32- الذين يجتنبون ما يكبر عقابه من الذنوب وما يعظم قبحه منها ، لكن الصغائر من الذنوب يعفو الله عنها ، إن ربك عظيم المغفرة ، هو أعلم بأحوالكم ، إذ خلقكم من الأرض ، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم في أطواركم المختلفة ، فلا تصفوا أنفسكم بالتزكي مدحاً وتفاخراً ، هو أعلم بمن اتقى ، فزكت نفسه حقيقة بتقواه .
ثم وصفهم فقال قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } اختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : هذا استثناء صحيح ، واللمم من الكبائر والفواحش ، ومعنى الآية ، إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب ، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد ، والحسن ، ورواية عطاء عن ابن عباس . قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك . وقال السدي قال أبو صالح : سئلت عن قول الله تعالى : إلا اللمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : لقد أعانك ملك كريم . وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله : إلا اللمم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما " . وأصل اللمم والإلمام : ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له إعادة ، ولا إقامة . وقال آخرون : هذا استثناء منقطع ، مجازه : من الكبائر والفواحش ، ثم اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به ، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا ؟ فأنزل الله هذه الآية . وهذا قول زيد بن أسلم ، وقال بعضهم : هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، ومسروق ، والشعبي ، ورواية طاوس عن ابن عباس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمود بن غيلان ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه ( باللمم ) مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أويكذبه " . ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزاد : " والعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطأ " .
وقال الكلبي : اللمم على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش ، والوجه الآخر هو : الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه . وقال سعيد بن المسيب : هو ما لم على القلب يعني خطر . وقال الحسين بن الفضل : اللمم النظر من غير تعمد ، فهو مغفور ، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب . { إن ربك واسع المغفرة } قال ابن عباس : لمن فعل ذلك وتاب ، تم الكلام ها هنا ، ثم قال : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } يعني خلق أباكم آدم من التراب ، { وإذ أنتم أجنة } جمع جنين ، سمي جنيناً لاجتنانه في البطن ، { في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم } قال ابن عباس : لا تمدحوها . قال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة ، فلا تزكوا أنفسكم ، لا تبرئوها عن الآثام ، ولا تمدحوها بحسن أعمالها . قال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، وجهادنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { هو أعلم بمن اتقى } أي : بر وأطاع وأخلص العمل لله تعالى .
ثم ذكر وصفهم فقال : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } أي : يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات ، التي يكون تركها من كبائر الذنوب ، ويتركون المحرمات الكبار ، كالزنا ، وشرب الخمر ، وأكل الربا ، والقتل ، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة ، { إِلَّا اللَّمَمَ } وهي الذنوب الصغار ، التي لا يصر صاحبها عليها ، أو التي يلم بها العبد ، المرة بعد المرة ، على وجه الندرة والقلة ، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين ، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات ، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء ، ولهذا قال : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد ، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض ، ولما ترك على ظهرها من دابة . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر " [ وقوله : ] { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } أي : هو تعالى أعلم بأحوالكم كلها ، وما جبلكم عليه ، من الضعف والخور ، عن كثير مما أمركم الله به ، ومن كثرة الدواعي إلى بعض{[902]} المحرمات ، وكثرة الجواذب إليها ، وعدم الموانع القوية ، والضعف موجود مشاهد منكم حين أنشاكم{[903]} الله من الأرض ، وإذ كنتم في بطون أمهاتكم ، ولم يزل موجودا فيكم ، وإن كان الله تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به ، ولكن الضعف لم يزل ، فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه ، ناسبت الحكمة الإلهية والجود الرباني ، أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه ، ويغمركم بإحسانه ، ويزيل عنكم الجرائم والمآثم ، خصوصا إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في جميع الأوقات ، وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر الآنات ، وفراره من الذنوب التي يتمقت بها عند مولاه ، ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة ، فإن الله تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين{[904]} أرحم بعباده من الوالدة بولدها ، فلا بد لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريبا وأن يكون الله له في جميع أحواله مجيبا ، ولهذا قال تعالى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي : تخبرون الناس بطهارتها على وجه التمدح{[905]} .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ فإن التقوى ، محلها القلب ، والله هو المطلع عليه ، المجازي على ما فيه من بر وتقوى ، وأما الناس ، فلا يغنون عنكم من الله شيئا ] .
وقوله : { الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم . . } صفة لقوله : { الذين أَحْسَنُواْ } أو بدل منه .
والمراد بكبائر الإثم : الآثام الكبيرة ، والجرائم الشديدة ، التى يعظم العقاب عليها . كقتل النفس بغير حق ، وأكل أموال الناس بالباطل .
والفواحش : جمع فاحشة ، وهى ما قبح من الأقوال والأفعال كالزنا ، وشرب الخمر . .
وعطفها على كبائر الإثم من باب عطف الخاص على العام ، لأنها أخص من الكبائر ، وأشد إثما .
واللم : ما صغر من الذنوب ، وأصله : ما قل قدره من كل شىء : يقال : ألم فلان بالمكان ، إذا قل مكثه فيه . وألم بالطعام : إذا قل أكله منه . . . وقيل : اللمم ، مقاربة الذنب دون الوقوع فيه ، من قولهم : ألم فلان بالشىء ، إذا قاربه ولم يخالطه .
وجمهور العلماء على أن الاستثناء هنا منقطع ، وأن اللمم هو الذنوب الصغيرة ، كالنظرة الخائنة ولكن بدون مداومة ، والإكثار من الممازحة .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " واللمم " : صغائر الذنوب ، ومحقرات الأعمال ، وهذا استثناء منقطع .
قال الإمام أحمد : عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم ، مما قال أبو هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .
وعن مجاهد أنه قال فى هذه الآية { إِلاَّ اللمم } الذى يلم بالذنب ثم يدعه ، كما قال الشاعر :
إن تغفر اللهم تغفر جما . . . وأى عبد لك ما ألما
ومن العلماء من يرى أن الاستثناء هنا متصل ، وأن المراد باللمم ارتكاب شىء من الفواحش ، ثم التوبة منها توبة صادقة نصوحا . .
فعن الحسن أنه قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن العلماء قسموا الذنوب إلى كبائر وصغائر ، وأن اللمم من النوع الثانى الذى لا يدخل تحت كبائر الإثم والفواحش .
قال صاحب الكشاف : واللمم : ما قل وصغر . . . والمراد به الصغائر من الذنوب ، ولا يخلو قوله - تعالى - { إِلاَّ اللمم } فتح الباب لارتكاب صغائر الذنوب ، وإنما المقصود فتح باب التوبة ، والحض على المبادرة بها ، حتى لا ييأس مرتكب الصغائر من رحمة الله - تعالى - وحتى لا يمضى قدما في ارتكاب هذه الصغائر ، إذ من المعروف أن ارتكاب الصغائر ، قد يجر إلى ارتكاب الكبائر .
كذلك من المقصود بهذا الاستثناء أن لا يعامل مرتكب الصغائر ، معاملة مرتكب الكبائر .
هذا ، وقد أفاض الإمام الألوسى فى الحديث عن الكبائر والصغائر ، فقال : والاية عند الأكثرين دليل على أن المعاصى منها الكبائر ، ومنها الصغائر . . .
وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام ، وقالوا : سائر المعاصى كبائر .
ثم قال : واختلف القائلون بالفرق بين الكبائر والصغائر فى حد الكبيرة فقيل : هى كل ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد ، بنص كتاب أو سنة . . .
وقيل : كل جرمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، ورقة الديانة .
واعتمد الواحدى أنه لا حد لها يحصرها ويعرفها العباد به ، وقد أخفى الله - تعالى - أمرها ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه ، رجاء أن تجتنب الكبائر . .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة . . } تعليل لاستثناء اللمم ، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ، ليس لخلوه عن الذنب فى ذاته ، بل لسعة رحمة الله ومغفرته .
أى : إن ربك - أيها الرسول الكريم - واسع المغفرة والرحمة ، لعباده الذين وقعوا فيما نهاهم عنه - سبحانه - ثم تابوا إليه توبة صادقة نصوحا .
ثم بين - سبحانه - أن هذه الرحمة الواسعة ، صادرة عن علم شامل للظواهر والبواطن ، فقال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ . . } .
والظرف " إذ " متعلق بقوله { أَعْلَمُ } والأجنة : جمع جنين ، ويطلق على ما يكون بداخل الأرحام قبل خروجه منها .
وسمى بذلك ، لأنه يكون مستترا فى داخل الرحم ، كما قال - تعالى - : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ . . . } أى : هو - سبحانه - أعلم بكم من وقت إنشائه إياكم من الأرض ، ضمن خلقه لأبيكم آدم ، ومن وقت أن كنتم أجنة فى بطون أمهاتكم ، يعلم أطواركم فيها ، ويرعاكم برحمته ، إلى أن تنفصلوا عنها .
وقال - سبحانه - { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } مع أن الجنين لا يكون إلى فى بطن أمه ، للتذكير برعايته - تعالى - لهم ، وهم فى تلك الأطوار المختلفة من وقت العلوق إلى حين الولادة ، وللحض على مداومة شكره وطاعته .
وقوله - تعالى - : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } تحذير من التفاخر بالأعمال والأحساب والأنساب ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شىء من أحوال الناس ، والفاء للتفريع على ما تقدم . أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من عدم مؤاخذتى إياكم على اللمم ، فإن ذلك بسبب سعة رحمتى ، فلا تمدحوا أنفسكم بأنكم فعلتم كذا وكذا من الأفعال الحسنة ، بل اشكرونى على سعة رحمتى ومغفرتى ، فإنى أنا العليم بسائر أحوالكم ، الخبير بالظواهر والبواطن للأتقياء والأشقياء .
قالوا : والآية نزلت فى قوم من المؤمنين ، كانوا يعملون أعمالا حسنة ، ثم يتفاخرون بها .
قال صاحب الكشاف : قوله : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ . . } أى فلا تنسبوها إلى زكاء العمل ، وزيادة الخير . وعمل الطاعات ، أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصى ، ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكى منكم والتقى أولا وآخرا ، قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم .
وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء ، فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح ، من الله وبتوفيقه وتأييده . ولم يقصد به التمدح ، لم يكن من المزكين لأنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر لله - تعالى - .
وقال الآلوسى : والمراد النهى عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو التزكية على سبيل القطع ، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه - كالإخبار عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة فهى جائزة .
ثم يحدد الذين أحسنوا هؤلاء ، والذين يجزيهم بالحسنى . . فهم :
( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . إلا اللمم ) . .
وكبائر الإثم هي كبار المعاصي . والفواحش كل ما عظم من الذنب وفحش . واللمم تختلف الأقوال فيه . فابن كثير يقول : وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغار الذنوب ومحقرات الأعمال . قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إن الله تعالى إذا كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة . فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن ثور ، حدثنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال : زنا العين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي . ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه . فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم . وكذا قال مسروق والشعبي .
وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي ، قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : إلا اللمم قال : القبلة والنظرة والغمزة والمباشرة . فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل . وهو الزنا .
فهذه أقوال متقاربة في تعريف اللمم .
قال علي بن طلحة عن ابن عباس : إلا اللمم إلا ما سلف . وكذا قال زيد بن أسلم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن منصور ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الآية : إلا اللمم قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه .
وقال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار : حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) . . قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب . وقال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ?
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل . ثم قال : هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق . وكذا قال البزار لا نعلمه يروى متصلا إلا من هذا الوجه .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيع . حدثنا يزيد بن زريع . حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - [ اراه رفعه ] في ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) . قال : اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود . واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود . واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود . قال : فذلك الإلمام . .
وروي مثل هذا موقوفا على الحسن .
فهذه طائفة أخرى من الأقوال تحدد معنى اللمم تحديدا غير الأول .
والذي نراه أن هذا القول الأخير أكثر تناسبا مع قوله تعالى بعد ذلك : ( إن ربك واسع المغفرة ) . . فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش ، ثم التوبة . ويكون الاستثناء غير منقطع . ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . إلا أن يقعوا في شيء منها ثم يعودوا سريعا ولا يلجوا ولا يصروا . كما قال الله سبحانه : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . . وسمى هؤلاء [ المتقين ] ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض . . فهذا هو الأقرب إلى رحمة الله ومغفرته الواسعة .
وختم الآية بأن هذا الجزاء بالسوءى وبالحسنى مستند إلى علم الله بحقيقة دخائل الناس في أطوارهم كلها .
( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ) . .
فهو العلم السابق على ظاهر أعمالهم . العلم المتعلق بحقيقتهم الثابتة ، التي لا يعلمونها هم ، ولا يعرفها إلا الذي خلقهم . علم كان وهو ينشيء أصلهم من الأرض وهم بعد في عالم الغيب . وكان وهم أجنة في بطون أمهاتهم لم يروا النور بعد . علم بالحقيقة قبل الظاهر . وبالطبيعة قبل العمل .
ومن كانت هذه طبيعة علمه يكون من اللغو - بل من سوء الأدب - أن يعرفه إنسان بنفسه ، وأن يعلمه - سبحانه - بحقيقته ! وأن يثني على نفسه أمامه يقول له : أنا كذا وأنا كذا :
( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) . .
فما هو بحاجة إلى أن تدلوه على أنفسكم ، ولا أن تزنوا له أعمالكم ؛ فعنده العلم الكامل . وعنده الميزان الدقيق . وجزاؤه العدل . وقوله الفصل . وإليه يرجع الأمر كله .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاّ اللّمَمَ إِنّ رَبّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنّةٌ فِي بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكّوَاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إنّ رَبّكَ يا محمد وَاسِعُ المَغْفِرَةِ : واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم . وإنما أعلم جلّ ثناؤه بقوله هذا عباده أنه يغفر اللمم بما وصفنا من الذنوب لمن اجتنب كبائر الإثم والفواحش . كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ رَبّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ قد غفر ذلك لهم .
وقوله : هُوَ أعْلَمُ بِكُمْ إذْ أنشأَكُمْ مِنَ الأرْضِ يقول تعالى ذكره : ربكم أعلم بالمؤمن منكم من الكافر ، والمحسن منكم من المسيء ، والمطيع من العاصي ، حين ابتدعكم من الأرض ، فأحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها ، وحين أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ، يقول : وحين أنتم حمل لم تولدوا منكم ، وأنفسكم بعدما ، صرتم رجالاً ونساء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأول . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إذْ أنْشأَكُمْ مِنَ الأرْضِ قال : كنحو قوله : وَهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إذْ أَنْشأَكُمْ مِنَ الأرْضِ قال : حين خلق آدم من الأرض ثم خلقكم من آدم ، وقرأ وَإذْ أنْتُمْ أجِنّةٌ فِي بُطُونِ أُمّهاتِكُمْ .
وقد بيّنا فيما مضى قبل معنى الجنين ، ولِمَ قيل له جنين ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : فَلا تُزَكّوا أنْفُسَكُمْ يقول جل ثناؤه : فلا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصيّ . كما :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قال : سمعت زيد بن أسلم يقول فَلا تُزكّوا أنْفُسَكُمْ يقول : فلا تبرئوها .
وقوله : هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَى يقول جلّ ثناؤه : ربك يا محمد أعلم بمن خاف عقوبة الله فاجتنب معاصيه من عباده .
قوله : { الذين } نعت ل { الذين } [ النجم : 31 ] المتقدم قبله ، و : { يجتنبون } معناه : يدعون جانباً . وقرأ جمهور القراء والناس : «كبائر الإثم » وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى وحمزة والكسائي : «كبير الإثم » على الإفراد الذي يراد به الجمع وهذا كقوله : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم }{[10710]} [ الشعراء : 100 ] ، وكقوله : { وحسن أولئك رفيقاً }{[10711]} [ النساء : 69 ] ونحو هذا .
واختلف الناس في الكبائر ما هي ؟ فذهب الجمهور إلى أنها السبع الموبقات التي وردت في الأحاديث وقد مضى القول في ذكرها واختلاف الأحاديث فيها في سورة النساء . وتحرير القول في الكبائر أنها كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا ، أو توعد بنار في الآخرة ، أو لعنة ونحو هذا خاصاً بها فهي كثيرة العدد ، ولهذا قال ابن عباس حين قيل له أسبع هي ؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع . وقال زيد بن أسلم : «كبير الإثم » هنا يراد به : الكفر . و { الفواحش } هي المعاصي المذكورة .
وقوله : { إلا اللمم } هو استثناء يصح أن يكون متصلاً ، وإن قدرته منقطعاً ساغ ذلك ، واختلف في معنى { اللمم } فقال ابن عباس وابن زيد معناه : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام . قال الثعلبي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : إن سبب الآية أن الكفار قالوا للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت الآية وهي مثل قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف }{[10712]} [ النساء : 23 ] وقال ابن عباس وغيره : ما ألموا من المعاصي الفلتة والسقطة دون دوام ثم يتوبون منه ، ذكر الطبري عن الحسن أنه قال في اللمة : من الزنا والسرقة والخمر ثم لا يعود .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كالذي قبله ، فكأن هذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى ، إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي ، وعلى هذا أنشدوا وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم : [ الرجز ]
إن تغفر اللهم تغفر جما*** وأي عبد لك لا ألما{[10713]}
وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي وغيرهم : { اللمم } صغار الذنوب التي بين الحدين الدنيا والآخرة وهي ما لا حد فيه ولا وعيد مختصاً بها مذكوراً لها ، وإنما يقال صغار بالإضافة إلى غيرها ، وإلا فهي بالإضافة إلى الناهي عنها كبائر كلها ، ويعضد هذا القول ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا لا محالة ، فزنى العين : النظر ، وزنى اللسان : المنطق ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فإن تقدم فرجه فهو زان ، وإلا فهو اللمم »{[10714]} وروي أن هذه الآية نزلت في نبهان التمار{[10715]} فالناس لا يتخلصون من مواقعة هذه الصغائر ولهم مع ذلك الحسنى إذا اجتنبوا التي هي في نفسها كبائر .
وتظاهر العلماء في هذا القول ، وكثر المائل إليه . وذكر الطبري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال : { اللمم } ما دون الشرك ، وهذا عندي لا يصح عن عبد الله بن عمرو . وذكر المهدوي عن ابن عباس والشعبي : { اللمم } ما دون الزنا . وقال نفطويه : { اللمم } ما ليس بمعتاد . وقال الرماني : { اللمم } الهم بالذنب وحديث النفس به دون أن يواقع . وحكى الثعلبي عن سعيد بن المسيب : أنه ما خطر على القلب ، وذلك هو لمة الشيطان . قال الزهراوي وقيل : { اللمم } نظرة الفجأة ، وقاله الحسين بن الفضل . ثم أنس تعالى بعد هذا بقوله : { إن ربك واسع المغفرة } .
وقوله تعالى : { هو أعلم بكم } الآية ، روي عن عائشة أنها نزلت بسبب قوم من اليهود كانوا يعظمون أنفسهم ويقولون للطفل إذا مات لهم هذا صديق عند الله ، ونحو هذا من الأقاويل المتوهمة ، فنزلت الآية فيهم{[10716]} ، ثم هي بالمعنى عامة جميع البشر ، وحكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، وقوله : { أعلم بكم } قال مكي بن أبي طالب في المشكل معناه : هو عالم بكم . وقال جمهور أهل المعاني : بل هو التفضيل بالإطلاق ، أي هو أعلم من الموجودين جملة ، والعامل في { إذ } { أعلم } ، وقال بعض النحاة العامل فيه فعل مضمر تقديره : اذكروا إذ ، والمعنى الأول أبين ، لأن تقديره : فإذا كان علمه قد أحاط بكم وأنتم في هذه الأحوال فأحرى أن يقع بكم وأنتم تعقلون وتجترحون ، والإنشاء من الأرض : يراد به خلق آدم عليه السلام ، ويحتمل أن يراد به إنشاء الغذاء . و : { أجنة } جمع جنين .
وقوله : { فلا تزكوا أنفسكم } ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه ، ويحتمل أن يكون نهياً عن أن يزكي بعض الناس بعضاً وإذا كان هذا فإنما ينهى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا والقطع بالتزكية ، ومن ذلك الحديث في عثمان بن مظعون عند موته{[10717]} . وأما تزكية الإمام والقدرة أحداً ليؤتم به أوليتهم الناس بالخير فجائز ، وقد زكى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أبا بكر وغيره ، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة للضرورة إليها ، وأصل التزكية إنما هو التقوى ، والله تعالى هو أعلم بتقوى الناس منكم .
{ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ، إن ربك واسع المغفرة }
وقوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم } الخ صفة ل { الذين أحسنوا } ، أي الذين أحسنوا واجتنبوا كبائر الإِثم والفواحش ، أي فعلوا الحسنات واجتنبوا المنهيات ، وذلك جامع التقوى . وهذا تنبيه على أن اجتناب ما ذكر يعُدّ من الإِحسان لأن فعل السيئات يُنافي وصفهم بالذين أحسنوا فإنهم إذا أتوا بالحسنات كلها ولم يتركوا السيئات كان فعلهم السيئات غير إحسان ولو تركوا السيئات وتركوا الحسنات كان تركهم الحسنات سيئات .
وقرأ الجمهور { كبائر الإثم } بصيغة جمع { كبيرة } . وقرأ حمزة والكسائي { كبيرَ الإِثم } بصيغة الإِفراد والتذكير لأن اسم الجنس يستوي فيه المفرد والجمع .
والمراد بكبائر الإِثم : الآثام الكبيرة فيما شرع الله وهي ما شدد الدين التحذير منه أو ذكر له وعيداً بالعذاب أو وصف على فاعله حداً .
قال إمام الحرمين : « الكبائر كل جريمة تؤذن بقلة اكتراثثِ مرتكبها بالدين وبرقة ديانته » .
وعطف الفواحش يقتضي أن المعطوف بها مغاير للكبائر ولكنها مغايرة بالعموم والخصوص الوجهي ، فالفواحش أخص من الكبائر وهي أقوى إثماً .
والفواحش : الفعلات التي يعد الذي فعلها متجاوزاً الكبائر مثل الزنى والسرقة وقتل الغيلة ، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } [ الأعراف : 33 ] الآية وفي سورة النساء { 31 } في قوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } واستثناء اللمم استثناء منقطع لأن اللمم ليس من كبائر الإِثم ولا من الفواحش .
فالاستثناء بمعنى الاستدراك . ووجهه أن ما سمي باللمم ضرب من المعاصي المحذر منها في الدين ، فقد يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر الإِثم فلذلك حق الاستدراك ، وفائدة هذا الاستدراك عامة وخاصة : أما العامة فلكي لا يعامِل المسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر ، وأما الخاصة فرحمة بالمسلمين الذين قد يرتكبونها فلا يَقُل ارتكابها من نشاط طاعة المسلم ، ولينصرف اهتمامه إلى تجنب الكبائر . فهذا الاستدراك بشارة لهم ، وليس المعنى أن الله رخص في إتيان اللمم . وقد أخطأ وضاح اليَمن في قوله الناشىء عن سوء فهمه في كتاب الله وتطفله في غير صناعته :
فما نوَّلَتْ حتى تضرعتُ عندها *** وأنبأتُها ما رَخَّص الله في اللَّمم
واللمم : الفعل الحرام الذي هو دون الكبائر والفواحش في تشديد التحريم ، وهو ما يندر ترك الناس له فيكتفى منهم بعدم الإكثار من ارتكابه . وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع الآخر بالكبائر .
فمثلوا اللمم في الشهوات المحرمة بالقبلة والغمزة . سمي : اللمم ، وهو اسم مصدر أَلمَّ بالمكان إلماماً إذا حلّ به ولم يُطل المكث ، ومن أبيات الكتاب :
قريشي منكمُ وَهَوَايَ مَعْكُم *** وإن كانت زيارتكم لِمامَا
وقد قيل إن هذه الآية نزلت في رجل يسمى نَبْهان التَمَّار كان له دُكان يبيع فيه تمراً { أي بالمدينة } فجاءته امرأة تشتري تمراً فقال لها : إنّ داخل الدُكان ما هو خير من هذا ، فلما دخلت راودها على نفسها فأبت فندم فأتى النبي وقال : ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته { أي غصباً عليها } إلا الجماع ، فنزلت هذه الآية ، أي فتكون هذه الآية مدنية أُلحقت بسورة النجم المكية كما تقدم في أول السورة .
والمعنى : أن الله تجاوز له لأجل توبته . ومن المفسرين من فسر اللَّمم بِالهَمّ بالسيئة ولا يفعل فهو إلمام مجازي .
وقوله : إن ربك واسع المغفرة } تعليل لاستثناء اللمم من اجتنابهم كبائر الإِثم والفواحش شرطاً في ثبوت وصف { الذين أحسنوا } لهم .
وفي بناء الخبر على جعل المسند إليه { ربك } دون الاسم العلم إشعار بأن سعة المغفرة رفق بعباده الصالحين شأن الرب مع مربوبه الحق .
وفي إضافة { رب } إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم دون ضمير الجماعة إيماء إلى أن هذه العناية بالمحسنين من أمته قد حصلت لهم ببركته .
والواسع : الكثير المغفرة ، استعيرت السعة لكثرة الشمول لأن المكان الواسع يمكن أن يحتوي على العدد الكثير ممن يحلّ فيه قال تعالى : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } وتقدم في سورة غافر { 7 } .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أمهاتكم فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى } .
الخطاب للمؤمنين ، ووقوعه عقب قوله : { ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } ينبىء عن اتصال معناه بمعنى ذلك فهو غير مُوجه لليهود كما في « أسباب النزول » للواحدي وغيره . وأصله لعبد الله بن لهيعة عن ثابت بن حارث الأنصاري . قال : " كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير يقولون : هو صدِّيق ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كذبت يهود ، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد " فأنزل الله هذه الآية . وعبد الله بن لهيعة ضَعفه ابن معين وتَركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي . وقال الذهبي : العَمل على تضعيفه ، قلت : لعل أحد رواة هذا الحديث لم يضبط فقال : فأنزل الله هذه الآية ، وإنما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذاً بعموم قوله : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } الخ ، حجة عليهم ، وإلاّ فإن السورة مكية والخوض مع اليهود إنما كان بالمدينة .
وقال ابن عطية : حكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم .
وكأنَّ الباعث على تطلب سبب لنزولها قصد إبداء وجه اتصال قوله : { فلا تزكوا أنفسكم } بما قبله وما بعده وأنه استيفاء لمعنى سعة المغفرة ببيان سعة الرحمة واللطف بعباده إذْ سلك بهم مسلك اليسر والتخفيف فعفا عمّا لو آخذهم به لأحرجهم فقوله : { هو أعلم بكم } نظير قوله : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً } [ الأنفال : 66 ] الآية ثم يجيء الكلام في التفريع بقوله : { فلا تزكوا أنفسكم } .
فينبغي أن تحل جملة { هو أعلم بكم } إلى آخرها استئنافاً بيانياً لجملة { إن ربك واسع المغفرة } لما تضمنته جملة { إن ربك واسع المغفرة } من الامتنان ، فكأن السامعين لما سمعوا ذلك الامتنان شكروا الله وهجس في نفوسهم خاطر البحث عن سبب هذه الرحمة بهم فأجيبوا بأن ربهم أعلم بحالهم من أنفسهم فهو يدبر لهم ما لا يخطر ببالهم ، ونظيره ما في الحديث القدسي قال الله تعالى : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر خيراً من بَلْه ما أطَّلَعتم عليه " . وقوله : { إذ أنشأكم } ظرف متعلق ب { أعلم } ، أي هو أعلم بالناس من وقت إنشائه إياهم من الأرض وهو وقت خلق أصلهم آدم .
والمعنى : أن إنشاءهم من الأرض يستلزم ضعف قدرهم عن تحمل المشاق مع تفاوت أطوار نشأة بني آدم ، فالله علم ذلك وعلم أن آخر الأمم وهي أمة النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الأمم . وهذا المعنى هو الذي جاء في حديث الإِسراء من قول موسى لمحمد عليهما الصلاة والسلام حين فرض الله على أمته خمسين صلاة « إن أمتك لا تطيق ذلك وإني جربت بني إسرائيل » أي وهم أشد من أمتك قوة ، فالمعنى أن الضعف المقتضي لسعة التجاوز بالمغفرة مقرر في علم الله من حين إنشاء آدم من الأرض بالضعف الملازم لجنس البشر على تفاوت فيه قال تعالى : { وخلق الإِنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] ، فإن إنشاء أصل الإِنسان من الأرض وهي عنصر ضعيف يقتضي ملازمة الضعف لجميع الأفراد المنحدرة من ذلك الأصل . ومنه قوله النبي : " إن المرأة خُلقت من ضِلَع أعوج " . وقوله : { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } يختص بسعة المغفرة والرفق بهذه الأمة وهو متقضى قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] .
والأجنة : جمع جنين ، وهو نسل الحيوان ما دام في الرحم ، وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مستور في ظلمات ثلاث .
وفي { بطون أمهاتكم } صفة كاشفة إذ الجنين لا يقال إلا على ما في بطن أمه . وفائدة هذا الكشف أن فيه تذكيراً باختلاف أطوار الأجنة من وقت العلوق إلى الولادة ، وإشارة إلى إحاطة علم الله تعالى بتلك الأطوار .
وجملة { فلا تزكوا أنفسكم } اعتراض بين جملة { هو أعلم بكم } وجملة
{ أفرأيت الذي تولى } [ النجم : 33 ] الخ ، والفاء لتفريع الاعتراض ، وهو تحذير للمؤمنين من العُجب بأعمالهم الحسنة عجباً يحدثه المرء في نفسه أو يدخله أحدٌ على غيره بالثناء عليه بعمله .
و { تزكوا } مضارع زكى الذي هو من التضعيف المراد منه نسبة المفعول إلى أصل الفعل نحو جَهَّله ، أي لا تنسبوا لأنفسكم الزكاة .
فقوله : { أنفسكم } صادق بتزكية المرء نفسه في سره أو علانيته فرجع الجمع في قوله : { فلا تزكوا } إلى مقابلة الجمع بالجمع التي تقتضي التوزيع على الآحاد مثل : ركب القوم دوابهم .
والمعنى : لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أولاً تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها ، أو إظهارها للناس ، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان فيه جلب مصلحة عامة كما قال يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } [ يوسف : 55 ] . وعن الكلبي ومقاتل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ويشمل تزكية المرء غيره فيرجع { أنفسكم } إلى معنى قَومكم أو جماعتكم مثل قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي ليسلم بعضكم على بعض . والمعنى : فلا يثني بعضكم على بعض بالصلاح والطاعة لئلا يغيرُه ذلك .
وقد ورد النهي في أحاديث عن تزكية الناس بأعمالهم . ومنه حديث أم عطية حين مات عثمان بن مظعون في بيتها ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم عطية : « رحمةُ الله عليك أبا السائب { كنية عثمان بن مظعون } فشهادتي عليك لقد أكرمكَ الله فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يُدريك أن الله أكرمه ، فقالت : إذا لم يُكرمه الله فمنْ يكرمهُ الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسولُ الله ما يُفعل بي » . قالت أم عطية : فلا أزكي أحداً بعدَ ما سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شاع من آداب عصر النبوة بين الصحابة التحرز من التزكية وكانوا يقولون إذا أثنوا على أحد لا أعلم عليه إلا خيراً ولا أزكي على الله أحداً .
وروى مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : « سميت ابنتي بَرة فقالت لي زينب بنت بن سلمة إن رسول الله نهى عن هذا الإسم ، وسُمِّيتُ برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم ، قالوا : بم نسميها ؟ قال : سموها زينب » . وقد ظهر أن النهي متوجه إلى أن يقول أحد ما يفيد زكاء النفس ، أي طهارتها وصلاحها ، تفويضاً بذلك إلى الله لأن للناس بواطن مختلفةَ الموافقةِ لظواهرهم وبين أنواعها بَون .
وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخِبرة واتهام القرائن والبوارق .
فلا يدخل في هذا النهي الإِخبارُ عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة في الشهادة والرواية وقد يعبر عن التعديل بالتزكية وهو لفظ لا يراد به مثل ما أريد من قوله تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } بل هو لفظ اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن ومرادهم منه واضح .
ووقعت جملة { هو أعلم بمن اتقى } موقع البيان لسبب النهي أو لأهمِّ أسبابه ، أي فوضوا ذلك إلى الله إذ هو أعلم بمن اتقى ، أي بحال من اتقى من كمال تقوى أو نقصها أو تزييفها . وهذا معنى ما ورد في الحديث أن يقول من يخبر عن أحد بخير : « لا أزكي على الله أحداً » أي لا أزكى أحداً معتلياً حق الله ، أي متجاوزاً قدري .