المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

11- إن الذين اخترعوا الكذب الصارف عن كل هداية بالنسبة لعائشة زوج النبي - صلي الله عليه وسلم - إذ أشاعوا حولها الإفك والكذب - هم جماعة ممن يعيشون معكم ، لا تظنوا هذه الحادثة شراً لكم بل هي خير لكم ، لأنها ميَّزت المنافقين من المؤمنين الخالصين ، وأظهرت كرامة المبرئين منها ، والمتألمين ، ولكل شخص من هذه الجماعة المتهمة جزاؤه علي مقدار اشتراكه في هذا الاتهام ، ورأس هذه الجماعة له عذاب عظيم لعظم جرمه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

قوله تعالى : { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } سبب نزول هذه الآية ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد العزيز بن عبد الله ، أنبأنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصاً ، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة ، وبعض حديثهم يصدق بعضاً . وإن كان بعضهم أوعى له من بعض قالوا : قالت عائشة : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه وأيهن خرج سهمها خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب ، فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت ، فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه . قالت : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول . قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ، قال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه . وقال عروة أيضاً : لم يسم من أهل الإفك أيضاً إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة ، كما قال الله تعالى : { والذي تولى } كبر ذلك عبد الله بن أبي سلول ، قال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان ، وتقول : إنه الذي قال :

فإن أبي ووالدتي وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهراً ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم ؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا ، كنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه قبل الغائط ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا . قالت : فانطلقت ، أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت : أي هنتاه أولم تسمعي ما قال ؟ قالت : فقلت ما قال ، فأخبرتني بقول أهل الإفك ، قالت فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : كيف تيكم ؟ فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت فقلت : سبحان الله أو لقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي . قالت : ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أسامة : أهلك ولا نعلم إلا خيراً ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك الخبر ، قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أغمضه غير أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر ، فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما يدخل على أهلي إلا معي ، قالت : فقام سعد ابن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فعلنا أمرك ، قالت : وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، قالت عائشة : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم لسعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتله ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، قالت : فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت . قالت : فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، قالت وأصبح أبواي عندي ، قالت : وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ، ولا يرقأ لي دمع حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينا أبواي جالسان عندي ، وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها ، فجلست تبكي معي . قالت : فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء ، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه . قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، فقال أبي : لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبا يوسف حين قال : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان ، وهو في يوم شات ، من ثقل القول الذي أنزل عليه ، قالت : فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : أبشري يا عائشة أما والله فقد برأك الله ، قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله ، قالت : وأنزل الله تعالى : { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } العشر الآيات ، ثم أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق ، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة } إلى قوله { غفور رحيم } قال أبو بكر الصديق : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً . قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب : ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيراً ، قالت عائشة ، وهي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع ، قالت : وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك . قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط ، قالت عائشة : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول : سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط . قالت : ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله .

ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث عن يونس عن ابن شهاب بإسناد مثله ، وقال : " وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب الله عليه ، إلى قوله : فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك . ورواه أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فقالت : ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل عني خادمتي ، فقالت : لا والله ما علمت عليها عيباً إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها ، فانتهرها بعض أصحابه ، فقال : اصدقي رسول الله حتى أسقطوا المهابة ، فقالت : سبحان الله والله ما علمت عليها إلا كما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر ، وفيه قالت : وأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ، ويقول : أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك ، فقال لي أبواي : قومي إليه ، فقلت : لا والله لا أقوم إليه ، ولا أحمده ولا أحمد أحداً ، ولكن أحمد الله الذي برأءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه " . أما تفسير قوله : { إن الذين جاؤوا بالإفك } بالكذب ، وهو أسوأ الكذب ، سمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق ، من قولهم : أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف فمن رماها بالسوء قلب الأمر عن وجهه ، عصبة منكم أي : جماعة منهم عبد الله بن أبي بن سلول ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، زوجة طلحة بن عبيد الله ، وغيرهم ، { لا تحسبوه شراً لكم } يا عائشة ويا صفوان ، وقيل : هو خطاب لعائشة ولأبويها وللنبي صلى الله عليه وسلم ولصفوان ، يعني : لا تحسبوا الإفك شراً لكم ، { بل هو خير لكم } لأن الله يأجركم على ذلك ويظهر براءتكم . وسمي الإفك إفكا لكونه مصروفا عن الحق من قولهم أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة والشرف ، فمن رماها بالسوء قلب الأمر عن وجهه . قوله تعالى : { لكل امرئ منهم } يعني من العصبة الكاذبة { ما اكتسب من الإثم } أي : جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه ، { والذي تولى كبره } أي : تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه ، قرأ يعقوب كبره بضم الكاف ، وقرأ العامة بالكسر ، قال الكسائي : هما لغتان . قال الضحاك : قام بإشاعة الحديث ، وهو عبد الله بن أبي بن سلول . وروى الزهري عن عروة بن عائشة { والذي تولى كبره منهم } قالت : عبد الله بن أبي بن سلول ، والعذاب الأليم هو النار في الآخرة . وقد روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الإفك قالت : " ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي ، رئيسهم : من هذه ؟ قالوا : عائشة قال : والله ما نجت منه وما نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها . وشرع في ذلك أيضاً حسان ابن ثابت ، ومسطح ، وحمنة ، فهم الذين تولوا كبره . وقال قوم : هو حسان بن ثابت " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا بشر بن خالد ، أنبأنا محمد بن جعفر عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : " دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعراً يشبب بأبيات له ، وقال :

‌حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل‌‌

فقالت له عائشة : لكنك لست كذلك ، قال مسروق فقلت لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالى : { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } قالت : وأي عذاب أشد من العمى ، وقالت : إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعاً ثمانين ثمانين .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

{ 11 - 26 } { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم } إلى آخر الآيات

وهو قوله : { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما ذكر فيما تقدم ، تعظيم الرمي بالزنا عموما ، صار ذلك كأنه مقدمة لهذه القصة ، التي وقعت على أشرف النساء ، أم المؤمنين رضي الله عنها ، وهذه الآيات ، نزلت في قصة الإفك المشهورة ، الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد .

وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، في بعض غزواته ، ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت الصديق ، فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها ، فلم يفقدوها ، ثم استقل الجيش راحلا ، وجاءت مكانهم ، وعلمت أنهم إذا فقدوها ، رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ، من أفاضل الصحابة رضي الله عنه ، قد عرس في أخريات القوم ونام ، فرأى عائشة رضي الله عنها فعرفها ، فأناخ راحلته ، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه ، ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة ، فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال ، أشاع ما أشاع ، ووشى الحديث ، وتلقفته الألسن ، حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين ، وصاروا يتناقلون هذا الكلام ، وانحبس الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة ، فحزنت حزنا شديدا ، فأنزل الله تعالى براءتها في هذه الآيات ، ووعظ الله المؤمنين ، وأعظم ذلك ، ووصاهم بالوصايا النافعة . فقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ } أي : الكذب الشنيع ، وهو رمي أم المؤمنين { عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } أي : جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين ، منهم المؤمن الصادق [ في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين ]{[559]}  ومنهم المنافق .

{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها ، والتنويه بذكرها ، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد ، التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة ، فكل هذا خير عظيم ، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك ، وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا ، ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم ، وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم ، ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، واجتماعهم على مصالحهم ، كالجسد الواحد ، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه ، فليكره من كل أحد ، أن يقدح في أخيه المؤمن ، الذي بمنزلة نفسه ، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة ، فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه .

{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك ، وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك ، وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم منهم جماعة ، { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } أي : معظم الإفك ، وهو المنافق الخبيث ، عبد الله بن أبي بن سلول -لعنه الله- { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار .


[559]:- زيادة من هامش: ب.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

وبعد أن بين - سبحانه - حكم القذف بالنسبة للمحصنات . وبالنسبة للزوجات ، أتبع - عز وجل - ذلك بإيراد مثل لما قاله المنافقون فى شأن السيدة عائشة - رضى الله عنها - . ولما كان يجب على المؤمنين أن يفعلوه فى مثل هذه الأحوال ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين . . . } .

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " هذه الآيات نزلت فى شأن السيدة عائشة - رضى الله عنها - حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين ، بما قالوه من الكذب البحت ، والفرية التى غار الله - تعالى - لها ولنبيه صلى الله عليه وسلم فأنزل براءتها صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم .

جاء فى الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى - وكان ذلك فى غزوة بنى المصطلق على الأرجح - ، فخرجت مع النبى صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما أُنزل الحجاب ، وأنا أُحمل فى هودج وأنزل فيه .

فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، حتى جاوزت الجيش .

فلما قضيت من شأنى أقبلت إلى الراحلة ، فلمست صدرى ، فإذا عقد لى قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدى فاحتبسنى ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بى ، فاحتملوا هودجى ، فرحلوه على بعيرى . وهم يحسبون أنى فيه . وكان النساء إذ ذاك خفافا ، لم يثقلهن اللحم ، فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فاحتملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدى بعد ما سار الجيش . فجئت منزلهم ، وليس فيه أحد منهم فيممت منزلى الذى كنت فيه . وظننت أن القوم سيفقدوننى فيرجعون إلى .

فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عيناى فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمى ، قد عرَّس - أى تأخر - من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلى فرأى سواد إنسان نائم ، فأتانى فعرفنى حين رآنى . وقد كان يرانى قبل أن يُضْرَب علينا الحجاب .

فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفنى . فخمرت وجهى بجلبابى ، والله ما كلمنى كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حين أناخ راحلته ، فوطىء على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بى الراحلة . حتى أتينا الجيش ، بعدما نزلوا فى نحو الظهيرة . فهلك من هلك فى شأنى ، وكان الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول . . . " .

وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } .

والإفك : أشنع الكذب وأفحشه ، يقال أفِكَ فلان - كضرب وعلم - أَفْكاً ، أى : كذب كذبا قبيحا .

والعصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، من العصب وهو الشد ، لأن كل وأحد منها يشد الآخر ويؤازره .

أى : إن الذين قالوا ما قالوا من كذب قبيح ، وبهتان شنيع ، على السيدة عائشة - رضى الله عنها - هم جماعة ينتسبون إليكم - أيها المسلمون - بعضهم قد استزلهم الشيطان .

- كمسطح بن أثاثة - وبعضهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والنفاق - كعبد الله بن أبى بن سلول - وأتباعه .

وفى التعبير بقوله - تعالى - { عُصْبَةٌ } : إشعار بأنهم جماعة لها أهدافها الخبيثة ، التى تواطئوا عل نشرها ، وتكاتفوا على إشاعتها ، بمكر وسوء نية .

وقوله - سبحانه - : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ . . } تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين الصادقين ، عما أصابهم من هم وغم بسبب هذا الحديث البالغ نهاية دركات الكذب والقبح .

أى : لا تظنوا - أيها المؤمنون - أن حديث الإفك هذا هو شر لكم ، بل هو خير لكم ، لأنه كشف عن قوى الإيمان من ضعيفة . كما فضح حقيقة المنافقين وأظهر ما يضمرونه من سوء للنبى صلى الله عليه وسلم ولأهل بيته ، وللمؤمنين ، كما أنكم قد نلتم بصبركم عليه وتكذيبكم له أرفع الدرجات عند الله تعالى .

ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء الخائضين فى حديث الإفك من عقاب فقال : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } .

أى لكل واحد من هؤلاء الذين اشتركوا فى إشاعة حديث الإفك العقاب الذى يستحقه بسبب ما وقع فيه من آثام ، وما اقترفه من سيئات .

وقوله - تعالى - : { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } بيان لسوء عاقبة من تولى معظم إشاعة هذا الحديث الكاذب .

والكبر - بكسر الكاف وضمها - مصدر لمعظم الشىء وأكثره .

أى : والذى تولى معظم الخوض فى هذا الحديث الكاذب ، وحرض على إشاعته ، له عذاب عظيم لا يقادر قدره من الله - تعالى - .

والمقصود بهذا الذى تولى كبره . عبد الله بن أبى بن سلول ، رأس المنافقين وزعيمهم ، فهو الذى قاد حملته ، واضطلع بالنصيب الأكبر لإشاعته .

روى أنه لما جاء صفوان بن المعطل يقود راحلته وعليها عائشة - رضى الله عنها - قال عبد الله بن أبى لمن حوله : من هذه ؟ قالوا عائشة فقال - لعنه الله - : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها ، والله ما نجت منه وما نجا منها .

وقال ابن جرير : " والأولى بالصواب قول من قال ، الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، وأن الذى بدأ بذكر الإفك . وكان يجمع أهله ويحدثهم به ، هو عبد الله بن ابى بن سلول " .

وقال الآلوسى : " والذى تولى كبره . . . كما فى صحيح البخارى عن الزهرى عن عروة عن عائشة : هو عبد الله بن أبى - عليه اللعنة - وقد سار على ذلك أكثر المحدثين .

أخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عمر ، أنه بعد نزول هذه الآيات فى براءة السيدة عائشة دعا الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ، ثم تلاها عليهم .

ثم بعث إلى عبد الله بن أبى . فجىء به فضربه حدين ، ثم بعث إلى حسان بن ثابت ، ومسطح . وحمنة بنت جحش فضربوا ضربا وجيعا . . . وقيل إن ابن أبى لم يحد أصلا ، لأنه لم يقر ، ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى يوم القيامة " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

وبعد الانتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف ، يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ؛ وهو يتناول بيت النبوة الطاهرة الكريم ، وعرض رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أكرم إنسان على الله ، وعرض صديقه الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - أكرم إنسان على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وعرض رجل من الصحابة - صفوان بن المعطل رضي الله عنه - يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرا . . وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان . .

ذلك هو حديث الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع :

إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم ، بل هو خير لكم . لكل امرى ء منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ، وقالوا : هذا إفك مبين . لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم . إذ تلقونه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ؛ وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم . ولولا إذ سمعتموه قلتم : ما يكونلنا أن نتكلم بهذا . سبحانك ! هذا بهتان عظيم . يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم . يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ؛ ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم . ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله . وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم . والله غفور رحيم . إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ، ويعلمون أن الله هو الحق المبين . الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين ، والطيبون للطيبات ، أولئك مبرأون مما يقولون ، لهم مغفرة ورزق كريم ) . .

هذا الحادث . حادث الإفك . قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق ؛ وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ؛ وعلق قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقلب زوجة عائشة التي يحبها ، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه ، وقلب صفوان بن المعطل . . شهرا كاملا . علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق .

فلندع عائشة - رضي الله عنها - تروي قصة هذا الألم ، وتكشف عن سر هذه الآيات :

عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :

كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ؛ وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي ، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب ، وأنا أحمل في هودج ، وأنزل فيه . فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من غزوته تلك ، وقفل ، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ؛ فقمت حين آذنوا بالرحيل ، حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ؛ وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري ، وهم يحسبون أني فيه ؛ وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ؛ وإنما نأكل العلقة من الطعام ؛ فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فحملوه ؛ وكنت جارية حديثة السن ؛ فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدي ، بعدما استمر الجيش ، فجئت منزلهم ، وليس فيه أحد منهم ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ؛ فبينما أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت . وكان صفوان بن المعطل السلمي . ثم الذكواني . قد عرس وراء الجيش ، فأدلج ، فأصبح عند منزلي ؛ فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني . وكان يراني قبل الحجاب . فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ؛ والله ما يكلمني بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ؛ وهوى حتى أناخ راحلته ، فوطى ء على يديها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش ، بعد ما نزلوا معرسين .

قالت : فهلك في شأني من هلك . وكان الذي تولى كبر الإثم عبد الله بن أبي بن سلول ؛ فقدمنا المدينة ، فاشتكيت بها شهرا ؛ والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر . وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ? ثم ينصرف . فذلك الذي يريبني منه ، ولا أشعر بالشر حتى نقهت ، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط . فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشي . فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ! فقلت لها : بئسما قلت . أتسبين رجلا شهد بدرا ? فقالت : يا هنتاه ألم تسمعي ما قال ? فقلت : وما قال ? فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي . فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : كيف تيكم ? فقلت : ائذن لي أن آتي أبوي . وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما . فأذن لي ، فأتيت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ? فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . فقلت : سبحان الله ! ولقد تحدث الناس بهذا ? قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله . قالت : فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم . فقال أسامة : هم أهلك يا رسول الله ، ولا نعلم والله إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تخبرك . قالت : فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بريرة فقال لها : أي بريرة . هل رأيت فيها شيئا يريبك ? فقالت : لا والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من يومه ، واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول . فقال وهو على المنبر : من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ? فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي . قالت : فقام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله أنا والله أعذرك منه . إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام سعد بن عبادة - رضي الله عنه - وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ولكن أخذته الحمية . فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على ذلك . فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت - لعمر الله - لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيان – الأوس والخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على المنبر ، فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل .

وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم . ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما ، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي . فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي . فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ثم جلس ، ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها ، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد حين جلس ، ثم قال : " أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا . فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه " . فلما قضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة . فقلت لأبي : أجب عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما قال . قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما قال . قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . قالت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن . فقلت : إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به ، واستقر في نفوسكم ، وصدقتم به . فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة ، لتصدقنني . فوالله مما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال : " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى ؛ ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى ؛ ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها . فوالله ما رام مجلسه ، ولا خرج أحد من أهل البيت ، حتى أنزل الله تعالى على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، فسري عنه ، وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي : يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك . فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله تعالى ، هو الذي أنزل براءتي . فأنزل الله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . . . العشر الآيات فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة . . إلى قوله ( والله غفور رحيم )فقال أبو بكر - رضي الله عنه - بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا . قالت عائشة رضي الله عنها : وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سأل زينب بنت جحش عن أمري ، فقال : " يا زينب . ما علمت وما رأيت ? " فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت عليها إلا خيرا . وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فعصمها الله تعالى بالورع . قالت : فطفقت أختها حمنة تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .

وهكذا عاش رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته . وعاش أبو بكر - رضي الله عنه - وأهل بيته . وعاش صفوان بن المعطل . وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق ، وفي ظل تلك الآلام الهائلة ، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات .

وإن الإنسان ليقف متململا أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة . وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة . تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيقة .

فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة . ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها ، ونظافة تصوراتها ، ها هي ذي ترمي في أعز ما تعتز به . ترمى في شرفها . وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع . وترمى في أمانتها . وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم . وترمى في وفائها . وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القرب الكبير . . ثم ترمى في إيمانها . وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام ، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة . وهي زوج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .

ها هي ذي ترمى ، وهي بريئة غارة غافلة ، لا تحتاط لشيء ، ولا تتوقع شيئا ؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله ، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا ، تبرئها مما رميت به . ولكن الوحي يتلبث ، لحكمة يريدها الله ، شهرا كاملا ؛ وهي في مثل هذا العذاب .

ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح . وهي مهدودة من المرض . فتعاودها الحمى ؛ وهي تقول لأمها في أسى : سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ? وفي رواية أخرى تسأل : وقد علم به أبي ? فتجيب أمها : نعم ! فتقول : ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? - فتجيبها أمها كذلك : نعم !

ويا لله لها ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه ، يقول لها : " أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا ؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه " . . فتعلم أنه شاك فيها ، لا يستيقن من طهارتها ، ولا يقضي في تهمتها . وربه لم يخبره بعد ، ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها ؛ فتمسي وتصبح وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها ، وأحلها في سويدائه !

وها هو ذا أبو بكر الصديق - في وقاره وحساسيته وطيب نفسه - يلذعه الألم ، وهو يرمى في عرضه . في ابنته زوج محمد - صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه ، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل ، لا يطلب دليلا من خارجه . . وإذا الألم يفيض على لسانه ، وهو الصابر المحتسب القوي على الألم ، فيقول : والله ما رمينا بهذا في جاهلية . أفنرضى به في الإسلام ? وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل . حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة : أجب عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال في مرارة هامدة : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !

وأم رومان - زوج الصديق رضي الله عنهما - وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء . المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها . فتقول لها : يا بنية هوني على نفسك الشأن ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . . ولكن هذا التماسك بتزايل وعائشة تقول لها : أجيبي عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فتقول كما قال زوجها من قبل : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !

والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل . وهو يرمي بخيانة نبيه في زوجه . فيرمي بذلك في إسلامه ، وفي أمانته ، وفي شرفه ، وفي حميته . وفي كل ما يعتز به صحابي ، وهو من ذلك كله برى ء . وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره ، فيقول : سبحان الله ! والله ما كشفت كتف أنثى قط . ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الإفك عنه ، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به . ودافعه إلى رفع سيفه على امرى ء مسلم ، وهو منهى عنه ، أن الألم قد تجاوز طاقته ، فلم يملك زمام نفسه الجريح !

ثم ها هو ذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو رسول الله ، وهو في الذروة من بني هاشم . . ها هو ذا يرمى في بيته . وفي من ? في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الابنة والزوجه والحبيبة . وها هو ذا يرمى في طهارة فراشه ، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة . وها هو ذا يرمي في صيانة حرمته ، وهو القائم على الحرمات في أمته . وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له ، وهو الرسول المعصوم من كل سوء .

ها هو ذا [ صلى الله عليه وسلم ] يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة - رضي الله عنها - يرمى في فراشه وعرضه ، وقلبه ورسالته . يرمى في كل ما يعتز به عربي ، وكل ما يعتز به نبي . . ها هو ذا يرمى في هذا كله ؛ ويتحدث الناس به في المدينة شهرا كاملا ، فلا يملك أن يضع لهذا كله حدا . والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهرا كاملا لا يبين فيه بيانا . ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان في هذا الموقف الأليم . يعاني من العار ، ويعاني فجيعة القلب ؛ ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة . الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق . . والشك يعمل في قلبه - مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله ، ولكنه لا يطمئن نهائيا إلى هذه القرائن - والفرية تفوح في المدينة ، وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك ؛ فلا يملك أن يطرد الشك . لأنه في النهاية بشر ، ينفعل في هذا انفعالات البشر . وزوج لا يطيق أن يمس فراشه . ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت ، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم .

وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده ، فيبعث إلى أسامة بن زيد . حبه القريب إلى قلبه . . ويبعث إلى علي ابن أبي طالب . ابن عمه وسنده . يستشيرهما في خاصة أمره . فأما علي فهو من عصب محمد ، وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب . ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد ، ابن عمه وكافله . فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه . ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويستقر على قرار . وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الود لأهله ، والتعب لخاطر الفراق ، فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين ، وكذب المفترين الأفاكين .

ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في لهفة الإنسان ، وفي قلق الإنسان ، يستمد من حديث أسامة ، ومن شهادة الجارية مددا وقوة يواجه بهما القوم في المسجد ، فيستعذر ممن نالوا عرضه ، ورموا أهله ، ورموا رجلا من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء . . فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور - وهم في مسجد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي حضرة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة ، وقد خدشت قداسة القيادة ، ويحز هذا في نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق ! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها يصارحها بما يقول الناس ؛ ويطلب منها هي البيان الشافي المريح !

وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه ، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقةالطاهرة ؛ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع ؛ ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك ، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم .

ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل : " وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى . ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى . ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها " . .

ولكن الأمر - كما يبدو من ذلك الاستعراض - لم يكن أمر عائشة - رضي الله عنها - ولا قاصرا على شخصها . فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ووظيفته في الجماعة يومها . بل تجاوزه إلى صلته بربه ورسالته كلها . وما كان حديث الإفك رمية لعائشة وحدها ، إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها . . من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة ، ويرد المكيدة المدبرة ، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام ؛ ويكشف عن الحكمة العليا وراء ذلك كله ؛ وما يعلمها إلا الله :

إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم ، بل هو خير لكم . لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم . والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .

فهم ليسوا فردا ولا أفرادا ؛ إنما هم( عصبة ) متجمعة ذات هدف واحد . ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك . إنما هو الذي تولى معظمه . وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين ، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة ؛ فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية . وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة . ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش ؛ وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة . أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة ، وعلى رأسها ابن سلول ، الحذر الماكر ، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة . ولم يقل علانية ما يؤخذ به ، فيقاد إلى الحد . إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم ، ولا يشهدون عليه . وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهرا كاملا ، وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها !

وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث ، وعمق جذوره ، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم .

ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد :

( لا تحسبوه شرا لكم ؛ بل هو خير لكم ) . .

خير . فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته . وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله ؛ ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . فهي عندئذ لا تقف عند حد . إنما تمضي صعدا إلى أشرف المقامات ، وتتطاول إلى أعلى الهامات ، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء .

وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة - بهذه المناسبة - عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم .

أما الآلام التي عاناها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته ، والجماعة المسلمة كلها ، فهي ثمنالتجربة ، وضريبة الابتلاء ، الواجبة الأداء !

أما الذين خاضوا في الإفك ، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة : ( لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ) . . ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله . وبئس ما اكتسبوه ، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى : ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم )يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم .

والذي تولى كبره ، وقاد حملته ، واضطلع منه بالنصيب الأوفى ، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول . رأس النفاق ، وحامل لواء الكيد . ولقد عرف كيف يختار مقتلا ، لولا أن الله كان من ورائه محيطا ، وكان لدينه حافظا ، ولرسوله عاصما ، وللجماعة المسلمة راعيا . . ولقد روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال : من هذه ? فقالوا : عائشة رضي الله عنها . . فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها . وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ؛ ثم جاء يقودها !

وهي قولة خبيثة راح يذيعها - عن طريق عصبة النفاق - بوسائل ملتوية . بلغ من خبثها أن تموج المدينة بالفرية التي لا تصدق ، والتي تكذبها القرائن كلها . وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين . وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهرا كاملا . وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الأولى .

وإن الإنسان ليدهش - حتى اليوم - كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حينذاك . وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة ، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق .

لقد كانت معركة خاضها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك . وخاضها الإسلام . معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وخرج منها منتصرا كاظما لآلامه الكبار ، محتفظا بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره . فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله . والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته . والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه .

ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لأفتاه ؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه . والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا المنهج في مواجهة الأمور ، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ مّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالّذِي تَوَلّىَ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : إن الذين جاءوا بالكذب والبُهتان عُصْبَةٌ مِنْكُمْ يقول : جماعة منكم أيها الناس . لا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يقول : لا تظنوا ما جاءوا به من الإفك شرّا لكم عند الله وعند الناس ، بل ذلك خير لكم عنده وعند المؤمنين وذلك أن الله يجعل ذلك كَفّارة للمرميّ به ، ويُظهر براءته مما رُمي به ، ويجعل له منه مخرجا . وقيل : إن الذي عَنَى الله بقوله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ : جماعة ، منهم حسان بن ثابت ، ومِسْطَح بن أُثاثة ، وحَمْنه بنت جحش . كما :

حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة : أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان : كتبت إليّ تسألني في الذين جاءوا بالإفك ، وهم كما قال الله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ، وأنه لم يُسَمّ منهم أحد إلا حسان بن ثابت ، ومِسْطَح بن أُثاثة ، وحَمْنة بنت جَحْش ، وهو يقال في آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ هم أصحاب عائشة . قال ابن جُرَيج : قال ابن عباس : قوله : جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ . . . الآية ، الذين افْتَروا على عائشة : عبد الله بن أُبَيّ ، وهو الذي تولى كِبْره ، وحسان بن ثابت ، ومِسْطَح ، وحَمْنة بنت جحش .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الذين قالوا لعائشة الإفك والبهتان .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال : الشرّ لكم بالإفك الذي قالوا ، الذي تكلّموا به ، كان شرّا لهم ، وكان فيهم من لم يقله إنما سمعه ، فعاتبهم الله ، فقال أوّلَ شيء : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ثم قال : والّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

وقوله : لِكُلّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ ما اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ يقول : لكلّ امرىء من الذين جاءوا بالإفك جزاء ما اجترم من الإثم ، بمجيئه بما جاء به ، من الأولى عبد الله . وقوله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ يقول : والذي تحمل معظم ذلك الإثم والإفك منهم هو الذي بدأ بالخوض فيه . كما :

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ يقول : الذي بدأ بذلك .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عُصْبَةٌ مِنْكُمْ قال : أصحاب عائشة عبد الله بن أبيّ ابن سَلُول ، ومِسْطَح ، وحَسّان .

قال أبو جعفر : له من الله عذاب عظيم يوم القيامة .

وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : كِبْرَهُ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار : كِبْرَهُ بكسر الكاف ، سوى حميد الأعرج فإنه كان يقرؤه : «كُبْرَهُ » بمعنى : والذي تحمل أكبره .

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : القراءة التي عليها عوامّ القرّاء ، وهي كسر الكاف ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وأن الكِبْر بالكسر : مصدر الكبير من الأمور ، وأن الكُبْر بضم الكاف : إنما هو من الولاء والنسب ، من قولهم : هو كُبْر قومه والكِبْر في هذا الموضع : هو ما وصفناه من معظم الإثم والإفك . فإذا كان ذلك كذلك ، فالكسر في كافة هو الكلام الفصيح دون ضمها ، وإن كان لضمها وجه مفهوم .

وقد اختلف أهل التأويل في المعنىّ بقوله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ . . . الآية ، فقال بعضهم : هو حسان بن ثابت . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن قزعة ، قال : حدثنا مسلمة بن علقمة ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، أن عائشة قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان ، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان :

هَجَوْتَ مُحَمّدًا فَأجَبْتُ عَنْهُ *** وَعِنْدَ اللّهِ فِي ذَاكَ الجَزاءُ

فإنّ أبي وَوَالِدهُ وَعِرْضِي *** لِعِرْضِ مُحَمّدٌ مِنْكُمْ وِقاءُ

أتَشْتُمُهُ وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ *** فَشَرّكُما لخَيْرِكُما الفِداءُ

لِسانِي صَارِمٌ لا عَيْبَ فِيهِ *** وبَحْرِي لا تُكَدّرهُ الدّلاءُ

فقيل : يا أمّ المؤمنين ، أليس هذا لغوا ؟ قالت لا ، إنما اللّغو ما قيل عند النساء . قيل : أليس الله يقول : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ قالت : أليس قد أصابه عذاب عظيم ؟ أليس قد ذهب بصره وكُنّع بالسيف ؟ .

قال : حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : كنت عند عائشة ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت ، فأُلقي له وسادة فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا وقد قال الله ما قال ؟ فقالت : قال الله : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ وقد ذهب بصره ، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة ، فشبّب بأبيات له ، فقال :

*** وَتُصْبِح غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِلِ ***

فقالت عائشة : أما إنك لست كذلك فقلت : تدعين هذا الرجل يدخل عليك وقد أنزل الله فيه : وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ . . . الآية ؟ فقالت : وأيّ عذاب أشدّ من العمى وقالت : إنه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن المُعَلّى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش ، قال : تفاخرت عائشة وزينب ، قال : فقالت زينب : أنا التي نزل تزويجِي من السماء . قال : وقالت عائشة : أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعَطّل على الراحلة . فقالت لها زينب : يا عائشة ، ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل قالت قلتِ كلمةَ المؤمنين .

وقال آخرون : هو عبد الله بن أُبيّ ابن سَلُول . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان الذين تكلموا فيه : المنافق عبد الله بن أُبيّ ابن سَلول ، وكان يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كِبْره ، ومِسْطَحا ، وحسان بن ثابت .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محمدبن عمرو ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن علقمة بن وقّاص وغيره أيضا ، قالوا : قالت عائشة : كان الذي تولى كبره الذي يجمعهم في بيته ، عبد الله بن أُبيّ ابن سَلُول .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن شهاب ، قال : ثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عتبة ، عن عائشة ، قالت : كان الذي تولى كبره : عبد الله بن أُبيّ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : إنّ الّذِينَ جاءُوا . . . الآية ، ، الذين افْتَرَوا على عائشة : عبد الله بن أُبيّ ، وهو الذي تولى كِبْره ، وحسان ، ومِسْطَح ، وحَمْنه بنت جحش .

حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة في الذين جاءوا بالإفك : يزعمون أنه كان كِبْرُ ذلك عبدَ الله بن أبيّ ابن سلول ، أحد بني عوف بن الخرزج وأخبرت أنه كان يحدّث به عنهم فيقرّه ويسمعه ويستوشيه .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أما الذي تولى كبره منهم ، فعبد الله بن أُبيّ ابن سلول الخبيث ، هو الذي ابتدأ هذا الكلام ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقود بها .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : والذي تولى كِبْره هو عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ، وهو بدأه .

وأولى القولين في ذلك بالصواب : قول من قال : الذي تولى كِبْره من عصبة الإفك ، كان عبد الله بن أبيّ ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، أن الذي بدأ بذكر الإفك ، وكان يجمع أهله ويحدثهم ، عبدُ الله بن أُبيّ ابن سَلُول ، وفعله ذلك على ما وصفت كان توليه كِبْر ذلك الأمر . وكان سبب مجيء أهل الإفك ، ما :

حدّثنا به ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ، ثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقّاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض ، وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة ، وبعض حديثهم يصدق بعضا :

زعموا أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها . قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزاة غزاها ، فخرج سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد ما أَنْزِل الحجاب ، وأنا أُحْمَل في هودجي وأنزل فيه . فسرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل إلى المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني ، أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عِقْدٌ لي من جَزْع ظَفَارِ قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه . وأقبل الرهط الذين كانوا يرْحَلون لي ، فاحتملوا هو دجي ، فَرَحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه . قالت : وكانت النساء إذ ذاك خِفافا لم يُهَبّلْهُن ولم يَغْشَهن اللحم ، إنما يأكلن العُلْقة من الطعام . فلم يستنكر القوم ثقلَ الهودج حين رَحَلُوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السنّ ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عَقْدي بعد ما استمرّ الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب . فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني ويرجعون إليّ . فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني عيني ، فنمت حتى أصبحت . وكان صفوان بن المعطّل السّلميّ ثم الذّكْوانيّ ، قد عَرّس من وراء الجيش ، فادّلَج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني ، فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل أن يُضرب الحجاب عَلَيّ ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخَمّرت وجهي بجلبابي ، والله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته ، فوطِىء على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا مُوغِرِينَ في نحر الظهيرة . فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كِبْره عبد الله بن أُبيّ ابن سلول .

فقدمنا المدينة ، فاشتكيت شهرا ، والناس يُفِيضُون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يَرِيبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : «كيف تيكم ؟ » فذلك يريبني ، ولا أشعر بالشرّ . حتى خرجت بعد ما نَقَهت ، فخرجت مع أمّ مِسْطَح قبَلَ المَنَاصع ، وهو مُتَبرّزنا ، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل ، وذلك قَبل أن نتخذ الكُنُف قريبا من بيوتنا ، وأَمْرُنا أمر العرب الأُوَل في التنزّه ، وكنا نتأذّى بالكُنُف أن نتخذها عند بيوتنا . فانطلقت أنا وأمّ مسطح ، وهي ابنة أبي رُهْم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصدّيق ، وابنها مِسْطَحْ بن أُثاثة بن عباد بن المطّلب . فأقبلت أنا وابنة أبي رُهْم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أمّ مِسْطَح في مِرْطِها ، أوَ لم تسمعي ماقال ؟ وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مَرَضا على مرضي . فلما رجعت إلى منزلي ، ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «كَيْفَ تِيكُمْ ؟ » فقلت : أتأذن لي أن آتيَ أبويّ ؟ قال : «نعم » . قالت : وأنا حينئذٍ أريد أن أستثبت الخبر من قِبَلهما . فأذِن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبويّ ، فقلت لأمي : أي أمتاه ، ماذا يتحدّث الناس ؟ فقالت : أي بُنية ، هوّني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر ، إلا أكثرن عليها . قالت : قلت : سبحان الله ، أَوَ قد تحدّث الناس بهذا وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت ، فدخل عليّ أبو بكر وأنا أبكي ، فقال لأمي : مايبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها . فأكبّ يَبْكي ، فبكى ساعة ، ثم قال : اسكتي يا بنية فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلى المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، حتى ظنّ أبواي أن البكاء سيفلق كبدي .

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب وأُسامة بن زيد ، حين استْلَبث الوحي ، يستشيرهما في فراق أهله قالت : فأما أُسامة ، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الودّ ، فقال : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا . وأما عليّ فقال : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تَصْدُقك ، يعني بَرِيرة . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرة ، فقال : «هَلْ رأيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عائِشَةَ ؟ » قالت له بَرِيرة : والذي بعثك بالحقّ ، ما رأيت عليها أمرا قطّ أَغْمِصْه عليها ، أكثرَ من أنها حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها فتأتى الداجن فتأكله فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «مَنْ يَعْذِرُنِي مِمنْ قَدْ بَلَغْنِي أذَاهُ فِي أهْلِي ؟ » يعني عبدَ الله بن أُبي ابن سَلُول . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر أيضا : «يا مَعْشَرَ المُسْلَمِينَ ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَني أذَاهُ فِي أهْلي ؟ فَوَاللّهِ ما عَلمْتُ عَلى أهْلي إلاّ خَيْرا ، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً ما عَلمْتُ عَلَيْهِ إلاّ خَيْرا ، وَما كانَ يَدْخُلُ عَلى أهْلي إلاّ مَعي » فقام سعد بن مُعاذ الأنصاريّ ، فقال : أنا أعذِرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عُنُقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك . فقام سعد بن عُبادة ، فقال ، وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحا ، ولكن احتملَتْه الحَمِيّة ، فقال : أَيْ سعدَ بن معاذ ، فقال لسعد بن عُبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتلّنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان : الأوس والخزرج ، حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَفّضُهم حتى سكتوا . ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في بيت أبويّ ، فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذنتْ عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي قالت : فبينا نحن على ذلك ، دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس عندي ، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحَى إليه في شأني بشيء قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : «أمّا بَعْدُ يا عائشَةُ فإنّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وكَذا ، فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرّئُكِ اللّهُ ، وَإنْ كُنْتِ ألمَمْتِ بِذَنْبٍ ، فاسْتَغْفِرِي اللّهَ ، وَتُوبِي إلَيْهِ ، فإنّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَف بَذَنْبِهِ ثُمّ تابَ تابَ اللّه عَلَيْهِ » . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، قَلَص دمعي ، حتى ما أحسّ منه دمعة قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد عرفت أنْ قد سمعتم بهذا ، حتى استقرّ في أنفسكم ، حتى كِدْتم أن تصدّقوا به ، فإن قلت لكم : إني بريئة والله يعلم أني برئة ، لا تصدّقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة ، لتصدّقُنّي ، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف : وَاللّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ .

ثم تولّيت واضطجعت على فراشي ، وأنا والله أعلم أني بريئة وأن الله سيبرّئني ببراءتي ، ولكني والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحْي يُتلى ، ولَشأني كان أحقَر في نفسي من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يُتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام رؤيا يبرّئني الله بها . قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء عند الوحي ، حتى إنه ليتحدّر منه مثلُ الجُمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أُنزل عليه . قالت : فلما سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، كان أوّل كلمة تكلم بها أن قال : «أبْشِرِي يا عائِشةُ ، إنّ اللّهَ قَدْ بَرّأكِ » فقالت لي أمي ، قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله ، هو الذي أنزل براءتي . فأنزل الله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عشر آيات ، فأنزل هذه الاَيات براءة لي . قالت : فقال أبو بكر ، وكان ينفق على مِسْطَح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة قالت : فأنزل الله : وَلا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ حتى بلغ : غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر : إني لأحبّ أن يغفر الله لي . فرجع إلى مِسْطَح النفقةَ التي كان يُنفق عليه ، وقال : لا أنزعها منه أبدا .

قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري وما رأت وما سمعت ، فقالت : يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما رأيت إلا خيرا . قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني ، فعصمها الله بالوَرَع ، وطفقت أختها حَمْنة تحارب فهلكت فيمن هلك .

قال الزهريّ بن شهاب : هذا الذي انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، وعن علقمة بن وقّاص الليثيّ ، عن سعيد بن المسيب ، وعن عروة بن الزبير ، وعن عبيد الله بن عتبة بن مسعود . قال الزهريّ : كلّ قد حدثني بعض هذا الحديث ، وبعض القوم كان له أوعى من بعض . قال : وقد جمعت لك كل الذي قد حدثني . وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة قال : وثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة . قال : ثني عبد الله بن بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ ، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة قالت وكل قد اجتمع في حديثه قصة خبر عائشة عن نفسها ، حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا ، وكله قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا ، ويحدث بعضهم ما لم يحدث بعض ، وكلّ كان عنها ثقة ، وكلّ قد حدث عنها ما سمع .

قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأَيتهُنّ خرج سهمها خرج بها معه . فلما كانت غزاة بني المصطَلِق ، أقرع بين نسائه كما كان يصنع ، فخرج سهمي عليهنّ ، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم معه . قالت : وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العُلَق لم يهيّجْهُنّ اللحم فيثقلن . قالت : وكنت إذا رحل بعيري جلست في هَوْدَجي ، ثم يأتي القوم الذين يرحلون بي بعيري ويحملوني ، فيأخذون بأسفل الهودج يرفعونه فيضعونه على ظهر البعير ، فينطلقون به . قالت : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وجّه قافلاً ، حتى إذا كان قريبا من المدينة ، نزل منزلاً فبات بعض الليل ، ثم أذّن في الناس بالرحيل . فلما ارتحل الناس ، خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي من جَزْعَ ظَفارِ ، فلما فرغت انسلّ من عنقي وما أدري فلما رجعت إلى الرحْل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل . قالت : فرجعت عَوْدِي إلى بَدْئِي ، إلى المكان الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون بي البعير .

ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى ، عن ابن ثور .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا وما علمت ، فتشهد ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «أمّا بَعْدُ أشِيرُوا عَليّ فِي أُناسٍ أبَنُوا أهْلِي وَاللْهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي سُوءًا قَطّ ، وأبَنُوهُمْ بِمَنْ وَاللّهِ ما عَلِمْتُ عَلَيْهِ سُوءا قَطّ ، وَلا دَخَلَ بَيْتِي قَطّ إلاّ وأنا حاضِرٌ ، وَلا أغِيبُ فِي سَفَرٍ إلاّ غابَ مَعِي » فقام سعد بن مُعاذ فقال : يا رسول الله ، نرى أن نضرب أعناقهم فقام رجل من الخزرج ، وكانت أمّ حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل ، فقال كذبتَ ، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج في المسجد شرّ وما علمتُ به . فلما كان مساء ذلك اليوم ، خرجت لبعض حاجتي ومعى أمّ مِسْطح ، فعثرت ، فقالت : تَعَس مِسْطح فقلت علام تسبين ابنك ؟ فسكتت ، ثم عثرت الثانية ، فقالت : تَعَس مسطح قلت : علام تسبين ابنك ؟ فسكتت الثانية . ثم عثرت الثالثة ، فقالت : تَعَس مسطح فانتهرتها ، فقلت : وقد كان هذا ؟ قالت : نعم والله . قالت : فرجعت إلى بيتي فكأن الذي خرجت له لم أخرج له ، ولا أجد منه قليلاً ولا كثيرا . ووُعِكْت ، فقلت : يا رسول الله ، أرسلني إلى بيت أبي فأرسل معي الغلام ، فدخلت الدار فإذا أنا بأمي أمّ رومان ، قالت : ما جاء بك يا بُنية ؟ فأخبرتها ، فقالت : خَفّضي عليك الشأن ، فإنه والله ما كانت امرأة جميلة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا حسدنها وقلن فيها . قلت : وقد علم بها أبي ؟ قالت : نعم . قلت : ورسول الله ؟ قالت : نعم . فاستعبرت وبكيت ، فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي : ما شأنها ؟ قالت : بلغها الذي ذُكر من أمرها . ففاضت عيناه ، فقال : أقسمت عليك إلاّ رَجَعْت إلى بيتك فرجعت .

فأصبح أبواي عندي ، فلم يزالا عندي حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بعد العصر ، وقد اكتنفني أبواي ، عن يميني وعن شمالي ، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «أمّا بَعْدُ يا عائِشَةُ ، إنْ كُنْتِ قارَفْتِ سُوءا أوْ ألَمَمْتِ فَتُوبِي إلى اللّهِ ، فإنّ اللّهَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ » . وقد جاءت امرأة من الأنصار وهي جالسة ، فقلت : ألا تستحي من هذه المرأة أن تقول شيئا ؟ فقلت لأبي : أجبه فقال : أقول ماذا ؟ قلت لأمي : أجيبيه فقالت : أقول ماذا ؟ فلما لم يجيباه تشّهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت : أما بعد ، فوالله لئن قلت لكم إني لم أفعل ، والله يعلم إني لصادقة ما ذا بنافعي عندكم ، لقد تُكُلّم به وأُشْرِبته قلوبكم وإن قلت إني قد فعلت والله يعلم أني لم أفعل لَتقولُنّ قد باءت به على نفسها ، وأيمُ الله مَا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه : فَصَبْرٌ جَميلٌ وَاللّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ . وأنزل الله على رسوله ساعتئذٍ ، فُرفع عنه ، وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه يقول : «أبْشِرِي يا عائِشَةُ ، فَقَدْ أنْزَلَ اللّهُ بَرَاءَتَكِ » فكنت أشدّ ما كنت غضبا ، فقال لي أبواي : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمده ولا أحمدكما ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه ، ولكني أحمد الله الذي أنزل براءتي . ولقد جاء رسول الله بيتي ، فسأل الجارية عني ، فقالت : والله ما أعلم عليها عيبا إلا أنها كانت تنام حتى كانت تدخل الشاة فتأكل حصيرها أو عجينها ، فانتهرها بعض أصحابه ، وقال لها : اصْدُقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عروة : فعَتب على من قاله ، فقال : لا ، والله ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر . وبلغ ذلك الرجل الذي قيل له ، فقال : سبحان الله ما كشفت كَنَف أنثى قطّ . فقتل شهيدا في سبيل الله . قالت عائشة : فأما زينب بنت جحش ، فعصمها الله بدينها ، فلم تقل إلا خيرا وأما حَمْنة أختها ، فهلكت فيمن هلك . وكان الذين تكلموا فيه : المنافقَ عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ، وكان يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كِبْره ، ومِسْطحا ، وحسانَ بن ثابت ، فحلف أبو بكر أن لا ينفع مِسْطَحا بنافعة ، فأنزل الله : وَلا يَأَتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ يعني أبا بكر ، أنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَى وَالمَساكِينَ يعني مِسْطحا ، ألا تَحِبّونَ أنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهِ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر : بلى والله ، إنا لنحبّ أن يغفر الله لنا وعاد أبو بكر لِمْسطَح بما كان يصنع به .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن علقمة بن وقاص وغيره أيضا ، قال : خرجت عائشة تريد المَذْهب ، ومعها أمّ مسطح . وكان مِسطح بن أثاثة ممن قال ما قال . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل ذلك ، فقال : «كَيْفَ تَرَوْنَ فِيمَنْ يُؤْذِينِي فِي أهْلِي وَيجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِينِي ؟ » فقال سعد بن مُعاذ : أي رسول الله ، إن كان منا معشرَ الأوس جلدنا رأسه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا فأطعناك . فقال سعد بن عبادة : يا ابن معاذ ، والله ما بك نُصْرة رسول الله ، ولكنها قد كانت ضغائن في الجاهلية وإحن لم تحلل لنا من صدوركم بعد فقال ابن معاذ : الله أعلم ما أردت . فقام أُسَيد بن حُضَير ، فقال : يا ابن عبادة ، إن سعدا ليس شديدا ، ولكنك تجادل عن المنافقين وتدفع عنهم . وكثر اللّغَط في الحيين في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على المنبر ، فما زال النبيّ صلى الله عليه وسلم يومىء بيده إلى الناس ههنا وههنا ، حتى هدأ الصوت .

وقالت عائشة : كان الذي تولى كِبْره ، والذي يجمعهم في بيته ، عبد الله بن أُبّي ابن سلول . قالت : فخرجت إلى المَذْهَب ومعي أمّ مسطح ، فعثرتْ ، فقالتْ : تَعَس مِسْطح فقلت : غفر الله لك ، أتقولين هذا لابنك ولصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت ذلك مرّتين ، وما شعرت بالذي كان . فحُدثت ، فذهب عنى الذي خرجت له ، حتى ما أجد منه شيئا . ورجعت على أبويّ أبي بكر وأمّ رُومان ، فقلت : أما اتقيتما الله فيّ وما وصلتما رحمي ؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي قال ، وتحدّث الناس بالذي تحدثوا به ولم تُعْلِماني فأُخْبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : أي بنية ، والله لقلما أحبّ رجل قطّ امرأته إلا قالوا لها نحو الذي قالوا لك أي بنية ارجعي إلى بيتك حتى نأتَيك فيه فرجعت وارتكبني صالِبٌ من حُمّى ، فجاء أبواي فدخلا ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سريري وُجاهي ، فقالا : أي بينة ، إن كنت صنعت ما قال الناس فاستغفري الله ، وإن لم تكوني صنعتيه فأخبرني رسول الله بعذرك قلت : ما أجد لي ولكم إلا كأبي يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ . قالت : فالتمست اسم يعقوب ، فما قدرت ، أو فلم أقدر عليه . فشخص بصر رسول الله إلى السقف ، وكان إذا نَزَل عليه وَجَد ، قال الله : إنّا سَنُلْقي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً فوالذي هو أكرمه وأنزل عليه الكتاب ، ما زال يضحك حتى إني لأنظر إلى نواجذه سرورا ، ثم مسح عن وجهه ، فقال : «يا عائِشَةُ أبْشِرِي ، قَدْ أنْزَلَ اللّهُ عُذْرَكِ » قلت : بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد أصحابك . قال الله : إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ . . . حتى بلغ : وَلا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ . وكان أبو بكر حلف أن لا ينفع مسطحا بنافعة ، وكان بينهما رَحم ، فلما أنزلت : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ . . . حتى بلغ : وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر : بلى ، أي ربّ فعاد إلى الذي كان لمسطح إن الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ . . . حتى بلغ : أُولَئِكَ مُبَرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم . قالت عائشة : والله ما كنت أرجو أن ينزل فيّ كتاب ولا أطمع به ، ولكن أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا تُذْهب ما في نفسه . قالت : وسأل الجارية الحَبَشية ، فقالت : والله لعائشة أطيب من طيب الذهب ، وما بها عيب إلا أنها ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل عجينها ، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنّك الله قال : فعجب الناس من فقهها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

{ إن الذين جاءوا بالإفك } بأبلغ ما يكون من الكذب من الإفك ، وهو الصرف لأنه قول مأفوك عن وجهه ، والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله تعالى عنها . وذلك أنه عليه الصلاة والسلام استصحبها في بعض الغزوات فأذن ليلة في القفول بالرحيل ، فمشت لقضاء حاجة ثم عادت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت لتلتمسه فظن الذي كان يرحلها أنها دخلت الهودج فرحله على مطيتها وسار ، فلما عادت إلى منزلها لم تجد ثمة أحدا فجلست كي يرجع إليها منشد ، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى أتيا الجيش فاتهمت به . { عصبة منكم } جماعة منكم وهي من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة ، يريد عبد اله بن أبي ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ، وهي خبر إن وقوله : { لا تحسبوه شرا لكم } مستأنف والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان رضي اله تعالى عنهم والهاء للإفك . { بل هو خير لكم } لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم ، وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا . { لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم } لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصا به . { والذي تولى كبره } معظمه وقرأ يعقوب بالضم وهو لغة فيه . { منهم } من الخائضين وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به { والذي } بمعنى الذين . { له عذاب عظيم } في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبي مطرودا مشهورا بالنفاق ، وحسان أعمى أشل اليدين ، ومسطح مكفوف البصر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

استئناف ابتدائي فإن هذه الآيات العشر إلى قوله تعالى : { والله سميع عليم } [ النور : 21 ] نزلت في زمن بعيد عن زمن نزول الآيات التي من أول هذه السورة كما ستعرفه .

والإفك : اسم يدل على كذب لا شبهة فيه فهو بهتان يفجأ الناس . وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء ، ومنه سمي أهل سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم قرى قوم لوط أصحاب المؤتفكة لأن قراهم ائتفكت ، أي قُلبت وخسف بها فصار أعلاها أسفلها فكان الإخبار عن الشيء بخلاف حالته الواقعية قلباً له عن حقيقته فسمي إفكاً . وتقدم عند قوله تعالى : { فإذا هي تلقف ما يأفكون } في سورة الأعراف ( 117 ) .

و { جاءو بالإفك } معناه : قصدوا واهتموا . وأصله : أن الذي يخبر بخبر غريب يقال له : جاء بخبر كذا ، لأن شأن الأخبار الغريبة أن تكون مع الوافدين من أسفار أو المبتعدين عن الحي قال تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ } [ الحجرات : 6 ] ؛ فشبه الخبر بقدوم المسافر أو الوافد على وجه المكنية وجعل المجيء ترشيحاً وعدي بباء المصاحبة تكميلاً للترشح .

والإفك : حديث اختلقه المنافقون وراج عند المنافقين ونفر من سذج المسلمين إما لمجرد اتباع النعيق وإما لإحداث الفتنة بين المسلمين . وحاصل هذا الخبر : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق من خزاعة ، وتسمى غزوة المريسيع ولم تبق بينه وبين المدينة إلا مرحلة . آذن بالرحيل آخر الليل . فلما علمت عائشة بذلك خرجت من هودجها وابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها كما هو شأن النساء قبل الترحل فلما فرغت أقبلت إلى رحلها فافتقدت عقداً من جَزْع ظَفَارِ كان في صدرها فرجعت على طريقها تلتمسه فحبسها طلبه وكان ليل . فلما وجدته رجعت إلى حيث وضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها ، وذلك أن الرجال الموكلين بالترحل قصدوا الهودج فاحتملوه وهم يحسبون أن عائشة فيه وكانت خفيفة قليلة اللحم فرفعوا الهودج وساروا فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها فنامت وكان صفوان بن المعطِّل ( بكسر الطاء ) السُّلمي ( بضم السين وفتح اللام نسبة إلى بني سليم وكان مستوطناً المدينة من مهاجرة العرب ) قد أوكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حراسة ساقة الجيش ، فلما علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو ركب راحلته ليلتحق بالجيش فلما بلغ الموضع الذي كان به الجيش بصُر بسواد إنسان فإذا هي عائشة وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع ، واستيقظت عائشة بصوت استرجاعه ونزل عن ناقته وأدناها منها وأناخها فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في نحر الظهيرة وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأسُ المنافقين في الجيش فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، فراج قوله على حسان بن ثابت ومِسْطح بن أثاثة ( بكسر ميم مسطح وفتح طائه وضم همزة أثاثة ) وحَمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين حملتها الغيرة لأختها ضرة عائشة وساعدهم في حديثهم طائفة من المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي .

فالإفك : علم بالغلبة على ما في هذه القصة من الاختلاق .

والعصبة : الجماعة من عشرة إلى أربعين كذا قال جمهور أهل اللغة . وقيل العصبة : الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وروي عن ابن عباس . وقيل في مصحف حفصة « عصبة أربعة منكم » . وهم اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ويقال : عصابة . وقد تقدم في أول سورة يوسف ( 8 ) .

{ وعصبة } بدل من ضمير { جاءو } .

وجملة : { لا تحسبوه شراً لكم } خبر { إن } . والمعنى : لا تحسبوا إفكهم شراً لكم ، لأن الضمير المنصوب من { تحسبوه } لما عاد إلى الإفك وكان الإفك متعلقاً بفعل { جاءو } صار الضمير في قوة المعرف بلام العهد . فالتقدير : لا تحسبوا الإفك المذكور شراً لكم . ويجوز أن يكون خبر { إن } قوله : { لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم } وتكون جملة { لا تحسبوه } معترضة .

ويجوز جعل { عصبة } خبر { إن } ويكون الكلام مستعملاً في التعجيب من فعلهم مع أنهم عصبة من القوم أشد نكراً ، كما قال طرفة :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند

وذكر { عصبة } تحقير لهم ولقولهم ، أي لا يعبأ بقولهم في جانب تزكية جميع الأمة لمن رموهما بالإفك . ووصف العصبة بكونهم { منكم } يدل على أنهم من المسلمين ، وفي ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأذى المسلمين .

وقوله : { لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم } لإزالة ما حصل في نفوس المؤمنين من الأسف من اجتراء عصبة على هذا البهتان الذي اشتملت عليه القصة فضمير { تحسبوه } عائد إلى الإفك .

والشر المحسوب : أنه أحدث في نفر معصية الكذب والقذف والمؤمنون يودون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائص ( فإنهم أهل المدينة الفاضلة ) . فلما حدث فيهم هذا الاضطراب حسبوه شراً نزل بهم .

ومعنى نفي أن يكون ذلك شراً لهم لأنه يضيرهم بأكثر من ذلك الأسف الزائل وهو دون الشر لأنه آيل إلى توبة المؤمنين منهم فيتمحض إثمه للمنافقين وهم جماعة أخرى لا يضر ضلالهم المسلمين .

وقال أبو بكر ابن العربي : حقيقة الخير ما زاد نفعه على ضره وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه . وأن خيراً لا شر فيه هو الجنة وشراً لا خير فيه هو جهنم . فنبه الله عائشة ومن ماثلها ممن ناله همّ من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه شر بل هو خير على ما وضع الله الشر والخير عليه في هذه الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ورجحان النفع في جانب الخير ورجحان الضر في جانب الشر اه .

وتقدم ذكر الخير عند قوله تعالى : { أينما يوجهه لا يأت بخير } في سورة النحل ( 76 ) .

وبعد إزالة خاطر أن يكون ذلك شراً للمؤمنين أثبت أنه خير لهم فأتى بالإضراب لإبطال أن يحسبوه شراً ، وإثبات أنه خير لهم لأن فيه منافع كثيرة ؛ إذ يميز به المؤمنون الخلص من المنافقين ، وتشرع لهم بسببه أحكام تردع أهل الفسق عن فسقهم ، وتتبين منه براءة فضلائهم ، ويزداد المنافقون غيظاً ويصبحون محقرين مذمومين ، ولا يفرحون بظنهم حزن المسلمين ، فإنهم لما اختلقوا هذا الخبر ما أرادوا إلا أذى المسلمين ، وتجيء منه معجزات بنزول هذه الآيات بالإنباء بالغيب . قال في « الكشاف » : . . . وفوائد دينية وآداب لا تخفى على متأملها اه .

وعدل عن أن يعطف { خيراً } على { شراً } بحرف ( بل ) فيقال : بل خيراً لكم ، إيثاراً للجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام .

والإثم : الذنب وتقدم عند قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } في سورة البقرة ( 219 ) وعند قوله : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } في سورة الأنعام ( 120 ) .

وتولي الأمر : مباشرة عمله والتهمم به .

{ والكِبر } بكسر الكاف في قراءة الجمهور ، ويجوز ضم الكاف . وقرأ به يعقوب وحده ، ومعناه : أشد الشيء ومعظمه ، فهما لغتان عند جمهور أيمة اللغة . وقال ابن جني والزجاج : المكسور بمعنى الإثم ، والمضموم : معظم الشيء . { والذي تولى كبره } هو عبد الله بن أبي بن سلول وهو منافق وليس من المسلمين .

وضمير { منهم } عائد إلى { الذين جاءو بالإفك } . وقيل : الذي تولى كبره حسان ابن ثابت لما وقع في « صحيح البخاري » : « عن مسروق قال : دخل حسان على عائشة فأنشد عندها أبياتاً منها :

حصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت له عائشة : لكن أنت لست كذلك . قال مسروق فقلت : تَدَعِين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى : { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } فقالت : أي عذاب أشد من العمى » .

والوعيد بأن له عذاباً عظيماً يقتضي أنه عبد الله بن أبي بن سلول . وفيه إنباء بأنه يموت على الكفر فيعذب العذاب العظيم في الآخرة وهو عذاب الدرك الأسفل من النار ، وأما بقية العصبة فلهم من الإثم بمقدار ذنبهم . وفيه إيماء بأن الله يتوب عليهم إن تابوا كما هو الشأن في هذا الدين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: إن الذين جاءوا بالكذب والبُهتان "عُصْبَةٌ مِنْكُمْ "يقول: جماعة منكم أيها الناس. "لا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" يقول: لا تظنوا ما جاءوا به من الإفك شرّا لكم عند الله وعند الناس، بل ذلك خير لكم عنده وعند المؤمنين وذلك أن الله يجعل ذلك كَفّارة للمرمى به، ويُظهر براءته مما رُمي به، ويجعل له منه مخرجا. وقيل: إن الذي عَنَى الله بقوله: "إنّ الّذِينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ": جماعة، منهم حسان بن ثابت، ومِسْطَح بن أُثاثة، وحَمْنه بنت جحش...

"لِكُلّ امْرِئ مِنْهُمْ ما اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ" يقول: لكلّ امرئ من الذين جاءوا بالإفك جزاء ما اجترم من الإثم، بمجيئه بما جاء به...

"وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ..." يقول: والذي تحمل معظم ذلك الإثم والإفك منهم هو الذي بدأ بالخوض فيه... هو عبد الله بن أُبيّ ابن سَلُول... وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير، أن الذي بدأ بذكر الإفك، وكان يجمع أهله ويحدثهم، عبدُ الله بن أُبيّ ابن سَلُول، وفعله ذلك على ما وصفت كان توليه كِبْر ذلك الأمر... وكان سبب مجيء أهل الإفك ما: حدّثنا به ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، ثني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقّاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن حديث عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله، وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت اقتصاصا، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضا:

زعموا أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزاة غزاها، فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما أَنْزِل الحجاب، وأنا أُحْمَل في هودجي وأنزل فيه. فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل إلى المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عِقْدٌ لي من جَزْع ظَفَارِ قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرْحَلون لي، فاحتملوا هو دجي، فَرَحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكانت النساء إذ ذاك خِفافا لم يُهَبّلْهُن ولم يَغْشَهن اللحم، إنما يأكلن العُلْقة من الطعام. فلم يستنكر القوم ثقلَ الهودج حين رَحَلُوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنّ، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عَقْدي بعد ما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب. فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني ويرجعون إليّ. فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني، فنمت حتى أصبحت. وكان صفوان بن المعطّل السّلميّ ثم الذّكْوانيّ، قد عَرّس من وراء الجيش، فادّلَج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل أن يُضرب الحجاب عَلَيّ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخَمّرت وجهي بجلبابي، والله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته، فوطِئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا مُوغِرِينَ في نحر الظهيرة. فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كِبْره عبد الله بن أُبيّ ابن سلول.

فقدمنا المدينة، فاشتكيت شهرا، والناس يُفِيضُون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يَرِيبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: «كيف تيكم؟» فذلك يريبني، ولا أشعر بالشرّ. حتى خرجت بعد ما نَقَهت، فخرجت مع أمّ مِسْطَح قبَلَ المَنَاصع، وهو مُتَبرّزنا، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قَبل أن نتخذ الكُنُف قريبا من بيوتنا، وأَمْرُنا أمر العرب الأُوَل في التنزّه، وكنا نتأذّى بالكُنُف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأمّ مسطح، وهي ابنة أبي رُهْم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مِسْطَحْ بن أُثاثة بن عباد بن المطّلب. فأقبلت أنا وابنة أبي رُهْم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أمّ مِسْطَح في مِرْطِها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلا قد شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى منزلي، ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "كيف تيكم؟ "فقلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قال: "نعم"، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قِبَلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبويّ، فقلت لأمي: أي أمتاه، ماذا يتحدّث الناس؟ فقالت: أي بنية، هوّني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر، إلا أكثرن عليها. قالت: قلت: سبحان الله، أو قد تحدّث الناس بهذا وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت، فدخل عليّ أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي: ما يبكيها؟ قالت: لم تكن علمت ما قيل لها، فأكبّ يبكي، فبكى ساعة، ثم قال: اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، وأُسامة بن زيد، حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله قالت: فأما أُسامة، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود فقال: يا رسول الله، هم أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. وأما عليّ فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، يعني: بريرة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرة، فقال: "هَلْ رأيْت منْ شَيء يَرِيبُكِ مِنْ عائِشَةَ؟" قالت له بريرة: والذي بعثك بالحقّ، ما رأيت عليها أمرا قطّ أغمصه عليها، أكثر من أنها حديثة السنّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "مَنْ يَعْذُرُني مِمَّنْ قَدْ بَلَغني أذَاهُ في أهْلِي؟ "يعني عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر أيضا: "يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَني أذَاهُ فِي أهْلِي؟ فَوَاللهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي إلا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا ما عَلِمْتُ عَلَيْه إلا خَيْرًا، وما كانَ يَدْخُل على أهْلِي إلا مَعي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك؛ فقام سعد بن عبادة، فقال، وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال: أي سعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمة سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في بيت أبويّ، فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي; قالت: فبينا نحن على ذلك، دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحَى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: "أمَّا بَعْدُ يَا عائشَةُ، فإنَّهُ بَلَغَني عَنْكِ كَذَا وكَذَا، فإنْ كُنْت بَرِيئَةً فَسَيُبَرئُكِ اللهُ، وإن كُنْتِ ألمَمْتِ بِذَنْبٍ، فاسْتَغْفِري اللهَ، وَتُوبِي إلَيْهِ، فإنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَف بِذَنْبِهِ ثُمَّ تابَ، تابَ اللهُ عَلَيْهِ". فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي، حتى ما أحسّ منه دمعة، قلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرًا من القرآن: إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا، حتى استقرّ في أنفسكم، حتى كدتم أن تصدِّقوا به، فإن قلت لكم: إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني منه بريئة- لتصدقني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ" ثم تولّيت واضطجعت على فراشي، وأنا والله أعلمُ أني بريئة، وأن الله سيبرّئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يُتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام رؤيا يبرّئني الله بها، قالت: والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي، من ثقل القول الذي أُنزل عليه، قالت: فلما سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، كان أوّل كلمة تكلم بها أن قال: "أبْشِرِي يا عائِشَةُ، إنَّ اللهَ قَدْ برَّأك!" فقالت لي أمي، قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي. فأنزل الله: "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ" عشر آيات، فأنزل هذه الآيات براءة لي. قالت: فقال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، قالت: فأنزل الله: "وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ" حتى بلغ: "غَفُورٌ رَحِيمٌ" فقال أبو بكر: إني لأحبّ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبدا.

قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، وما رأت، وما سمعت، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب، فهلكت فيمن هلك.

{لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} يعني والله أعلم: عقاب ما اكتسب من الإثم على قدر ما اكتسبه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

هذه قصة عائشة رضي الله عنها، وما كان من حديث الإفك. بَيَّنَ اللَّهُ -سبحانه- أنه لا يُخْلِي أحداً من المحنة والبلاء، في المحبة والولاء؛ فالامتحان من أقوى أركانه وأعظم برهانه وأصدق بيانه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والخطاب في قوله: {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لمن ساءه ذلك من المؤمنين، وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعائشة، وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم. ومعنى كونه خيراً لهم: أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم؛ لأنه كان بلاء مبيناً ومحنة ظاهرة، وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهير لأهل البيت، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية، وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية أنزلت في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وما اتصل بذلك من أمر «الإفك» وفي البخاري في غزوة بني المصطلق عن عائشة قالت وأنزل الله العشر الآيات ثم أنزل الله ما قرئ في براءتي فكأنها عدت ما تختص بها.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ حَقِيقَةَ الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ. وَحَقِيقَةُ الشَّرِّ مَا زَادَ ضُرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ، وَأَنَّ خَيْرًا لَا شَرَّ فِيهِ هُوَ الْجَنَّةُ، وَشَرًّا لَا خَيْرَ فِيهِ هُوَ جَهَنَّمُ؛ وَلِهَذَا صَارَ الْبَلَاءُ النَّازِلُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ خَيْرًا، لِأَنَّ ضَرَرَهُ من الْأَلَمِ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا، وَخَيْرُهُ وَهُوَ الثَّوَابُ كَثِيرٌ فِي الْآخِرَةِ؛ فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَائِشَةَ وَمَنْ مَاثَلَهَا مِمَّنْ نَالَهُ هَمٌّ من هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ شَرٌّ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ عَلَى مَا وَضَعَ اللَّهُ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا من الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَرُجْحَانِ النَّفْعِ فِي جَانِبِ الْخَيْرِ، وَرُجْحَانِ الضُّرِّ فِي جَانِبِ الشَّرِّ...

{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ من الْإِثْمِ} هَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي كُلِّ ذَنْبٍ أَنَّهُ لَا تَحْمِلُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ من الْإِثْمِ، وَلَا يَكُونُ لَهَا إلَّا مَا اكْتَسَبَتْ، إلَّا أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وَكَانَ يَرْمِيهِ وَيُشِيعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الْإِفْكِ: إنَّ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَحَمْنَةُ...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

والإفك: الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفاجئك. والعصبة: الجماعة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{إن الذين جاءوا بالإفك} أي أسوأ الكذب لأنه القول المصروف عن مدلوله إلى ضده، المقلوب عن وجهه إلى قفاه، وعرّف زيادة تبشيع له في هذا المقام، حتى كأنه لا إفك إلا هو لأنه في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من أحق الناس بالمدحة لما كانت عليه من الحصانة والشرف والعفة والكرم، فمن رماها بسوء فقد قلب الأمر عن أحسن وجوهه إلى أقبح أقفائه، وترك تسميتها تنزيهاً لها عن هذا المقام، إبعاداً لمصون جانبها العلي عن هذا المرام.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

لما ذكر فيما تقدم، تعظيم الرمي بالزنا عموما، صار ذلك كأنه مقدمة لهذه القصة، التي وقعت على أشرف النساء، أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذه الآيات، نزلت في قصة الإفك المشهورة، الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد.

وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض غزواته، ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت الصديق، فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها، فلم يفقدوها، ثم استقل الجيش راحلا، وجاءت مكانهم، وعلمت أنهم إذا فقدوها، رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم، وكان صفوان بن المعطل السلمي، من أفاضل الصحابة رضي الله عنه، قد عرس في أخريات القوم ونام، فرأى عائشة رضي الله عنها فعرفها، فأناخ راحلته، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه، ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة، فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال، أشاع ما أشاع، ووشى الحديث، وتلقفته الألسن، حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين، وصاروا يتناقلون هذا الكلام، وانحبس الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة، فحزنت حزنا شديدا، فأنزل الله تعالى براءتها في هذه الآيات، ووعظ الله المؤمنين، وأعظم ذلك، ووصاهم بالوصايا النافعة. فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} أي: الكذب الشنيع، وهو رمي أم المؤمنين {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي: جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين، منهم المؤمن الصادق [في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين] ومنهم المنافق.

{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها، والتنويه بذكرها، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد، التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة، فكل هذا خير عظيم، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك، وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا، ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم، وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم، ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، واجتماعهم على مصالحهم، كالجسد الواحد، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه، فليكره من كل أحد، أن يقدح في أخيه المؤمن، الذي بمنزلة نفسه، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة، فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه.

{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك، وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك، وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم منهم جماعة، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} أي: معظم الإفك، وهو المنافق الخبيث، عبد الله بن أبي بن سلول -لعنه الله- {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وبعد الانتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف، يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته؛ وهو يتناول بيت النبوة الطاهرة الكريم، وعرض رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أكرم إنسان على الله، وعرض صديقه الصديق أبي بكر -رضي الله عنه- أكرم إنسان على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وعرض رجل من الصحابة -صفوان بن المعطل رضي الله عنه- يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرا.. وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان..

ذلك هو حديث الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع...

هذا الحادث، حادث الإفك، قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق؛ وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل؛ وعلق قلب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقلب زوجة عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه، وقلب صفوان بن المعطل.. شهرا كاملا، علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق...

وهكذا عاش رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأهل بيته، وعاش أبو بكر -رضي الله عنه- وأهل بيته، وعاش صفوان بن المعطل، وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق، وفي ظل تلك الآلام الهائلة، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات.

وإن الإنسان ليقف متململا أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة، وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة، تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيقة.

فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة، ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها، ونظافة تصوراتها، ها هي ذي ترمى في أعز ما تعتز به، ترمى في شرفها، وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع. وترمى في أمانتها، وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم. وترمى في وفائها، وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القرب الكبير.. ثم ترمى في إيمانها، وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة، وهي زوج رسول الله [صلى الله عليه وسلم].

ها هي ذي ترمى، وهي بريئة غارة غافلة، لا تحتاط لشيء، ولا تتوقع شيئا؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا، تبرئها مما رميت به. ولكن الوحي يتلبث، لحكمة يريدها الله، شهرا كاملا؛ وهي في مثل هذا العذاب.

ويالله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح، وهي مهدودة من المرض، فتعاودها الحمى؛ وهي تقول لأمها في أسى: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ وفي رواية أخرى تسأل: وقد علم به أبي؟ فتجيب أمها: نعم! فتقول: ورسول الله [صلى الله عليه وسلم]؟ -فتجيبها أمها كذلك: نعم!

ويالله لها ورسول الله [صلى الله عليه وسلم] نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه، يقول لها:"أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه".. فتعلم أنه شاك فيها، لا يستيقن من طهارتها، ولا يقضي في تهمتها. وربه لم يخبره بعد، ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها؛ فتمسي وتصبح وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها، وأحلها في سويدائه!

وها هو ذا أبو بكر الصديق- في وقاره وحساسيته وطيب نفسه -يلذعه الألم، وهو يرمى في عرضه، في ابنته زوج محمد- صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل، لا يطلب دليلا من خارجه.. وإذا الألم يفيض على لسانه، وهو الصابر المحتسب القوي على الألم، فيقول: والله ما رمينا بهذا في جاهلية، أفنرضى به في الإسلام؟ وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل، حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة: أجب عني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال في مرارة هامدة: والله ما أدري ما أقول لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]!

وأم رومان -زوج الصديق رضي الله عنهما- وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء، المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها، فتقول لها: يا بنية هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.. ولكن هذا التماسك بتزايل وعائشة تقول لها: أجيبي عني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فتقول كما قال زوجها من قبل: والله ما أدري ما أقول لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]!

والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل، وهو يرمى بخيانة نبيه في زوجه، فيرمى بذلك في إسلامه، وفي أمانته، وفي شرفه، وفي حميته، وفي كل ما يعتز به صحابي، وهو من ذلك كله بريء، وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره، فيقول: سبحان الله! والله ما كشفت كتف أنثى قط. ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الإفك عنه، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به، ودافعه إلى رفع سيفه على امرئ مسلم، وهو منهي عنه، أن الألم قد تجاوز طاقته، فلم يملك زمام نفسه الجريح!

ثم ها هو ذا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو رسول الله، وهو في الذروة من بني هاشم.. ها هو ذا يرمى في بيته، وفي من؟ في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الإبنة والزوجه والحبيبة، وها هو ذا يرمى في طهارة فراشه، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة، وها هو ذا يرمي في صيانة حرمته، وهو القائم على الحرمات في أمته، وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له، وهو الرسول المعصوم من كل سوء.

ها هو ذا [صلى الله عليه وسلم] يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة -رضي الله عنها- يرمى في فراشه وعرضه، وقلبه ورسالته. يرمى في كل ما يعتز به عربي، وكل ما يعتز به نبي.. ها هو ذا يرمى في هذا كله؛ ويتحدث الناس به في المدينة شهرا كاملا، فلا يملك أن يضع لهذا كله حدا. والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهرا كاملا لا يبين فيه بيانا، ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان في هذا الموقف الأليم، يعاني من العار، ويعاني فجيعة القلب؛ ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة، الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق.. والشك يعمل في قلبه -مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله، ولكنه لا يطمئن نهائيا إلى هذه القرائن- والفرية تفوح في المدينة، وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك؛ فلا يملك أن يطرد الشك، لأنه في النهاية بشر، ينفعل في هذا انفعالات البشر، وزوج لا يطيق أن يمس فراشه، ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم.

وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده، فيبعث إلى أسامة بن زيد، حبه القريب إلى قلبه.. ويبعث إلى علي ابن أبي طالب، ابن عمه وسنده، يستشيرهما في خاصة أمره. فأما علي فهو من عصب محمد، وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب. ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد، ابن عمه وكافله، فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه، ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويستقر على قرار. وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من الود لأهله، والتعب لخاطر الفراق، فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين، وكذب المفترين الأفاكين.

ورسول الله [صلى الله عليه وسلم] في لهفة الإنسان، وفي قلق الإنسان، يستمد من حديث أسامة، ومن شهادة الجارية مددا وقوة يواجه بهما القوم في المسجد، فيستعذر ممن نالوا عرضه، ورموا أهله، ورموا رجلا من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء.. فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور -وهم في مسجد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وفي حضرة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة، وقد خدشت قداسة القيادة، ويحز هذا في نفس الرسول [صلى الله عليه وسلم] والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها يصارحها بما يقول الناس؛ ويطلب منها هي البيان الشافي المريح!

وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقة الطاهرة؛ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع؛ ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم.

ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل: "وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي. ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى. ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها"..

ولكن الأمر- كما يبدو من ذلك الاستعراض -لم يكن أمر عائشة- رضي الله عنها -ولا قاصرا على شخصها. فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول [صلى الله عليه وسلم] ووظيفته في الجماعة يومها. بل تجاوزه إلى صلته بربه ورسالته كلها. وما كان حديث الإفك رمية لعائشة وحدها، إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها.. من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة، ويرد المكيدة المدبرة، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام؛ ويكشف عن الحكمة العليا وراء ذلك كله؛ وما يعلمها إلا الله:

إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم. لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم. لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم. والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم.

فهم ليسوا فردا ولا أفرادا؛ إنما هم (عصبة) متجمعة ذات هدف واحد. ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك. إنما هو الذي تولى معظمه. وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة؛ فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية. وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة. ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش؛ وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة. أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة، وعلى رأسها ابن سلول، الحذر الماكر، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة. ولم يقل علانية ما يؤخذ به، فيقاد إلى الحد. إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم، ولا يشهدون عليه. وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهرا كاملا، وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها!

وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم.

ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد:

(لا تحسبوه شرا لكم؛ بل هو خير لكم)..

خير. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأهل بيته. وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله؛ ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. فهي عندئذ لا تقف عند حد. إنما تمضي صعدا إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء.

وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة- بهذه المناسبة -عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم.

أما الآلام التي عاناها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأهل بيته، والجماعة المسلمة كلها، فهي ثمنا لتجربة، وضريبة الابتلاء، الواجبة الأداء!

أما الذين خاضوا في الإفك، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة: "لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم "ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله. وبئس ما اكتسبوه، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى: "والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم" يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم.

والذي تولى كبره، وقاد حملته، واضطلع منه بالنصيب الأوفى، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول. رأس النفاق، وحامل لواء الكيد. ولقد عرف كيف يختار مقتلا، لولا أن الله كان من ورائه محيطا، وكان لدينه حافظا، ولرسوله عاصما، وللجماعة المسلمة راعيا.. ولقد روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال: من هذه؟ فقالوا: عائشة رضي الله عنها.. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها. وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت؛ ثم جاء يقودها!

وهي قولة خبيثة راح يذيعها- عن طريق عصبة النفاق -بوسائل ملتوية. بلغ من خبثها أن تموج المدينة بالفرية التي لا تصدق، والتي تكذبها القرائن كلها. وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين. وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهرا كاملا. وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الأولى.

وإن الإنسان ليدهش- حتى اليوم -كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حينذاك. وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق.

لقد كانت معركة خاضها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك. وخاضها الإسلام. معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وخرج منها منتصرا كاظما لآلامه الكبار، محتفظا بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره. فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله. والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته. والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه.

ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لأفتاه؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه. والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا المنهج في مواجهة الأمور، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والإفك: اسم يدل على كذب لا شبهة فيه فهو بهتان يفجأ الناس. وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء، ومنه سمي أهل سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم قرى قوم لوط أصحاب المؤتفكة لأن قراهم ائتفكت، أي قُلبت وخسف بها فصار أعلاها أسفلها، فكان الإخبار عن الشيء بخلاف حالته الواقعية قلباً له عن حقيقته فسمي إفكاً...

و {جاءوا بالإفك} معناه: قصدوا واهتموا، وأصله: أن الذي يخبر بخبر غريب يقال له: جاء بخبر كذا، لأن شأن الأخبار الغريبة أن تكون مع الوافدين من أسفار أو المبتعدين عن الحي قال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} [الحجرات: 6]؛ فشبه الخبر بقدوم المسافر أو الوافد على وجه المكنية وجعل المجيء ترشيحاً وعدي بباء المصاحبة تكميلاً للترشح.

والإفك: حديث اختلقه المنافقون وراج عند المنافقين ونفر من سذج المسلمين إما لمجرد اتباع النعيق وإما لإحداث الفتنة بين المسلمين...

وذكر {عصبة} تحقير لهم ولقولهم، أي لا يعبأ بقولهم في جانب تزكية جميع الأمة لمن رموهما بالإفك. ووصف العصبة بكونهم {منكم} يدل على أنهم من المسلمين، وفي ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأذى المسلمين...

{لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم} لإزالة ما حصل في نفوس المؤمنين من الأسف من اجتراء عصبة على هذا البهتان الذي اشتملت عليه القصة... والشر المحسوب: أنه أحدث في نفر معصية الكذب والقذف والمؤمنون يودون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائص (فإنهم أهل المدينة الفاضلة). فلما حدث فيهم هذا الاضطراب حسبوه شراً نزل بهم...

ومعنى نفي أن يكون ذلك شراً لهم لأنه يضيرهم بأكثر من ذلك الأسف الزائل وهو دون الشر لأنه آيل إلى توبة المؤمنين منهم فيتمحض إثمه للمنافقين وهم جماعة أخرى لا يضر ضلالهم المسلمين...

والإثم: الذنب وتقدم عند قوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير} في سورة البقرة (219) وعند قوله: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} في سورة الأنعام (120)...

وتولي الأمر: مباشرة عمله والاهتمام به...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

والعصبة: الجماعة التي ترتبط حركتها لتحقيق غاية متحدة...

{لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} لكن ما الخير في هذا الكلام وفي إذاعته؟ قالوا: لأن القرآن حين تتهم عائشة وتنزل براءتها من فوق سبع سموات في قرآن يتلى ويتعبد به إلى يوم القيامة، وحين يفضح قوم على لسان القرآن، لا بد أن يعتبر الآخرون، ويخافوا إن فعلوا مخالفة أن يفتضح أمرهم، لذلك جاء هذا الموقف درسا عمليا لمجتمع الإيمان. نعم، أصبحت هذه الحادثة خيرا، لأنها نوع من التأييد لرسول الله ولدعوته، فالحق- تبارك وتعالى- يؤيد رسوله في الأشياء المسرة ليقطع أمل أعدائه في الانتصار عليه، ولو بالتدليس، وبالمكر ولو بالإسرار والكيد الخفي، ففي ذروة عداء قريش لرسول الله كان إيمان الناس به يزداد يوما بعد يوم. وقد ائتمروا له وكادوا له ليلا ليلة الهجرة، فلم يفلحوا، فحاولوا أن يسحروه، وفعلا صنعوا له سحرا،...

وهنا أيضا عجزوا في تشويه صورة النبوة والنيل من سمعتها، وكأن الحق سبحانه يقول لأعدائه: اقطعوا الأمل فلن تنالوا من محمد أبدا، ومن هنا كانت حادثة الإفك خيرا لجماعة المؤمنين...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

كلمة «الإفك» على وزن «فكر» كما يقول الراغب الأصفهاني: يقصد بها كل مصروف عن وجهه، الذي يحق له أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب «مؤتفكة» ثمّ اطلقت على كل كلام منحرف عن الحق ومجانب للصواب، ومن ذلك يطلق على الكذب «أفك». ويرى «الطبرسي» في مجمع البيان أن الإفك لا يطلق على كل كذبة بل الكذبة الكبيرة التي تبدل الموضوع عن حالته الأصلية، وعلى هذا يستفاد أن كلمة «الإفك» بنفسها تبيّن أهمية هذه الحادثة وكذب التهمة المطروحة.

وأمّا كلمة «العُصبة» فعلى وزنِ «فُعْلَة» مشتقّة من العَصَبْ، وجمعها أعصاب، وهي التي تربط عضلات الجسم بعضها مع بعض، وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم، ثمّ أطلقت كلمة «عصبة» على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة. واستخدام هذه الكلمة يكشف عن الارتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث الإفك، حيث كانوا يشكلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات...

وقال البعض: إن هذه المفردة تستعمل في عشرة إلى أربعين شخصاً. وعلى كل حال فإن القرآن طمأن وهدّأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية متطهرة (لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم)، لأنّه كشف عن حقيقةِ عدد من الأعداء المهزومين أو المنافقين الجبناء، وفضح أمر هؤلاء المرائين، وسوّد وجوههم إلى الأبد. ولو لم تكن هذه الحادثة، لما افتضح أمرهم بهذا الشكل، ولكانوا أكثر خطراً على المسلمين. إنّ هذا الحادث علّم المسلمين أن اتّباع الذين يروّجون الشائعات يجرّهم إلى الشقاء، وأنَّ عليهم أن يَقِفُوا بقوّة أمام هذا العمل. كما علّم هذا الحادث المسلمين درساً آخر، وهو أنَّ لا ينظروا إلى ظاهر الحادِثِ المؤلم، بل عليهم أن يتبحّروا فيه، فقد يكون فيه خيراً كثيراً رغم سوء ظاهره. وممّا يلفت النظر أنّ ذكر ضمير «لكم» يعمّ جميع المؤمنين في هذا الحادث، وهذا حقّ، لأن شرف المؤمنين وكيانهم الاجتماعي لا ينفصل بعضه عن بعض، فهم شركاء في السرّاء والضرّاء...