّ وجلّ ، ثمّ قال : اللهم إله السماء والأرض أفرغ عليّ اليوم صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيّدني به عند هذا الجبار . وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرّق بيني وبين إخوتي ، يا ليتهم يعلمون ما لقيت وأين يُذهب بي ، ولو أنهم يعلمون فيأتون فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار ، فإنا كنا تواثقنا [ لنكونن معاً ] لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئاً ولا نعبد الطواغيت من دون الله [ ف ] فُرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبداً ، وقد كنا تواثقنا على ألاّ نفترق في حياة ولا موت ، يا ليت شعري ما هو فاعل بي ؟ أقاتلي أم لا ؟

هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حتى انتهي به إلى الرجلين الصالحين : أرموس وأسطيوس ، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء ، فأخذ أرموس وأسطيوس الورق ، فنظرا إليه وعجبا منه ثمّ قال أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى ؟ هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزاً .

فقال لهم تمليخا : ما وجدت كنزاً ، ولكن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني ، وما أدري ما أقول لكما . فقال أحدهما : فمن أنت ؟ فقال له : أمّا ما أرى فكنت أرى أني من أهل القرية . قالوا له : فمن أبوك [ ومن ] يعرفك بها ؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحداً يعرفه ، ولا أباه ، فقال له أحدهما : أنت رجل كذّاب لا تخبرنا بالحقّ . ولم يدرِ ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض ، فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون . وقال بعضهم : ليس بمجنون ، ولكن يحمّق نفسه عمداً لينفلت منكم . فقال له أحدهما ، ونظر إليه نظراً شديداً : أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال ، أبيك وضرب هذا الورق ونقشها أكثر من ثلاثمئة سنة ، وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ، ونحن شرط كما ترى ، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها ، وخزائن هذه البلدة بأيدينا ، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ؟ إنني لأظنني سآمر بك فتعذّب عذاباً شديداً ثمّ أُوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت .

فلّما قال له ذلك ، قال تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتم صدّقتم ما عندي . قالوا له : سل ، ما نكتمك شيئاً . فقال : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالا له : ليس نعرف ملكاً يُسمى دقيانوس على وجه الأرض ، ولم يكن إلاّ ملكاً قد هلك منذ زمان ودهر طويل ، وهلكت بعده قرون كثيرة . قال لهم تمليخا : فوالله ما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول ، لقد كنا فتية ، وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاماً وأتجسّس الأخبار فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل ينجلوس أُرِكم أصحابي . فلما سمع أرموس ما يقول تمليخا ، قال : يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله عزّ وجلّ جعلها لكم على يدي هذا الفتى ، فانطلقوا بنا معه يُرِنا أصحابه كما قال .

فانطلق معهم أرموس وأسطيوس وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف ينظرون إليهم .

ولمّا رأى الفتية أصحاب الكهف أن تمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به ، ظنوا أنه قد أُخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس الذي هربوا منه ، فبينا هم يظنون ذلك ويتخوفون إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم ، وظنوا أنهم رسل دقيانوس الجبّار وأنه بعث إليهم ليؤتى بهم ، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة ، وسلّم بعضهم على بعض ، وقالوا : انطلقوا بنا نأتِ أخانا تمليخا ، فإنه الآن بين يدي الجبّار دقيانوس ينتظر متى نأتيه ، فبينا هم يقولون ذلك ، وهم جلوس بين ظهراني الكهف ، فلم يروا إلاّ أرموس وأصحابه وقوفاً على باب الكهف ، وسبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو ويبكي ، فلما رأوه يبكي ، بكوا معه وسألوه عن شأنه ، فأخبرهم بخبره وقصَّ عليهم النبأ كلّه فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياماً بأمر الله ذلك الزمان كلّه ، وإنما أُوقظوا ليكونوا آية للناس ، وتصديقاً للبعث ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها .

ثمّ دخل على آثر تمليخا أرموس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ، ثمّ دعا رجالاً من عظماء المدينة ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوباً فيها : ( إن مكسلمينا ومجسلمينا وتمليخا ومرطولس وكسوطونس وبيوسرس وتكريوس وبطينوس كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم ، فدخلوا هذا الكهف ، فلمّا أُخبر بمكانهم أمر بالكهف فسّد عليهم بالحجارة ، وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه مَن بعدهم إن عثروا عليهم .

فلمّا رأوه عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم ، ثمّ إنهم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ، ثمّ دخلوا على فتية الكهف فوجدوهم جلوساً بين ظهرانيه مشرقة وجوههم ، لم تبلَ ثيابهم ، فخرّ أرموس وأصحابه سجّداً ، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ، ثمّ كلّم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس .

ثمّ إن أرموس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح تيدوسيس أن عجّل ، لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك ، وجعلها آية للعالمين لتكون نوراً وضياءً وتصديقاً للبعث ، فاعجل على فتية بعثهم الله تعالى ، وقد كان توفّاهم منذ أكثر من ثلاثمئة سنة .

فلما أتى الملك الخبر قام من المسندة التي كان عليها ورجع إليه عقله ، وذهب عنه همّه ، ورجع إلى الله عز و جّل ، فقال : أحمدك الله ربّ السماوات والأرض ، وأعبدك وأُسبّح لك تطوّلت علي ، ورحمتني برحمتك ، فلم تطفئ النّور الذي كنت جعلت لآبائي وللعبد الصالح قسطيطوس الملك .

فلمّا نبّأ به أهل المدينة ركبوا وساروا حتى أتوا مدينة دقيانوس فتلقّاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه ، فلما رأى الفتية تيدوسيس فرحوا به وخرّوا سجّداً على وجوههم ، وقام تيدوسيس قدامهم ثمّ اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبّحون الله عزّ وجلّ ويحمدونه ، ثمّ قال الفتية لتيدوسيس : نستودعك الله ، ونقرأ عليك السلام ، وحفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شرّ الجن والإنس .

فبينا الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفّى الله أنفسهم ، وقام الملك إليهم فجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل لكل رجل منهم تابوت من ذهب ، فلما أمسوا ونام أتوه في المنام فقالوا : إنّا لم نخلق من ذهب ولا فضّة ، ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير ، فاتركنا كما كنّا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عزّ وجلّ منه .

فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب ، فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم ، وأمر الملك فجُعل على باب الكهف مسجدٌ يُصلّى فيه ، وجعل لهم عيداً عظيماً ، وأمر أن يؤتى كل سنة .

وقيل : إنهم لما أتوا إلى باب الكهف قال تمليخا : دعوني حتّى أدخل على أصحابي فأُبشّرهم ؛ فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم . فدخل فبشّرهم ، وقبض الله روحه وأرواحهم ، وعمي عليهم مكانهم ، فلم يهتدوا إليه . فهذا حديث أصحاب أهل الكهف .

ويقال : " إنّ نبي الله محمداً صلى الله عليه وسلم سأل ربّه أن يريه إيّاهم ، فقال : " إنّك لن تراهم في دار الدنيا ، ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرئيل ( عليه السلام ) : " كيف أبعثهم ؟ " . قال : " ابسط كساءً لهم ، وأجلس على طرف من أطرافها أبا بكر ، وعلى الثاني عمر وعلى الثالث عليًّا ، وعلى الرابع أبا ذر ، ثمّ ادعُ الريح الرخاء المسخّر لسليمان بن داود ( عليهما السلام ) فإن الله تعالى أمرها أن تطيعك "

. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره ، فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف ، فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجراً ، فقام الكلب حين أبصر الضوء فهرّ وحمل عليهم ، فلما رآهم حرّك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ برأسه أن ادخلوا ، فدخلوا الكهف وقالوا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فردّ الله إليهم أرواحهم ، فقاموا بأجمعهم وقالوا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فقالوا : إنّ نبي الله محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم السلام . فقالوا : على محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض ، وعليكم بما بلّغتم . ثمّ جلسوا بأجمعهم يتحدثون ، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقبلوا دين الإسلام ، وقالوا : أقرئوا محمداً منّا السلام . فأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي .

ويقال : إنّ المهدي يسلّم عليهم ، فيحييهم الله عزّ وجلّ ، ثمّ يرجعون إلى رقدتهم ولا يقومون إلى يوم القيامة .

ثمّ جلس كل واحد منهم على مكانه ، وحملتهم الريح ، وهبط جبرئيل ( عليه السلام ) [ على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره ] بما كان [ منهم ] ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف وجدتموهم ؟ وما الذي أجابوا ؟ " . فقالوا : يا رسول الله ، دخلنا عليهم فسلّمنا عليهم ، فقاموا بأجمعهم ، فردّوا السّلام ، وبلّغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا وشهدوا أنّك رسول الله حقاً ، وحمدوا الله عزّ وجلّ على ما أكرمهم بخروجك وتوجيه رسولك إليهم ، وهم يقرئونك السلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تفرّق بيني وبين أصهاري وأحبائي وأختاني ، واغفر لمن أحبّني وأحب أهل بيتي وحامّتي ، وأحبّ أصحابي " " .

فذلك قوله عزّ وجلّ { إِذْ أَوَى } أي صار وانضم { الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ } ، وهو غار في جبل ينجلوس ، واسم الكهف خيرم ، { فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } أي يسّر لنا ما نلتمس من رضاك . وقال ابن عباس : { رَشَداً } أي مخرجاً من الغار في سلامة . وقيل : صواباً .