61- وإنك - أيها الرسول - قد بلغت وهو معلوم لله ، وما تكون في أمر من أمورك ، وما تقرأ من قرآن ولا تعمل أنت وأمتك من عمل ، إلا ونحن شهود رقباء عليه حين تدخلون فيه مجاهدين ، ولا يغيب عن علم ربك شيء في وزن الذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من هذا ولا أكبر منه . إن ذلك كله يسجل في كتاب عند الله بيِّن واضح .
{ وما تكون } . يا محمد ، { في شأن } ، عمل من الأعمال ، وجمعه شؤون ، { وما تتلوا منه } ، من الله ، { من قرآن } ، نازل ، وقيل : منه أي من الشأن من قرآن ، نزل فيه ثم خاطبه وأمته فقال : { ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه } ، أي : تدخلون وتخوضون فيه ، الهاء عائدة إلى العمل ، والإضافة : الدخول في العمل . وقال ابن الأنباري : تندفعون فيه . وقيل : تكثرون فيه . والإضافة : الدفع بكثرة .
قوله تعالى : { وما يعزب عن ربك } ، يغيب عن ربك ، وقرأ الكسائي " يعزب " بكسر الزاي ، وقرأ الآخرون بضمها ، وهما لغتان .
قوله تعالى : { من مثقال ذرة } ، أي : مثقال ذرة ، و{ من } صلة ، والذرة هي : النملة الحميراء الصغيرة . { في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك } ، أي : من الذرة ، { ولا أكبر } قرأ حمزة ويعقوب : برفع الراء فيهما ، عطفا على موضع المثقال قبل دخول { من } ، وقرأ الآخرون : بنصبها ، إرادة للكسرة ، عطفا على الذرة في الكسر . { إلا في كتاب مبين } . وهو اللوح المحفوظ .
{ 61 ْ } { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ }
يخبر تعالى ، عن عموم مشاهدته ، واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم ، وسكناتهم ، وفي ضمن هذا ، الدعوة لمراقبته على الدوام فقال : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ْ } أي : حال من أحوالك الدينية والدنيوية . { وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ْ } أي : وما تتلو من القرآن الذي أوحاه الله إليك .
{ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ْ } صغير أو كبير { إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ْ } أي : وقت شروعكم فيه ، واستمراركم على العمل به .
فراقبوا الله في أعمالكم ، وأدوها على وجه النصيحة ، والاجتهاد فيها ، وإياكم ، وما يكره الله تعالى ، فإنه مطلع عليكم ، عالم بظواهركم وبواطنكم .
{ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ ْ } أي : ما يغيب{[405]} عن علمه ، وسمعه ، وبصره ومشاهدته { مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ } أي : قد أحاط به علمه ، وجرى به قلمه .
وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر ، كثيرًا ما يقرن الله بينهما ، وهما : العلم المحيط بجميع الأشياء ، وكتابته المحيطة بجميع الحوادث ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ْ }
وبعد أن ذكر - سبحانه - عباده بفضله ، وما يجب عليهم من شكره ، عطف على ذلك تذكيره إياهم بإحاطة علمه بكل صغير وكبير في هذا الكون فقال : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً .
أي : وما تكون - أيها الرسول الكريم - في شأن من الشئون أو في حال من الأحوال .
وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن يهدي إلى الرشد .
ولا تعملون - أيها الناس - عملا ما صغيرا أو كبيرا ، إلأا كنا عليكم مطلعين .
ومن في قوله { منه } للتعليل ، والضمير يعود إلى الشأن ، إذ التلاوة أعظم شئونه - صلى الله عليه وسلم - هذا . ولذا خصت بالذكر . ويجوز أن يعود للقرآن الكريم ، ويكون الإِضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه ، وتعظيم أمره .
ومن في قوله { مِن قُرْآنٍ } مزيدة لتأكيد النفي .
وقال الآلوسى : " والخطاب الأول خاص برأس النوع الإِنساني ، وسيد المخاطبين - صلى الله عليه وسلم - هذا . وقوله { وَلاَ تَعْمَلُونَ . . . } عام يشمل سائر العباد برهم وفاجرهم وقد روعى في كل من المقامين ما يليق به ، فعبر في مقام الخصوص في الأول بالشأن ، لأن عمل العظيم عظيم ، وفى الثاني بالعمل العام للجليل والحقير . وقيل : الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما في قوله - تعالى - { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ } وقوله : { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً } استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة . أي : وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه ، حافظين له " .
وقوله : { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي : تخوضون وتندفعون في ذلك العمل ، لأن الإِفاضة في الشيء معناها الاندافع فيه بكثرة وقوة .
وقوله : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } بيان لشمول علمه - سبحانه - لكل شيء .
ويعزب : أى يبعد ويغيب ، وأصله من قولهم : عزب الرجل يعزب بإبله إذا أبعد بها وغاب في طلب الكلأ والعشب . والكلام على حذف مضاف .
أي : وما يغيب ويخفي عن عمل ربك مثقال ذرة في الوجود علويه وسفلية ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، إلا وهو معلوم ومسجل عنده في كتاب عظيم الشأن ، تام البيان .
وقوله : { مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } تمثل لقلة الشيء ودقته ، ومن فيه لتأكيد النفي وقدمت الأرض على السماء هنا ، لأن الكلام في حال أهلها ، والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه - سبحانه - بتفاصيلها .
فكأنه - سبحانه - يقول : إن من يكون هذا شأنه لا يخفى عليه شيء من أحوال أهل الأرض مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } جملة مستقلة لسيت معطوفة على ما قبلها .
و { لا } نافية للجنس و { أصغر } اسمها منصوب لشبهه بالمضاف ، و { أكبر } معطوف عليه . و { فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } متعلق بمحذوف خبرها .
وقدم ذكر الأصغر على الأكبر ، لأنه هو الأهم في سياق العلم بما خفى من الأمور .
وقرأ حمزة ويعقوب وخلف { وَلاَ أَصْغَرَ } بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أى : ولا ما هو أصغر في ذلك .
والمراد بالكتاب المبين : علم الله الذي وسع كل شىء ، أو اللوح المحفوظ الذي حفظ الله فيه كل شيء .
وبذلك نرى أأن هذه الآيات الكريمة قد أقامت الأدلة على شمول قدرة الله - تعالى - لكل شيء ، وعلى دعوة الناس إلى الانتفاع بما جاء به القرآن من خيرات وبركات ، وعلى وجوب التزامهم بما شرعه - سبحانه - وعلى إحاطة علمه بما ظهر وبطن من الأمور .
وبعد أن وجه - سبحانه - نداء إلى الناس دعاهم فيه إلى الانتفاع بما جاء في القرآن من خيرات ، وتوعد الذين شرعوا شرائع لم يأذن بها الله ، وأقام الأدلة على نفاذ قدرته ، وشمول علمه .
لا يشكرون . . والله هو المطلع على السرائر ، المحيط بكل مضمر وظاهر ، الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . . هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق ، ليخرج منها إلى طمأنة الرسول [ ص ] ومن معه بأنهم في رعايته وولايته ، لا يضرهم المكذبون ، الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون :
وما تكون في شأن ، وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل ، إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه ؛ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لا تبديل لكلمات الله ، ذلك هو الفوز العظيم . ولا يحزنك قولهم ، إن العزة لله جميعاً ، هو السميع العليم ، ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض ، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ، إن يتبعون إلا الظن ، وإن هم إلا يخرصون . هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون .
إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق :
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . . شعور مطمئن ومخيف معاً ، مؤنس ومرهب معاً . . وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه ، شاهدً أمره وحاضر شأنه . الله بكل عظمته ، وبكل هيبته ، وبكل جبروته ، وبكل قوته . الله خالق هذا الكون وهو عليه هين . ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان . . الله مع هذا المخلوق البشري . الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها ! إنه شعور رهيب . ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن . إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية . . إن الله معها :
( وما تكون في شأن ، وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . . )
إنه ليس شمول العلم وحده ، ولكن شمول الرعاية ، ثم شمول الرقابة . .
( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .
ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء - ومعها علم الله - ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصوراً في علم الله . . ويرتعش الوجدان إشفاقاً ورهبة ، ويخشع القلب إجلالاً وتقوى ، حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة ؛ ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلآ أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَما تَكُونُ يا محمد فِي شأْنِ يعني في عمل من الأعمال ، وَما تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرآن يقول : وما تقرأ من كتاب الله من قرآن ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ يقول : ولا تعملون من عمل أيها الناس من خير أو شرّ إلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُودا يقول : إلا ونحن شهود لأعمالكم وشؤونكم إذ تعملونها وتأخذون فيها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي القول عن ابن عباس وجماعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يقول : إذ تفعلون .
وقال آخرون : معنى ذلك : إذ تشيعون في القرآن الكذب ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يقول : فتشيعون في القرآن من الكذب .
وقال آخرون : معنى ذلك : إذ تفيضون في الحقّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ في الحقّ ما كان .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه ، لأنه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عبادُه عملاً إلا كان شاهده ، ثم وصل ذلك بقوله : إذْ يُفِيضُونَ فِيهِ فكان معلوما أن قوله : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ إنما هو خبر منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد لا عن وقت تلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن لأن ذلك لو كان خبرا عن شهوده تعالى ذكره وقت إفاضة القوم في القرآن ، لكانت القراءة بالياء : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ خبرا منه عن المكذّبين فيه .
فإن قال قائل : ليس ذلك خبرا عن المكذّبين ، ولكن خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه شاهده إذ تلا القرآن فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنزيل : «إذ تفيض فيه » ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم واحد لا جمع ، كما قال : وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرآنٍ فأفرده بالخطاب ، ولكن ذلك في ابتدائه خطابه صلى الله عليه وسلم بالإفراد ثم عوده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله : يا أيّها النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ ، وذلك أن في قوله : إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ دليلاً واضحا على صرفه الخطاب إلى جماعة المسلمين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم مع جماعة الناس غيره لأنه ابتدأ خطابه ثم صرف الخطاب إلى جماعة الناس ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم ، وخبر عن أنه لا يعمل أحد من عباده عملاً إلا وهو له شاهد يحصى عليه ويعلمه ، كما قال : وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبّكَ يا محمد عمل خلقه ، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء . وأصله من عزوب الرجل عن أهله في ماشيته ، وذلك غيبته عنهم فيها ، يقال منه : عزب الرجل عن أهله يَعْزُبُ وَيعْزِبُ لغتان فصيحتان ، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء . وبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب غير أني أميل إلى الضمّ فيه لأنه أغلب على المشهورين من القرّاء .
وقوله : مِنْ مِثْقالِ ذَرّةٍ يعني : من زنة نملة صغيرة ، يحكى عن العرب : خذ هذا فإنه أخفّ مثقالاً من ذاك أي أخفّ وزنا . والذرّة واحدة الذرّ ، والذرّ : صغار النمل . وذلك خبر عن أنه لا يخفى عليه جلّ جلاله أصغر الأشياء ، وإن خفّ في الوزن كلّ الخفة ، ومقادير ذلك ومبلغه ، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه ، وكم مبلغ ذلك . يقول تعالى ذكره لخلقه : فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضى ربكم عنكم ، فإنا شهود لأعمالكم ، لا يخفى علينا شيء منها ، ونحن محصوها ومجازوكم بها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلا أصْغَرَ مِنَ ذلكَ وَلا أكْبَرَ فقرأ ذلك عامّة القرّاء بفتح الراء من «أصغر » و«أكبر » على أن معناها الخفض ، عطفا بالأصغر على الذرّة وبالأكبر على الأصغر ، ثم فتحت راؤهما لأنهما لا يجريان . وقرأ ذلك بعض الكوفيين : «وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ وَلا أكْبَرُ » رفعا ، عطفا بذلك على معنى المثقال لأن معناه الرفع . وذلك أن «مِنْ » لو أُلقيت من الكلام لرفع المثقال ، وكان الكلام حينئذ : وَما يَعْزُبُ عن ربك مثقال ذرّة ولا أصغر من مثقال ذرّة ولا أكبر ، وذلك نحو قوله : مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللّهِ و«غيرِ الله » .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بالفتح على وجه الخفض والردّ على الذرّة لأن ذلك قراءة قرّاء الأمصار وعليه عوامّ القرّاء ، وهو أصحّ في العربية مخرجا وإن كان للأخرى وجه معروف .
وقوله : إلاّ فِي كِتابٍ يقول : وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله مبين عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جلّ ثناؤه فيه ، وأنه لا يعزب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما يَعْزُبُ يقول : لا يغيب عنه .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبّكَ قال : ما يغيب عنه .
قصد الآية وصف إحاطة الله تعالى بكل شيء ، ومعنى اللفظ { وما تكون } يا محمد ، والمراد هو وغيره { في شأن } من جميع الشؤون { وما تتلوا نه } الضمير عائد على { شأن } أي فيه وبسببه من قرآن ، ويحتمل أن يعود الضمير على جميع القرآن ، ثم عم بقوله { ولا تعملون من عمل } وفي قوله { إلا كنا عليكم شهوداً } ، تحذير وتنبيه ، و { تفيضون } تنهضون بجد ، يقال : أفاض الرجل في سيره وفي حديثه ، ومنه الإفاضة في الحج ومفيض القداح{[6146]} ، ويحتمل أن «فاض » عدي بالهمزة ، و { يعزب } معناه : يغيب حتى يخفى حتى قالوا للبعيد : عازب ، ومنه قول الشاعر [ ابن مقبل ] : الطويل ]
عوازب لم تسمع نبوح مقامه*** ولم تر ناراً تم حول مجرم{[6147]}
وقيل للغائب عن أهله : عازب حتى قالوه لمن لا زوجة له ، وفي السير أن بيت سعد بن خيثمة كان يقال : بيت العزاب ، وقرأ جمهور السبعة والناس «يعزُب » يضم الزاي ، وقرأ الكسائي وحده منهم : «يعزِب » بكسرها وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف ، قال أبو حاتم : القراءة بالضم ، والكسر لغة ، و «المثقال » : الوزن ، وهو اسم ، لا صفة كمعطار ومضراب والذر : صغار النمل ، جعلها الله مثالاً إذ لا يعرف في الحيوان المتغذي المتناسل المشهور النوع والموضع أصغر منه ، وقرأ جمهور الناس وأكثر السبعة : «ولا أصغرَ ولا أكبرَ » بفتح الراء عطفاً على { ذرة } في موضع خفض لكن منع من ظهوره امتناع الصرف ، وقرأ حمزة وحده : «ولا أصغر ولا أكبر » عطفاً على موضع قوله { مثقال } ، لأن التقدير وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ، و «الكتاب المبين » : اللوح المحفوظ ، كذا قال بعض المفسرين ، ويحتمل أن يريد تحصيل الكتبة ، ويكون القصد ذكر الأعمال المذكورة قبل ، وتقديم «الأصغر » في الترتيب جرى على قولهم : القمرين والعمرين ، ومنه قوله تعالى : { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة }{[6148]} والقصد بذلك تنبيه الأقل وأن الحكم المقصود إذ وقع على الأقل فأحرى أن يقع على الأعظم .
معطوفة على جملة { وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } [ يونس : 60 ] عطفَ غرض على غرض ، لأن فصل الغرض الأول بالتذييل دليل على أن الكلام قد نقل إلى غرض آخر ، وذلك الوعدُ بالثواب للرسول على ما هو قائم به من تبليغ أمر الله وتدبير شؤون المسلمين وتأييد دين الإسلام ، وبالثواب للمسلمين على اتباعهم الرسول فيما دعاهم إليه . وجاء هذا الوعد بطريقة التعريض بحصول رضى الله تعالى عنهم في قوله : { إلا كنا عليكم شهوداً } لأنهم يعلمون أن عملهم وعمل النبي ما كان إلا في مرضاة الله ، فهو كقوله تعالى : { الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين } . ويتضمن ذلك تنويهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم في جليل أعماله وتسلية على ما يُلاقيه من المشركين من تكذيب وأذى ، لأن اطلاع الله على ذلك وعلمه بأنه في مرضاته كاف في التسلية ، كقوله : { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] ، ولذلك توجه الخطاب ابتداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم توجه إليه وإلى من معه من المسلمين .
و { ما } الأولى و { ما } الثانية نافيتان .
والشأن : العمل المهم والحال المهم . و ( في ) للظرفية المجازية التي بمعنى شدة التلبس .
وضمير ( منه ) إما عائد إلى ( شأن ) ، أي وما تتلو من الشَّأن قرآناً فتكون ( مِن ) مبينة ل ( ما ) الموصولة أو تكون بمعنى لام التعليل ، أي تتلو من أجل الشأن قرآناً . وعَطْف { وما تتلو } من عطف الخاص على العام للاهتمام به ، فإن التلاوة أهم شؤون الرسول عليه الصلاة والسلام .
وإما عائد إلى { قرآن } ، أي وما تتلو من القرآن قرآناً ، فتكون { منه } للتبعيض ، والضمير عائد إلى مؤخر لتحصيل التشويق إليه حتى يتمكن في نفس السامع . وواو ( تتلو ) لام الكلمة ، والفعل محتمل لضمير مفرد لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم
فيكون الكلام قد ابتدىء بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم التي منها ما هو من خواصّه كقيام الليل ، وثُنِّي بما هو من شؤونه بالنسبة إلى الناس وهو تلاوة القرآن على الناس ، وثُلِّث بما هو من شؤون الأمة في قوله : { ولا تعمَلون من عمل } فإنه وإن كان الخطاب فيه شاملاً للنبيء صلى الله عليه وسلم إلا أن تقديم ذكر شأن في أول الآية يخصص عموم الخطاب في قوله : { تَعملون } فلا يبقى مراداً منه إلا ما يعمله بقية المسلمين .
ووقع النفي مرتين بحرف ( ما ) ومرة أخرى بحرف ( لا ) لأن حرف ( ما ) أصله أن يخلص المضارع للحال ، فقصد أولاً استحضار الحال العظيم من شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن قراءته القرآن ، ولما نفي عمل الأمة جيء بالحرف الذي الأصل فيه تخليصه المضارع للاستقبال للتثنية من أول الكلام على استمرار ذلك في الأزمنة كلها .
ويعلم من قرينة العموم في الأفعال الثلاثة بواسطة النكرات الثلاث المتعلقة بتلك الأفعال والواقعة في سياق النفي أن ما يحصل في الحال وما يحصل في المستقبل من تلك الأفعال سواءٌ ، وهذا من بديع الإيجاز والإعجاز . وكذلك الجمع بين صيغ المضارع في الأفعال المعممة { تكونُ } و{ تتلو } و{ تعملون } وبين صيغة الماضي في الفعل الواقع في موضع الحال منها { إلاَّ كنا } للتنبيه على أن ما حصل ويحصل وسيحصل سواء في علم الله تعالى على طريقة الاحتباس كأنه قيل : وما كنتم وتكون وهكذا ، إلاَّ كنا ونكون عليكم شهودا .
و { من عمل } مفعول { تعملون } فهو مصدر بمعنى المفعول وأدخلت عليه ( من ) للتنصيص على التعميم ليشمل العمل الجليل والحقير والخير والشر .
والاستثناء في قوله : { إلاَّ كنا عليكم شهوداً } استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الشأن وعموم التلاوة وعموم العَمل ، أي إلا في حالة علمْنا بذلك ، فجملة { كنا عليكم } في موضع الحال . ووجود حرف الاستثناء أغنى عن اتصال جملة الحال بحرف ( قد ) لأن الربط ظاهر بالاستثناء .
والشهود : جمع شاهد . وأخبر بصيغة الجمع عن الواحد وهو الله تعالى تبعاً لضمير الجمع المستعمل للتعظيم ، ومثله قوله تعالى : { إنا كنا فاعلين } [ الأنبياء : 104 ] . ونظيره في ضمير جماعة المخاطبين في خطاب الواحد في قول جعفر بن عُلبة الحارثِي :
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم *** لشيء ولا أني من الموت أفرق
وذلك استعارة بتشبيه الواحد بالجماعة في القوة لأن الجماعة لا تخلو من مزايا كثيرة موزعة في أفرادها .
والشاهد : الحاضر ، وأطلق على العالم بطريقة المجاز المرسل ولذلك عدي بحرف ( على ) .
و { إذْ } ظرف ، أي حين تفيضون .
والإفاضة في العمل : الاندفاع فيه ، أي الشروع في العمل بقوة واهتمام ، وهذه المادة مؤذنة بأن المراد أعمالهم في مرضاة الله ومصابرتهم على أذى المشركين . وخصت هذه الحالة وهذا الزمان بالذكر بعد تعميم الأعمال اهتماماً بهذا النوع فهو كذكر الخاص بعد العام ، كأنه قيل : ولا تعملون من عملٍ مَّا وعملٍ عظيمٍ تفيضون فيه إلا كنا عليكم شهوداً حين تعملونه وحين تفيضون فيه .
وجملة : { وما يعزب عن ربك } الخ عطف على جملة : { وما تكون في شأن } ، وهي بمنزلة التذييل لما فيها من زيادة التعميم في تعلق علم الله تعالى بجميع الموجودات بعد الكلام على تعلقه بعمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين .
والعزوب : البعد ، وهو مجاز هنا للخفاء وفواتِ العلم ، لأن الخفاء لازم للشيء البعيد ، ولذلك علق باسم الذات دون صفة العلم فقال : { عن ربك } .
وقرأ الجمهور { يعزب } بضم الزاي ، وقرأه الكسائي بكسر الزاي وهما وجهان في مضارع ( عزب ) .
و ( من ) في قوله : { من مثقال ذرة } مزيدة لتأكيد عموم النفي الذي في { ما يعزب } .
والمِثقال : اسم آلة لما يعرف به مقدار ثِقَل الشيء فهو وزن مِفعال من ثَقُل ، وهو اسم لصنج مقدر بقدر معين يوزن به الثقل .
والذرة : النملة الصغيرة ، ويطلق على الهباءة التي ترى في ضوء الشمس كغبارٍ دقيق جداً ، والظاهر أن المراد في الآية الأولُ . وذُكرت الذرة مبالغة في الصغر والدقة للكناية بذلك عن إحاطة العلم بكل شيء فإن مَا هو أعظم من الذرة يكون أولى بالحكم .
والمراد بالأرض والسماء هنا العالم السفلي والعالم العلوي . والمقصود تعميم الجهات والأبعاد بأخصر عبارة . وتقديم الأرض هنا لأن ما فيها أعلق بالغرض الذي فيه الكلام وهو أعمال الناس فإنهم من أهل الأرض بخلاف ما في سورة [ سبأ : 3 ] { عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } فإنه لما كان المقام لذكر علم الغيب والغيب ما غاب عن الناس ومعظمه في السماء لاءم ذلك أن قدمت السماء على الأرض .
وعطف { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } على { ذرة } تصريحاً بما كني عنه بمثقال ذرة من جميع الأجرام .
و { أصغر } بالفتح في قراءة الجمهور ممنوعاً من الصرف لأنه معطوف على { ذرة } المجرور على أنَّ { لا } مقحمة لتأكيد النفي . وجوز أن يكون العطف عطف جملة وتكون { لا } نافية للجنس { وأصغر } اسمها مبنياً على الفتح فيكون ابتداء كلام .
وقرأ حمزة وخلف ويعقوب { ولا أصغرُ ولا أكبرُ } برفعهما باعتبار عطف { أصغر } على محل { مثقال } لأنه فاعل { يعزب } في المعنى ، وكسرته كسرة جر الحرف الزائد وهو وجه من فصيح الاستعمال ، أو باعتبار عطف الجملة على الجملة وتكون { لا } نافية عاملة عمل ليس و { أصغر } اسمها .
والاستثناء على الوجهين الأوَّلين من قراءتي نصب { أصغرَ } ورفعه استثناء منقطع بمعنى ( لكن ) ، أي لا يعزب ذلك ولكنه حاضر في كتاب ، وجوز أن يكون استثناء متصلاً من عموم أحوال عزوب مثقال الذرة وأصغرَ منها وأكبر . وتأويله أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده . والمعنى لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في حال كونه في كتاب مُبين ، أي إلا معلوماً مكتوباً ويعلم السامع أن المكتوب في كتاب مبين لا يمكن أن يعزب ، فيكون انتفاء عزوبه حاصلاً بطريق برهاني .
والمجرور على هذا كله في محل الحال ، وعلى الوجهين الأخيرين من القراءتين يكون الاستثناء متصلاً والمجرور ظرفاً مستقلاً في محل خبر ( لا ) النافية فهو في محل رفع أو في محل نصب ، أي لا يوجد أصغر من الذرة ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله تعالى : { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59 ] .
والكتاب : علم الله ، استعير له الكتاب لأنه ثابت لا يخالف الحق بزيادة ولا نقصان . ومبين : اسم فاعل من أبان بمعنى بان ، أي واضح بيّن لا احتمال فيه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا} يعني إلا وقد علمته قبل أن تعملوه،
{إذ تفيضون فيه}، وأنا شاهدكم، يعني إذ تعملونه،
{وما يعزب}، يعني وما يغيب {عن ربك من مثقال ذرة}، يعني وزن ذرة،
{في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} يعني اللوح المحفوظ.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَما تَكُونُ" يا محمد "فِي شأْنِ "يعني في عمل من الأعمال، "وَما تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرآن" يقول: وما تقرأ من كتاب الله من قرآن، "وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ" يقول: ولا تعملون من عمل أيها الناس من خير أو شرّ "إلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُودا" يقول: إلا ونحن شهود لأعمالكم وشؤونكم إذ تعملونها وتأخذون فيها...
"وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبّكَ" يا محمد عمل خلقه، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء. وأصله من عزوب الرجل عن أهله في ماشيته، وذلك غيبته عنهم فيها...
وقوله: "مِنْ مِثْقالِ ذَرّةٍ" يعني: من زنة نملة صغيرة، يحكى عن العرب: خذ هذا فإنه أخفّ مثقالاً من ذاك أي أخفّ وزنا. والذرّة واحدة الذرّ، والذرّ: صغار النمل. وذلك خبر عن أنه لا يخفى عليه جلّ جلاله أصغر الأشياء، وإن خفّ في الوزن كلّ الخفة، ومقادير ذلك ومبلغه، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه، وكم مبلغ ذلك. يقول تعالى ذكره لخلقه: فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضى ربكم عنكم، فإنا شهود لأعمالكم، لا يخفى علينا شيء منها، ونحن محصوها ومجازوكم بها...
وقوله: "إلاّ فِي كِتابٍ" يقول: وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله مبين عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جلّ ثناؤه فيه، وأنه لا يعزب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) تبلغهم الرسالة...
وقال بعضهم: قوله: (وما تكون في شأن) أي في عبادة... يخبر أنكم في كل أمر يكون بينكم وبين ربكم، وفي كل أمر بينكم وبين الناس فالله لكم وعليكم شهودا، وكل عمل تعملون لكم وعليكم
(إلا كنا عليكم شهودا) ينبههم، ويوقظهم ليكونوا على حذر أبدا منتبهين... ثم يحتمل (فيه) في الحق، ويحتمل في الدين، ويحتمل في القرآن، ويحتمل في رسول الله. يقول: أنا شاهد في ما تخوضون وفي ما تقولون في رسول الله أو في دينه أو في ما يتلو عليكم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
خوَّفَهم بما عرفَّهم من اطلاعه عليهم في جميع أحوالهم، ورؤية ما سيفعلونه من فنون أعمالهم. والعلْم بأنه يراهم يوجِبُ استحياءَهم منه، وهذه الحال المراقبة، والعبد إذا عَلمَ أن مولاه يراه استحيى منه، وتَركَ متابعة هواه، ولا يحُوِّم حَوْلَ ما نهاه،...
{وما يعزُبُ عن ربك من مثقال ذرة}: وكيف يخفى ذلك عليه، أو يتقاصر علمه عنه، وهو منشئُه وموجِدُه؟ وبعض أحكامه الجائزة مخصصة، وإنما قال: {إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}: ردَّهم إلى كتابته ذلك عليهم- لعدم اكتفائهم في الامتناع عمَّا نُهُوا عنه -برؤيته وعلمه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} «ما» نافية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشأن: الأمر، وأصله الهمز بمعنى القصد، من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. والضمير في {مِنْهُ} للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو معظم شأنه، أو للتنزيل، كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل من قرآن، لأنّ كلّ جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له. أو لله عزّ وجلّ. وما {تَعْمَلُونَ} أنتم جميعاً {مِنْ عَمَلٍ} أيّ عمل كان {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} شاهدين رقباء نحصي عليكم {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه. {وَمَا يَعْزُبُ}: وما يبعد وما يغيب...
فإن قلت: لم قدّمت الأرض على السماء، بخلاف قوله: في سورة سبأ {عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات وَلاَ فِي الأرض} [سبأ: 3]؟ قلت: حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} [سبأ: 3] لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية.
المسألة الأولى: اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار، وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم، وفي أمره بتحمل أذاهم، وبالرفق معهم ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين، وتمام الخوف والفزع للمذنبين، وهو كونه سبحانه عالما بعمل كل واحد، وبما في قلبه من الدواعي والصوارف، فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكا وطاعة وزهدا وتقوى، ويكون باطنه مملوءا من الخبث وربما كان بالعكس من ذلك. فإذا كان الحق سبحانه عالما بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين، ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد، أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام:
فالأول: منهما قوله: {وما تكون في شأن} واعلم أن {ما} ههنا جحد والشأن الخطب والجمع الشؤون.
وأما قوله: {ولا تعملون من عمل} فهذا خطاب مع النبي ومع جميع الأمة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما وصف القرآن بما وصفه به من الشفاء وما معه بعد إقامة الدليل على إعجازه، وأشار إلى أن ما تدينوا به في غاية الخبط وأنه مع كونه كذباً يقدر كل واحد على تغييره بأحسن منه لكونه غير مبني على الحكمة، وختم ذلك بتهديدهم على افتراء الكذب في شرع ما لم يأذن به مع ادعائهم أن القرآن مفترى وهم عاجزون عن معارضته، وبأنهم لم يشكروه على نعمه التي أجلّها تخصيصهم بهذا الذكر الحكيم والشرع القويم، وكان قد أكثر في ذلك كله من الأمر له صلى الله عليه وسلم بمحاجتهم {قل لا أملك لنفسي}، {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه}، {قل إي وربي إنه لحق}، {قل بفضل الله} -الآية، {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم}، {قل الله أذن لكم}، قال تعالى ناظراً إلى قوله: {وما كان هذا القرآن أن يفترى} الآية، تسلية له صلى الله عليه وسلم وتقوية لهمته وزيادة في تهديدهم عطفاً على ما تقديره: فقد أنزلت إليهم على لسانك ما هو شرف لهم ونعمة عليهم وهو في غاية البعد عن مطلق الكذب فإن كل شيء منه في أحكم مواضعه وأحسنها لا يتطرق إليه الباطل بوجه وهم يقابلون نعمته بالكفر: {وما تكون} أنت {في شأن} أي أيّ شأن كان {وما تتلوا منه} أي من القرآن المحدث عنه في جميع هذه السورة، الذي تقدم أنهم كذبوا به من غير شبهة لهم {من قرآن} أي قليل أو كثير {ولا تعملون} أي كلكم طائعكم وعاصيكم، وأغرق في النفي فقال: {من عمل} صغير أو كبير {إلا كنا} أي بما لنا من العظمة {عليكم شهوداً} أي عاملين بإحاطة علمنا ووكالة جنودنا عمل الشاهد {إذ تفيضون فيه} الآية إيذاناً بأنك بعيني في جميع هذه المراجعات وغيرها من شؤونك وأنا العالم بتدبيرك والقادر على نصرتك، وهي كلها من كتابي الذي تتضاءل القوى دونه وتقف الأفكار عن مجاراته لأنه حكيم لكونه من عندي فجل عن مطلق المعارضة لفظاً أو معنى فضلاً عن التغيير فضلاً عن الإتيان بما هو مثله فكيف بما هو أحسن منه، لاستقامة أمره وتناسب أحكامه كونها شفاء وهدى ورحمة، وما كان كذلك فهو من عندي قطعاً وبإذني جزماً لأني عالم بالإفاضة فيه والانفصال عنه وجميع الأمور الواقعة منك ومنهم ومن غيرهم.
ولما كان ربما ظن ظان من إفهام {كنا} و {شهوداً} للجنود أنه سبحانه محتاج إليهم، نفى ذلك بقوله: {وما} أي والحال أنه ما {يعزب} أي يغيب ويخفى {عن ربك} أي المربي لكل مخلوق بعام أفضاله ولك بخاص نعمه وأشرف نواله، وأغرق في النفي فقال: {من مثقال ذرة} أي وزن نملة صغيرة جداً وموضع وزنها وزمانه؛ ولما كان "في "بموزون أهل الأرض كان تقديمها أولى فقال: {في الأرض} ولما لم يدع السياق إلى الجمع- كما سيأتي في سبأ -قال اكتفاء بالمفرد الدال على الجنس: {ولا في السماء} أي ما علا عن الأرض كائناً ما كان.
ولما كان ربما أدى الجمود بعض الأغبياء إلى أن يحمل المثقال على حقيقته ويجهل أن المراد به المبالغة، قال عاطفاً على الجملة من أولها وهو على الابتداء سواء رفعنا الراءين على قراءة حمزة ويعقوب أو نصبناهما عند الباقين: {ولا أصغر من ذلك} أي من مثقال الذرة {ولا أكبر} ولما أتى بهذا الابتداء الشامل الحاصر، أخبر عنه بقوله: {إلا} أي لا شيء من ذلك إلا موجود {في كتاب} أي جامع {مبين} أي ظاهر في نفسه مظهر لكل ما فيه، وسيأتي في سبأ ما يتم به هذا المكان، وفي ذلك تهديداً لهم وتثبيت له صلى الله عليه وسلم، ولاح بهذا أن ما بعد {إلا} حال من الفاعل، أي ما يفعل شيئاً إلا وأنت بأعيننا فثبت أن القرآن بعلمه، فلو افتراه أحد عليه لأمكن منه؛ والإفاضة: الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل أخذاً من فيض الإناء إذا انصب ما فيه من جوانبه، وأفضتم 84: تفرقتم كتفرق الماء الذي يتصبب من الإناء؛ والعزوب: ذهاب المعنى عن العلم، وضده الحضور؛ والذر: صغار النمل وهو خفيف الوزن جداً، ومثقاله: وزنه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
... إخبار منه تعالى بعظيم اطلاعه سبحانه على الخواطر وما يجري في الضمائر فلا يخفى عليه جل شأنه خاطر ولا ضمير {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14] {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الارض وَلاَ فِي السماء} [يونس: 61] أي إن علمه سبحانه محيط بما في العالم السفلي والعلوي فكل ذرة من ذراته داخلة في حيطة علمه كيف لا وكلها قائمة به جل شأنه ينظر إلى كل في كل آن نظر الحفظ والرعاية ولولا ذلك لهلكت الذرات واضمحلت سائر الموجودات.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما ذكر تعالى عباده بفضله، وما يجب عليهم من شكره، وبكون أكثرهم لا يشكرونه كما يجب عليهم عطف على ذلك تذكيره لهم بإحاطة علمه بشؤونهم وأعمالهم كلها، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، وبكل ما في العوالم علويها وسفليها، ليحاسبوا أنفسهم على تقصيرهم في ذكره وشكره وعبادته، وبدأ بخطاب أعظمهم شأنا في أعظم شؤونه فقال {ومَا تَكُونُ} أيها الرسول {فِي شَأْنٍ} أي أمر من أمورك المهمة الخاصة بك، أو العامة التي تعالج بها أمر الأمة، في الدعوة إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، إنذارا وتبشيرا، وتعليما وعملا.
{ومَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ} أي وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن أنزل عليك، تعبدا به أو تبليغا له، ف (من) الأولى للتعليل والثانية للتبعيض، أو الضمير في (منه) للكتاب لأن السياق بل السورة كلها فيه، وإضماره قبل الذكر ثم بيانه تفخيم له، وقيل لله، لذكره في الآية قبلها، والتعبير في خطابه صلى الله عليه وسلم بالشأن- وهو الأمر العظيم أو ذو البال- يدل على أن جميع أموره وأعماله صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة، حتى العادات منها؛ لأنه كان قدوة صالحة فيها كلها.
{ولاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} هذا خطاب عام للأمة كلها في كل شؤونها وأعمالها، بعد خطاب رأسها وسيدها في أخص شؤونه وأعلاها، فتذكرك الآية في أخصر الألفاظ وأقصرها بأفضل ما آتاك الله من هداية ونعمة، وتنتقل بك إلى كل عمل تعمله من شكر وكفر، وإن كان كمثقال ذرة، فإن مجيء عمل نكرة منفية يفيد العموم، ودخول من التبعيضية عليه يؤكد هذا العموم، فيشمل أدق الأعمال وأحقرها، وهو في معنى قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7 8].
{إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} أي رقباء مطلعين عليكم.
{إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تخوضون وتندفعون فيه، فنحفظه عليكم لنجزيكم به، وأصل الإفاضة في الشيء أو من المكان الاندفاع فيه بقوة أو بكثرة كما تقدم في "أفضتم من عرفات".
{ومَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} أي وما يبعد عنه، ولا يغيب عن علمه، ولا يخفى عليه. قرأ الجمهور يعزب بضم الزاي، والكسائي بكسرها، وهما لغتان فيها. وأصله من قولهم: عزب الرجل يعزب بإبله، أي يبعد ويغيب في طلب الكلأ العازب، وهو ما يكون بفلاة بعيدة حيث لا زرع، ويقال: رجل عزب –بفتحتين- أي منفرد، ومنه رجل وامرأة عزب أي منفرد لا زوج له أو لها، ويقال: امرأة عزبة، واختلف في أعزب وعزباء، ونفي عزوب الشيء عن الرب تعالى أخص وأبلغ من نفي الغيبة أو الخفاء عنه. كما أن الإفاضة في العمل أخص من إتيانه مطلقا. وحكمة تخصيصها بالذكر دون اللفظ الأعم منها هي أن ما يفيض فيه الإنسان مهمّا به مندفعا فيه جدير بأن لا ينسى أو يغفل عن مراقبة ربه فيه واطلاعه عليه، فاللفظ يذكره به تذكيرا منبها مؤثرا. وكذلك لفظ (يعزب) الدال على الخفاء والبعد معا، فكأنه يقول: إن شأنه أن يبعد ويخفي عليكم من أعمالكم لا يغيب عن علم ربكم، فإنه لا يعزب عنه.
{مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} أي أقل شيء يبلغ وزنه ثقل ذرة، وهي النملة الصغيرة يضرب بها المثل في الصغر والخفة، ويطلق على الدقيقة من الهباء والغبار الذي لا يرى إلا في ضوء الشمس الداخل من الكوى إلى البيوت.
{فِي الأَرْضِ ولاَ فِي السَّمَاء} أي في الوجود سفليه وعلويه، وقد ذكر الأرض لأن الكلام مع أهلها، وأخره في آية سبأ (34: 3) وقدم السماء لأنها في سياق ثنائه تعالى على نفسه، ووصفه بإحاطة علمه، فناسب تقديم السماء لأنها أعظم، فإن فيها من الشموس وعوالمها ما يبعد بعضه عن بعض مسافة ألوف الألوف من السنين التي تقدر أبعادها بسرعة النور، كما ثبت في علم هذا العصر.
{ولاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أَكْبَر} هذا كلام مستقل بنفسه قائم برأسه، مؤكد لما قبله بتعبير أدق وأشمل، و (لا) نافية للجنس على قراءة الجمهور، أي ولا شيء أصغر من الذَرة، وهو ما لا تبصرونه من دقائق الكون كما قال: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون} [الحاقة: 38، 39]، ولا أكبر منها وإن عظم مقداره كعرشه عز وجل، وقرأ حمزة ويعقوب أصغر بالرفع على الابتداء والخبر، ولا يخفى توجيهه في الإعراب على أهله. قدم ذكر الأصغر لأنه هو الأهم في سياق العلم بالخفي، وعطف عليه الأكبر لإفادة الإحاطة، وكون الأكبر لا يكبر عليه، كما أن الأصغر لا يعزب عنه.
{إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي إلا وهو معلوم ومحصى عنده، ومرقوم في كتاب عظيم الشأن تام البيان، وهو الكتاب الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها إكمالا للنظام، وقد بينا ما ورد في هذا الكتاب المبين في تفسير {وعنده مفاتح الغيب} [الأنعام: 59] الآية من سورة الأنعام فراجعه في الجزء السادس من هذا التفسير.
وفي الآية إشارة إلى ما في الوجود من أشياء لا تدركها الأبصار، وقد رئي كثير منها في هذا العصر بالآلات التي تكبر المرئيات أضعافا كثيرة، ولم يكن هذا مما يخطر في البال في عصر التنزيل، فهو من دقائق تعبير القرآن، التي تظهر حكمتها للناس آنا بعد آنا، وتقدم التذكير بما لها من الأمثال التي هي من أنواع الإعجاز.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ْ} صغير أو كبير {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ْ} أي: وقت شروعكم فيه، واستمراركم على العمل به؛ فراقبوا الله في أعمالكم، وأدوها على وجه النصيحة، والاجتهاد فيها، وإياكم، وما يكره الله تعالى، فإنه مطلع عليكم، عالم بظواهركم وبواطنكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه.. شعور مطمئن ومخيف معاً، مؤنس ومرهب معاً.. وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه، شاهدً أمره وحاضر شأنه. الله بكل عظمته، وبكل هيبته، وبكل جبروته، وبكل قوته. الله خالق هذا الكون وهو عليه هين. ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان.. الله مع هذا المخلوق البشري. الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها! إنه شعور رهيب. ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن. إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية.. إن الله معها:... إنه ليس شمول العلم وحده، ولكن شمول الرعاية، ثم شمول الرقابة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معطوفة على جملة {وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة} [يونس: 60] عطفَ غرض على غرض، لأن فصل الغرض الأول بالتذييل دليل على أن الكلام قد نقل إلى غرض آخر، وذلك الوعدُ بالثواب للرسول على ما هو قائم به من تبليغ أمر الله وتدبير شؤون المسلمين وتأييد دين الإسلام، وبالثواب للمسلمين على اتباعهم الرسول فيما دعاهم إليه. وجاء هذا الوعد بطريقة التعريض بحصول رضى الله تعالى عنهم في قوله: {إلا كنا عليكم شهوداً} لأنهم يعلمون أن عملهم وعمل النبي ما كان إلا في مرضاة الله، فهو كقوله تعالى: {الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين}. ويتضمن ذلك تنويهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم في جليل أعماله وتسلية على ما يُلاقيه من المشركين من تكذيب وأذى، لأن اطلاع الله على ذلك وعلمه بأنه في مرضاته كاف في التسلية، كقوله: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} [الطور: 48]، ولذلك توجه الخطاب ابتداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم توجه إليه وإلى من معه من المسلمين.
و {ما} الأولى و {ما} الثانية نافيتان.
والشأن: العمل المهم والحال المهم. و (في) للظرفية المجازية التي بمعنى شدة التلبس.
وضمير (منه) إما عائد إلى (شأن)، أي وما تتلو من الشَّأن قرآناً فتكون (مِن) مبينة ل (ما) الموصولة أو تكون بمعنى لام التعليل، أي تتلو من أجل الشأن قرآناً. وعَطْف {وما تتلو} من عطف الخاص على العام للاهتمام به، فإن التلاوة أهم شؤون الرسول عليه الصلاة والسلام.
وإما عائد إلى {قرآن}، أي وما تتلو من القرآن قرآناً، فتكون {منه} للتبعيض، والضمير عائد إلى مؤخر لتحصيل التشويق إليه حتى يتمكن في نفس السامع. وواو (تتلو) لام الكلمة، والفعل محتمل لضمير مفرد لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم
فيكون الكلام قد ابتدئ بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم التي منها ما هو من خواصّه كقيام الليل، وثُنِّي بما هو من شؤونه بالنسبة إلى الناس وهو تلاوة القرآن على الناس، وثُلِّث بما هو من شؤون الأمة في قوله: {ولا تعمَلون من عمل} فإنه وإن كان الخطاب فيه شاملاً للنبيء صلى الله عليه وسلم إلا أن تقديم ذكر شأن في أول الآية يخصص عموم الخطاب في قوله: {تَعملون} فلا يبقى مراداً منه إلا ما يعمله بقية المسلمين.
ووقع النفي مرتين بحرف (ما) ومرة أخرى بحرف (لا) لأن حرف (ما) أصله أن يخلص المضارع للحال، فقصد أولاً استحضار الحال العظيم من شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن قراءته القرآن، ولما نفي عمل الأمة جيء بالحرف الذي الأصل فيه تخليصه المضارع للاستقبال للتثنية من أول الكلام على استمرار ذلك في الأزمنة كلها.
ويعلم من قرينة العموم في الأفعال الثلاثة بواسطة النكرات الثلاث المتعلقة بتلك الأفعال والواقعة في سياق النفي أن ما يحصل في الحال وما يحصل في المستقبل من تلك الأفعال سواءٌ، وهذا من بديع الإيجاز والإعجاز. وكذلك الجمع بين صيغ المضارع في الأفعال المعممة {تكونُ} و {تتلو} و {تعملون} وبين صيغة الماضي في الفعل الواقع في موضع الحال منها {إلاَّ كنا} للتنبيه على أن ما حصل ويحصل وسيحصل سواء في علم الله تعالى على طريقة الاحتباس كأنه قيل: وما كنتم وتكون وهكذا، إلاَّ كنا ونكون عليكم شهودا.
و {من عمل} مفعول {تعملون} فهو مصدر بمعنى المفعول وأدخلت عليه (من) للتنصيص على التعميم ليشمل العمل الجليل والحقير والخير والشر.
والاستثناء في قوله: {إلاَّ كنا عليكم شهوداً} استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الشأن وعموم التلاوة وعموم العَمل، أي إلا في حالة علمْنا بذلك، فجملة {كنا عليكم} في موضع الحال. ووجود حرف الاستثناء أغنى عن اتصال جملة الحال بحرف (قد) لأن الربط ظاهر بالاستثناء.
والشهود: جمع شاهد. وأخبر بصيغة الجمع عن الواحد وهو الله تعالى تبعاً لضمير الجمع المستعمل للتعظيم، ومثله قوله تعالى: {إنا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104]...
والشاهد: الحاضر، وأطلق على العالم بطريقة المجاز المرسل ولذلك عدي بحرف (على).
والإفاضة في العمل: الاندفاع فيه، أي الشروع في العمل بقوة واهتمام، وهذه المادة مؤذنة بأن المراد أعمالهم في مرضاة الله ومصابرتهم على أذى المشركين. وخصت هذه الحالة وهذا الزمان بالذكر بعد تعميم الأعمال اهتماماً بهذا النوع فهو كذكر الخاص بعد العام، كأنه قيل: ولا تعملون من عملٍ مَّا وعملٍ عظيمٍ تفيضون فيه إلا كنا عليكم شهوداً حين تعملونه وحين تفيضون فيه.
وجملة: {وما يعزب عن ربك} الخ عطف على جملة: {وما تكون في شأن}، وهي بمنزلة التذييل لما فيها من زيادة التعميم في تعلق علم الله تعالى بجميع الموجودات بعد الكلام على تعلقه بعمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
والعزوب: البعد، وهو مجاز هنا للخفاء وفواتِ العلم، لأن الخفاء لازم للشيء البعيد، ولذلك علق باسم الذات دون صفة العلم فقال: {عن ربك}.
وقرأ الجمهور {يعزب} بضم الزاي، وقرأه الكسائي بكسر الزاي وهما وجهان في مضارع (عزب).
و (من) في قوله: {من مثقال ذرة} مزيدة لتأكيد عموم النفي الذي في {ما يعزب}.
والمِثقال: اسم آلة لما يعرف به مقدار ثِقَل الشيء فهو وزن مِفعال من ثَقُل، وهو اسم لصنج مقدر بقدر معين يوزن به الثقل.
والذرة: النملة الصغيرة، ويطلق على الهباءة التي ترى في ضوء الشمس كغبارٍ دقيق جداً، والظاهر أن المراد في الآية الأولُ. وذُكرت الذرة مبالغة في الصغر والدقة للكناية بذلك عن إحاطة العلم بكل شيء فإن مَا هو أعظم من الذرة يكون أولى بالحكم.
والمراد بالأرض والسماء هنا العالم السفلي والعالم العلوي. والمقصود تعميم الجهات والأبعاد بأخصر عبارة. وتقديم الأرض هنا لأن ما فيها أعلق بالغرض الذي فيه الكلام وهو أعمال الناس فإنهم من أهل الأرض بخلاف ما في سورة [سبأ: 3] {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض} فإنه لما كان المقام لذكر علم الغيب والغيب ما غاب عن الناس ومعظمه في السماء لاءم ذلك أن قدمت السماء على الأرض.
وعطف {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} على {ذرة} تصريحاً بما كني عنه بمثقال ذرة من جميع الأجرام.
و {أصغر} بالفتح في قراءة الجمهور ممنوعاً من الصرف لأنه معطوف على {ذرة} المجرور على أنَّ {لا} مقحمة لتأكيد النفي. وجوز أن يكون العطف عطف جملة وتكون {لا} نافية للجنس {وأصغر} اسمها مبنياً على الفتح فيكون ابتداء كلام.
وقرأ حمزة وخلف ويعقوب {ولا أصغرُ ولا أكبرُ} برفعهما باعتبار عطف {أصغر} على محل {مثقال} لأنه فاعل {يعزب} في المعنى، وكسرته كسرة جر الحرف الزائد وهو وجه من فصيح الاستعمال، أو باعتبار عطف الجملة على الجملة وتكون {لا} نافية عاملة عمل ليس و {أصغر} اسمها.
والاستثناء على الوجهين الأوَّلين من قراءتي نصب {أصغرَ} ورفعه استثناء منقطع بمعنى (لكن)، أي لا يعزب ذلك ولكنه حاضر في كتاب، وجوز أن يكون استثناء متصلاً من عموم أحوال عزوب مثقال الذرة وأصغرَ منها وأكبر. وتأويله أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده. والمعنى لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في حال كونه في كتاب مُبين، أي إلا معلوماً مكتوباً ويعلم السامع أن المكتوب في كتاب مبين لا يمكن أن يعزب، فيكون انتفاء عزوبه حاصلاً بطريق برهاني.
والمجرور على هذا كله في محل الحال، وعلى الوجهين الأخيرين من القراءتين يكون الاستثناء متصلاً والمجرور ظرفاً مستقلاً في محل خبر (لا) النافية فهو في محل رفع أو في محل نصب، أي لا يوجد أصغر من الذرة ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله تعالى: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59].
والكتاب: علم الله، استعير له الكتاب لأنه ثابت لا يخالف الحق بزيادة ولا نقصان. ومبين: اسم فاعل من أبان بمعنى بان، أي واضح بيّن لا احتمال فيه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أكّدت الآية الأخيرة حين الإِشارة إِلى سعة علم الله على ثلاث مسائل وقالت: إِنّك لا تكون في حالة نفسية معينة، ولا تتلو أية آية، ولا تقوم بأي عمل إِلاّ ونحن شاهدون عليك وناظرون إِليك. إِنّ هذه التعبيرات الثلاثة إِشارة إِلى أفكار وأقوال وأعمال البشر، أي إِنّ الله تعالى كما ينظر إِلى أعمالنا، فإِنّه يسمع كلامنا، وهو مطلع على أفكارنا ونيّاتنا، ولا يخرج عن إِحاطة علم الله شيء منها. ولا شك أنّ النية والحالات الروحية تقع في المرحلة الأُولى، والقول يأتي بعدها، ثمّ يتبعهما العمل والتنفيذ، ولهذا قد ورد نفس الترتيب في الآية.