قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } الآية ، نزلت في الحث على غزوة تبوك ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم ، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس ، وشدة من الحر ، حين طابت الثمار والظلال ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وري بغيرها حتى كانت تلك الغزوة ، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ، ومفاوز هائلة ، وعدوا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم } أي : قال لكم رسول الله : " انفروا " اخرجوا في سبيل الله " اثاقلتم " أي : تثاقلتم وتبأطأتم إلى الأرض أي لزمتم أرضكم ومساكنكم ، " أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة " ، أي : بخفض الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " .
{ 38 - 39 } قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة ، نزلت في غزوة تبوك ، إذ ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى غزو الروم ، وكان الوقت حارا ، والزاد قليلا ، والمعيشة عسرة ، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل ما أوجب أن يعاتبهم اللّه تعالى عليه ويستنهضهم ، فقال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ألا تعملون بمقتضى الإيمان ، وداعي{[370]} اليقين من المبادرة لأمر اللّه ، والمسارعة إلى رضاه ، وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم ، ف { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ } أي : تكاسلتم ، وملتم إلى الأرض والدعة والسكون فيها .
{ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ } أي : ما حالكم إلا حال من رضي بالدنيا وسعى لها ولم يبال بالآخرة ، فكأنه ما آمن بها .
{ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } التي مالت بكم ، وقدمتموها على الآخرة { إِلَّا قَلِيلٌ } أفليس قد جعل اللّه لكم عقولا تَزِنُون بها الأمور ، وأيها أحق بالإيثار ؟ .
أفليست الدنيا -من أولها إلى آخرها- لا نسبة لها في الآخرة . فما مقدار عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا حتى يجعله الغاية التي لا غاية وراءها ، فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته لا يتعدى حياته الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار ، المشحونة بالأخطار .
فبأي رَأْيٍ رأيتم إيثارها على الدار الآخرة الجامعة لكل نعيم ، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وأنتم فيها خالدون ، فواللّه ما آثر الدنيا على الآخرة من وقر الإيمان في قلبه ، ولا من جزل رأيه ، ولا من عُدَّ من أولي الألباب ، ثم توعدهم على عدم النفير فقال :
وقد بدأت السورة حديثها عن عزوة تبوك بتوجيه نداء إلى المؤمنين نعت فيها على المتثاقلين عن الجهاد ، وحرضت عليه بشتى ألوان التحريض قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
قال الإِمام ابن كثير : هذا شروع في عتاب في عتاب من تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر ، وحمارة القيظ .
وتبوك : اسم لمكان معروف في أقصى بلاد الشام من ناحية الجنوب ، ويبعد عن المدينة المنور من الجهة الشمالية بحوالى ستمائة كيلو متر .
وكانت غزوة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة ، وهى آخر غزوة لرسول الله ، - صلى الله عليه وسلم - .
وكان السبب فيها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغة أن الروم قد جمعوا له جوعا كثيرة على أطارف الشام ، وأنهم يريدون أن يتجهوا إلى الجنوب لمهاجمة المدينة .
فاستنفر - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى قتال الروم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج إلى غزوة إلا ورى بغيرها حتى يبقى الأمر سراً .
ولكنه في هذه الغزوة صرح للمسلمين بوجهته وهى قتال الروم ، وذلك لبعد المسافة ، وضيق الحال ، وشدة الحر ، وكثرة العدو .
وقد لبى المؤمنون دعوة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم ، وصبروا على الشدائد ، والمتاعب وبذلوا الكثير من أموالهم ، ولم يتخلف منهم إلا القليل .
أما المنافقون وكثير من الأعراب ، فقد تخلفوا عنها ، وحرضوا غيرهم على ذلك ، وحكت السورة . في كثير من آياتها الآتية . ما كان منهم من جبن ومن تخذيل الناس عن القتال ، ومن تحريض لهم على القعود وعدم الخروج .
وبعد أن وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون إلى تبوك ، لم يجدوا جموعا للروم . فأقاموا هناك بضع عشرة ليلة ، ثم عادوا إلى المدينة .
وقوله - سبحانه - : { انفروا } من النفر وهو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لسبب من الأسباب الداعية لذلك .
يقال : نفر فلان إلى الحرب ينفر وينفر نفراً ونفوراً ، إذا خرج بسرعة ويقال : استنفر الإِمام الناس ، إذا حرضهم على الخروج للجهاد . ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإذا استنفرتم فانفروا " أى : وإذا دعاكم الإِمام إلى الخروج معه للجهاد فاخرجوا معه بدون تثاقل .
واسم القوم الذين يخرجون للجهاد : النفير والنفرة والنفر .
ويقال : نفر فلان من الشئ ، إذا فزع منه ، وأدبر عنه ، ومنه قوله - تعالى - { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } وقوله : { اثاقلتم } : من الثقل ضد الخفة . يقال : تثاقل فلان عن الشئ ، إذا تباطأ عنه ولم يهتم به . . ويقال : تثاقل القوم : إذا لم ينهضوا لنجدة المستجير بهم . وأصل { اثاقلتم } تثاقلتم ، فأبدلت التاء ثاء ثم أدغمت فيها ، ثم اجتلبت همزة الوصل من أجل التوصل للنطق بالساكن .
والمعنى : أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض } أى : ما الذي جعلكم تباطأتم عن الخروج إلى الجهاد ، حين دعاكم رسولكم - صلى الله عليه وسلم - إلى قتال الروم ، وإلى النهوض لإِعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه ؟
وقد ناداهم - سبحانه - بصفة الإِيمان ، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم ، وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإِيمان الصادق من طاعة الله ولرسوله .
والاستفهام في قوله : { مَا لَكُمْ } لإِنكار واستبعاد صدور هذا التثاقل منهم ، مع أن هذا يتنافى مع الإِيمان والطاعة .
قال الجمل : و " ما " مبتدأ ، و " لكم " خبر ، وقوله " اثاقلتم " حال . وقوله : { إِذَا قِيلَ لَكُمُ } ظرف لهذه الحال مقدم عليها .
والتقدير : أى شئ ثبت لكم من الأعذار . حال كونكم متثاقلين في وقت قول الرسول لكم : انفوا في سبيل الله .
وقوله { إِلَى الأرض } متعلق بقوله : " اثاقلتم " على تضمينه معنى الميل إلى الراحة ، والإِخلاد إلى الأرض ، ولذا عدى بإلى .
أى : اثاقلتم مائلين إلى الراحة وإلى شهوات الدنيا الفانية ، وإلى الإِقامة بأرضكم ودياركم ، وكرهتم الجهاد مع أنه ذروة سنام الإِسلام .
وإن التعبير بقوله ، سبحانه ، { اثاقلتم } لفى أسمى درجات البلاغة ، وأعلى مراتب التصوير الصادق ، لأنه بلفظه وجرسه يمثل الجسم المسترخى الثقيل الذي استقر على الأرض . . . والذى كلما حاول الرافعون أن يرفعوه عاد إليه ثقله فسقط من بين أيديهم ، وأخلد إلى الأرض .
وذلك لأن ما استولى عليه من حب للذائذ الدنيا وشهواتها ، أثقل بكثير من حبه لنعيم الآخرة وخيراتها .
وقوله ، سبحانه ، : { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } إنكار آخر لتباطئهم عن الجهاد ، وتعجب من ركونهم إلى الدنيا مع أن إيمانهم يتنافى مع ذلك .
وقوله . { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة } بيان لحقارة متاع الدنيا بالنسبة لنعنيم الآخرة الدائم :
والمعنى : أى شئ حال بينكم ، أيها المؤمنون ، وبين المسارعة إلى الجهاد عندما دعاكم رسولكم - صلى الله عليه وسلم - إليه . أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذائذها النقاصة .
إن كان أمركم كذلك ، فقد أخطأتم الصواب ، لأن متاع الحياة الدنيا مهما كثر فهو قليل مستحقر بجانب متاع الآخرة الباقى ، ونعيهما الخالد .
قال الآلوسى ما ملخصه : " في " من قوله { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة } تسمى بفى القياسية . لأن المقيص يوضع في جنب ما يقاس به . وفى ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ، ويستدعى الرغبة فيها . وتجريد الآخرة عن ذلك مثل مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخر ورفعتها .
وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذى والنسائى وغيرهم عن المستورد ، أخى بنى فهر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمن ، فلينظر بم ترجع " .
وقال الفخر الرازى : اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهد في كل حال ، لأنه ، سبحانه ، نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ، ولو لم يكن الجهاد واجبا لما كان هذا التثاقل منكرا . وليس لقائل أن يقول : الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه ، لأنه عليه اللاسم ، ما كان يخاف هجوم الروم عليه ، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم . . وأيضاً هو واجب على الكفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين . والخطاب في الآية للمؤمنين الذين تقاعسوا في الخروج إلى غزوة تبوك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل اللّه ، والتذكير لهم بما كان من نصر اللّه لرسوله ، قبل أن يكون معه منهم أحد ، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم ، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير .
( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثاقلتم إلى الأرض )
إنها ثقلة الأرض ، ومطامع الأرض ، وتصورات الأرض . . ثقلة الخوف على الحياة ، والخوف على المال ، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع . . ثقلة الدعة والراحة والاستقرار . . ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . . . ثقلة اللحم والدم والتراب . . والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه : ( اثاقلتم ) . وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل ، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل ! ويلقيها بمعنى ألفاظه : ( اثاقلتم إلى الأرض ) . . وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .
إن النفرة للجهاد في سبيل اللّه انطلاق من قيد الأرض ، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم ؛ وتحقيق للمعنى العلوى في الإنسان ، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة ؛ وتطلع إلى الخلود الممتد ، وخلاص من الفناء المحدود :
( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ? فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل )
وما يحجم ذو عقيدة في اللّه عن النفرة للجهاد في سبيله ، إلا وفي هذه العقيدة دخل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول - [ ص ] - " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق " . فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل اللّه خشية الموت أو الفقر ، والآجال بيد اللّه ، والرزق من عند اللّه . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الاَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الاَخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ } .
وهذه الآية حثّ من الله جلّ ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم ، وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك . يقول جلّ ثناؤه : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ما لَكُمْ أيّ شيء أمركم ، إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّهِ يقول : إذا قال لكم رسول الله محمد : انفروا أي اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم . وأصل النفر : مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاجه على ذلك ، ومنه نفور الدابة غير أنه يقال من النفر إلى الغزو : نفر فلان إلى ثغر كذا يَنْفِرُ نَفْرا ونَفِيرا ، وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرقون بها بين اختلاف المخبر عنه وإن اتفقت معاني الخبر فمعنى الكلام : ما لكم أيها المؤمنون إذ قيل لكم : اخرجوا غزاه في سبيل الله أي في جهاد أعداء اللّه ، اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ يقول تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها . وقيل : «اثّاقلتم » لأنه أدغم التاء في الثاء . فأحدث لها ألف ليتوصل إلى الكلام بها . لأن التاء مدغمة في الثاء ، ولو أسقطت الألف وابتدىء بها لم تكن إلا متحركة ، فأحدثت الألف لتقع الحركة بها ، كما قال جلّ ثناؤه : حتى إذَا ادّاركُوا فِيهَا جَمِيعا وكما قال الشاعر :
تُولي الضجيجَ إذا ما اسْتافَها خَصِرا *** عَذْبَ المَذاقِ إذَا ما اتّابَعَ القُبَلُ
فهو بني الفعل افتعلتم من التثاقل .
وقوله : أرَضِيتُمْ بالحَياةِ الدّنْيَا مِنَ الاَخِرَةِ يقول جلّ ثناؤه ، أرضيتم بحظّ الدنيا والدعة فيها عوضا من نعيم الاَخرة وما عند الله للمتقين في جنانه ؟ فَمَا مِتَاعُ الحَياةِ الدّنْيَا فِي الاَخِرةِ يقول : فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذّاتها في نعيم الاَخرة والكرامة التي أعدّها الله لأوليائه وأهل طاعته إلاّ قَلِيلٌ يسير . يقول لهم : فاطلبوا أيها المؤمنون نعيم الاَخرة وترف الكرامة التي عند الله لأوليائه بطاعته ، والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوّه .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ما لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرضِ أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد الطائف ، وبعد حنين . أمروا بالنفير في الصيف حين خُرِفَت النخل ، وطابت الثمار ، واشتهوا الظلال ، وشقّ عليهم المخرج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلَ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرض . . . الآية ، قال : هذا حين أُمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين ، وبعد الطائف أمرهم بالنفير في الصيف ، حين اخْتُرِفَت النخل ، وطابت الثمار ، واشتهُوا الظلال ، وشقّ عليهم المخرج . قال : فقالوا : منا الثقيل ، وذو الحجة ، والضيّعة ، والشغل ، والمنتشر به أمره في ذلك . فأنزل الله : انْفِرُوا خفافا وثَقالاً .
هذه الآية هي بلا اختلاف نازلة عتاباً على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفاً بين راكب وراجل ، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة ، وخص الثلاثة كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية بذلك التذنيب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم ، وكان تخلفهم لغير علة حسب ما يأتي ، وقوله { ما لكم } استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ ، وقوله { قيل } يريد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن صرفه الفعل لا يسمى فاعلة يقتضي إغلاظاً ومخاشنة ما ، و «النفر » هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث ، يقال في ابن آدم نفر إلى الأمر ينفر نفيراً ونفراً ، ويقال في الدابة نفرت تنفرُ بضم الفاء نفوراً{[5650]} ، وقوله { اثاقلتم } أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء فاحتيج إلى ألف الوصل كما قال { فادارأتم }{[5651]} وكما تقول اَّزَّين ، وكما قال الشاعر [ الكسائي ] : [ البسيط ]
تولي الضجيع إذا ما استافها خصراً*** عذب المذاق إذا ما اتّابَع القبل{[5652]}
وقرأ الأعمش فيما حكى المهدوي وغيره «تثاقلتم » على الأصل ، وذكرها أبو حاتم «تتثاقلتم » بتاءين ثم ثاء مثلثة ، وقال هي خطأ أو غلط ، وصوب «تثاقلتم » بتاء واحدة وثاء مثلثة أن لو قرىء بها ، وقوله { اثاقلتم إلى الأرض } عبارة عن تخلفهم ونكولهم وتركهم الغزو لسكنى ديارهم والتزام نخلهم وظلالهم ، وهو نحو من أخلد إلى الأرض ، وقوله : { أرضيتم } تقرير يقول أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة وحظها الأسعد ، ثم أخبر فقال إن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر ، فتعطي قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر بدل الكثير الباقي{[5653]} .