{ لتركبن طبقا عن طبق } قرأ أهل مكة وحمزة والكسائي :{ لتركبن } بفتح الباء ، يعني لتركبن يا محمد . قال الشعبي ومجاهد : سماء بعد سماء . قال الكلبي : يعني تصعد فيها . ويجوز أن يكون درجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى والرفعة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سعيد بن النضر ، أنبأنا هيثم ، أنبأنا أبو البشر عن مجاهد قال قال ابن عباس : " { لتركبن طبقاً عن طبق } حالاً بعد حال ، قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم " . وقيل : أراد به السماء تتغير لوناً بعد لون ، فتصير تارة كالدهان وتارة كالمهل ، وتنشق بالغمام مرة وتطوى أخرى . وقرأ الآخرون بضم الباء ، لأن المعنى بالناس أشبه ، لأنه ذكر من قبل : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } وشماله وذكر من بعد : { فما لهم لا يؤمنون } وأراد : لتركبن حالاً بعد حال ، وأمراً بعد أمر في موقف القيامة ، يعني : الأحوال تنقلب بهم ، فيصيرون في الآخرة على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا . وعن بمعنى بعد . وقال مقاتل : أي الموت ثم الحياة ثم الموت ثم الحياة . قال عطاء : مرة فقيراً ومرة غنياً . وقال عمرو بن دينار عن ابن عباس : يعني الشدائد وأهوال الموت ، ثم البعث ثم العرض . وقال عكرمة : حالاً بعد حال ، رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ . وقال أبو عبيدة : لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالكم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، أنبأنا أبو عمر الصنعاني من اليمن عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتتعبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراعً ، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ " .
{ لَتَرْكَبُنَّ } [ أي : ] أيها الناس { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } أي : أطوارا متعددة وأحوالا متباينة ، من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى نفخ الروح ، ثم يكون وليدًا وطفلًا ، ثم مميزًا ، ثم يجري عليه قلم التكليف ، والأمر والنهي ، ثم يموت بعد ذلك ، ثم يبعث ويجازى بأعماله ، فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد ، دالة على أن الله وحده هو المعبود ، الموحد ، المدبر لعباده بحكمته ورحمته ، وأن العبد فقير عاجز ، تحت تدبير العزيز الرحيم ،
وقوله - سبحانه - { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } جواب القسم - كما سبق أن أشرنا - .
والمراد بالركوب : الملاقاة والمعاناة ، والخطاب للناس ، والطبق جمع طبقة ، وهى الشئ المساوى لشئ آخر ، والمراد بها هنا : الحالة أو المرتبة ، وعن بمعنى بعد .
أى : وحق الشفق ، والمراد بها هنا : الحالة أو المرتبة ، وعن بمعنى بعد .
أى : وحق الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . . لتلاقن - أيها الناس - أحوالا بعد أحوال ، هى طبقات ومراتب فى الشدة ، بعضها أصعب من بعض ، وهى الموت ، وما يكون بعده من حساب وجزاء يوم القيامة .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } خطاب لجنس الإِنسان المنادى أولا ، باعتبار شموله لأفراده ، والمراد بالركوب : الملاقاة ، والطبق فى الأصل ما طابق غيره مطلقا .
وخص فى العرف بالحال المطابقة لغيرها . . و " عن " للمجاوزة ، أو بمعنى " بعد " والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة أو حالا من فاعل لتركبن ، والظاهر أن " طبقا " منصوب على المفعولية ، أى : لتلاقن حالا كائنة بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها فى الشدة والهول . . منها ما هو فى الدنيا ، ومنها ما هو فى الآخرة .
وقرأ الأخوان - حمزة الكسوائى - وابن كثير { لتركبن } بفتح الباء - على أنه خطاب للإِنسان - أيضا - ، ولكن باعتبار اللفظ ، لا باعتبار الشمول .
وأخرج البخارى عن ابن عباس أنه خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ، أى : لتركبن - أيها الرسول الكريم - أحوال شريفة بعد أخرى من مراتب القرب . أو مراتب من الشدة بعد مراتب من الشدة ، ثم تكون العاقبة لك . .
( لتركبن طبقا عن طبق ) . . أي لتعانون حالا بعد حال ، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال . ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها . والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي ، كقولهم : " إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه " . . وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة . وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق ، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة ، مقدرة كذلك مرسومة ، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم ، الذي تحدثت عنه الفقرة السالفة . . وهذا التتابع المتناسق في فقرات السورة ، والانتقال اللطيف من معنى إلى معنى ، ومن جولة إلى جولة ، هو سمة من سمات هذا القرآن البديع .
وقوله : لَترْكَبُنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأه عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه ، وابن عباس وعامة قرّاء مكة والكوفة : «لَترْكَبَنّ » بفتح التاء والباء . واختلف قارئو ذلك كذلك في معناه ، فقال بعضهم : لتركَبنّ يا محمد أنت حالاً بعد حال ، وأمرا بعد أمر من الشدائد . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ، أن ابن عباس كان يقرأ : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم حالاً بعد حال .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن رجل حدّثه ، عن ابن عباس في «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : منزلاً بعد منزل .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » يقول : حالاً بعد حال .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » يعني : منزلاً بعد منزل ، ويقال : أمرا بعد أمر ، وحالاً بعد حال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، قال : سمعت مجاهدا ، عن ابن عباس «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة في قوله «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : حالاً بعد حال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هَوْذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : حالاً بعد حال .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سأل حفص الحسن عن قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : منزلاً عن منزل ، وحالاً عن حال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شريك ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : سألت مرّة عن قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : حالاً بعد حال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد «لَترْكَبُنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : حالاً بعد حال .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : حالاً عن حال .
قال : ثنا وكيع ، عن نصر ، عن عكرِمة ، قال : حالاً بعد حال .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : لتركبَنّ الأمور حالاً بعد حال .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » يقول : حالاً بعد حال ، ومنزلاً عن منزل .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : «لتَرْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » منزلاً بعد منزل ، وحالاً بعد حال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : أمرا بعد أمر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : أمرا بعد أمر .
وقال آخرون ممن قرأ هذه المقالة ، وقرأ هذه القراءة عُنِي بذلك : لتركبنّ أنت يا محمد سماء بعد سماء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن وأبو العالية «لَترْكَبَنّ » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم طَبَقا عنْ طَبَقٍ السموات .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي الضحى ، عن مسروق «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : أنت يا محمد سماء عن سماء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسماعيل ، عن الشعبيّ ، قال : سماء بعد سماء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : سماء فوق سماء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لتركَبُنّ الاَخرة بعد الأولى . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : الاَخرة بعد الأولى .
وقال آخرون ممن قرأ هذه القراءة : إنما عُنِي بذلك أنها تتغير ضروبا من التغيير ، وتُشَقّقُ بالغمام مرّة ، وتحمرّ أخرى ، فتصير وَرْدة كالدهان ، وتكون أخرى كالمهل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن مرّة ، عن ابن مسعود «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : السماء مرّة كالدّهان ، ومرّة تَشَقّق .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : سمعت أبا الزرقاء الهَمْداني ، وليس بأبي الزرقاء الذي يحدّث في المسح على الجوربين ، قال : سمعت مُرّة الهمداني ، قال : سمعت عبد الله يقول في هذه الاَية : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : السماء .
حدثني عليّ بن سعيد الكندىّ ، قال : حدثنا عليّ بن غراب ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : هي السماء تغبرّ وتحمرّ وتَشَقّق .
حدثنا أبو السائب ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، في قوله : «لَترْكَبُنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : هي السماء تَشَقّق ، ثم تحمرّ ، ثم تنفطر قال : وقال ابن عباس : حالاً بعد حال .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : قرأ عبد الله هذا الحرف : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : السماء حالاً بعد حال ، ومنزلة بعد منزلة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : هي السماء .
حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي فروة ، عن مرّة ، عن ابن مسعود أنه قرأها نصبا ، قال : هي السماء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : هي السماء تغير لونا بعد لون .
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين : لَترْكَبُنّ بالتاء ، وبضمّ الياء ، على وجه الخطاب للناس كافة ، أنهم يركبون أحوال الشدة حالاً بعد حال . وقد ذكر بعضهم أنه قرأ ذلك بالياء ، وبضم الباء ، على وجه الخبر عن الناس كافة ، أنهم يفعلون ذلك .
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب : قراءة من قرأ بالتاء وبفتح الباء ، لأن تأويل أهل التأويل من جميعهم بذلك ورد وإن كان للقراءات الأُخَر وجوه مفهومة . وإذا كان الصواب من القراءة في ذلك ما ذكرنا ، فالصواب من التأويل قول من قال : «لَترْكَبَنّ » أنت يا محمد حالاً بعد حال ، وأمرا بعد أمر من الشدائد . والمراد بذلك ، وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم موجها ، جميع الناس ، أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً .
وإنما قلنا : عُنِي بذلك ما ذكرنا ، أن الكلام قبل قوله : لَترْكَبُنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ جرى بخطاب الجميع ، وكذلك بعده ، فكان أشبه أن يكون ذلك نظير ما قبله وما بعده .
وقوله : طَبَقا عَنْ طَبَقٍ من قول العرب : وقع فُلان في بنات طَبَق : إذا وقع في أمر شديد .
لتركبن طبقا عن طبق حالا بعد حال مطابقة لأختها في الشدة وهو لما طابق غيره فقيل للحال المطابقة أو مراتب من الشدة بعد المراتب هي الموت ومواطن القيامة وأهوالها أو هي وما قبلها من الدواهي على أنه جمع طبقة وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي لتركبن بالفتح على خطاب الإنسان باعتبار اللفظ أو الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى لتركبن حالا شريفة ومرتبة عالية بعد حال ومرتبة أو طبقا من أطباق السماء بعد طبق ليلة المعراج وبالكسر على خطاب النفس وبالياء على الغيبة و عن طبق صفة ل طبقا أو حال من الضمير بمعنى مجاوز ال طبق أو مجاوزين له .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وابن عباس وعمر بخلاف عنهما ، وأبو جعفر والحسن والأعمش وقتادة وابن جبير : «لتركبُن » بضم الباء على مخاطبة الناس ، والمعنى «لتركبن » الشدائد : الموت والبعث والحساب حالاً بعد حال أو تكون من النطفة إلى الهرم كما تقول طبقة بعد طبقة و { عن } تجيء في معنى بعد كما يقال : ورث المجد كابراً عن كابر وقيل المعنى «لتركبن » هذه الأحوال أمة بعد أمة ، ومنه قول العباس بن عبد المطلب عن النبي عليه السلام :
وأنت لما بعثت أشرقت الأ . . . رض وضاءت بنورك الطرق
تنقل من صالب إلى رحم . . . إذا مضى علم بدا طبق{[11711]}
أي قرن من الناس لأنه طبق الأرض ، وقال الأقرع بن حابس : [ البسيط ]
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره . . . وساقني طبق منه إلى طبق{[11712]}
أي حال بعد حال ، وقيل المعنى : «لتركبن » الآخرة بعد الأولى ، وقرأ عمر بن الخطاب أيضاً : «ليركبن » على أنهم غيب ، والمعنى على نحو ما تقدم ، وقال ابو عبيدة ومكحول : المعنى «لتركبن » سنن من قبلكم .
قال القاضي أبو محمد : كما جاء في الحديث : «شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع{[11713]} » ، فهذا هو { طبق عن طبق } ، ويلتئم هذا المعنى مع هذه القراءة التي ذكرنا عن عمر بن الخطاب ، ويحسن مع القراءة الأولى ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وعمرو بن مسعود{[11714]} ومجاهد والأسود ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وعيسى : «لتركبَن » ، بفتح الباء على معنى : أنت يا محمد ، وقيل المعنى : حال بعد حال من معالجة الكفار ، وقال ابن عباس المعنى : سماء بعد سماء في الإسراء ، وقيل هي عدة بالنصر ، أي «لتركَبن » العرب قبيلاً بعد قبيل{[11715]} ، وفتحاً بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك ، قال ابن مسعود : المعنى : «لتركبَن » السماء في أهوال القيامة ، حالاً بعد حال تكون كالمهل وكالدهان وتتفطر وتتشقق ، فالسماء هي الفاعلة ، وقرأ ابن عباس أيضاً وعمر رضي الله عنهما : «ليركبن » بالياء على ذكر الغائب ، فإما أن يراد محمد صلى الله عليه وسلم على المعاني المتقدمة ، وقاله ابن عباس يعني : نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وإما ما قال الناس في كتاب النقاش من أن المراد : القمر ، لأنه يتغير أحوالاً وأسرارا واستهلالا .
وجملة : { لتركبن طبقاً عن طبق } نسج نظمها نسجاً مجملاً لتوفير المعاني التي تذهب إليْها أفهام السامعين ، فجاءت على أبدع ما يُنسج عليه الكلام الذي يُرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسْج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها .
فلمعاني الركوب المجازية ، ولمعاني الطبَق من حقيقي ومجازي ، مُتَّسَع لما تفيده الآية من المعاني ، وذلك ما جعَل لإِيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإِعجاز القرآني .
فأما فعل { لتركبن } فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدةٌ ، منها الغلَب والمتابعة ، والسلوك ، والاقتحام ، والملازمة ، والرفعة .
وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال : رَكب أمراً صعباً وارتكب خطَأ .
وأما كلمة { طبق } فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئاً آخر في حجمه وقدره ، وظاهر كلام « الأساس » و« الصحاح » أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشّيء لمُسَاويه فهو حقيقة في الغِطاء فيكون من الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيَّد كالخِوان والكأس ، وظاهر « الكشاف » أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قَيد الاعتلاء عارضاً بغلبة الاستعمال ، يقال : طابَق النعل النعل .
وأيّامَّا كان فهو اسم على وزن فَعَل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عومل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق . وإما أن يكون أصله اسمَ الطبَق وهو الغطاء لُوحظ فيه التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المُساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة .
ويطلق اسماً مفرداً للغطاء الذي يغطى به ، ومنه قولهم في المثل : « وافَقَ شنّ طبَقه » أي غِطآءَه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساوٍ لما يغطّيه . ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طُبق عليه .
ويطلق اسماً مفرداً أيضاً على شيء متخذ من أدم أوْ عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها ، وكأنه سمي طبقاً لأن أصله أن يستعمل غِطَاءَ الآنية فتوضع فيه أشياء .
ويطلق اسمَ جمععٍ لطبقة : وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثلَه في المقدار إلا أنه مرتفع عليه . وهذا من المجاز يقال : أتانا طَبق من الناس ، أي جماعة .
ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى { عن } من مجاوزة وهي معنى حقيقي ، أو من مرادفةِ كلمة ( بعد ) وهو معنى مجازي .
وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقاً بين المفعول به والحال ، وتزداد هذه المحامل إذا لم تُقْصَر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية : { يا أيها الإنسان إنك كادح } [ الانشقاق : 6 ] الآيات . ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد ، ومن اقتضاء فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل . فتتركب من هذه المحامل معاننٍ كثيرة صالحة لتأويل الآية .
فقيل المعنى : لتركُبن حالاً بعد حال ، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم والأظهرُ أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين « طبق » في الموضعين للتعظيم والتهويل و { عن } بمعنى ( بعد ) والبعدية اعتبارية ، وهي بعدية ارتقاء ، أي لَتُلاقُنَّ هَوْلاً أعظم من هول ، كقوله تعالى : { زدناهم عذاباً فوق العذاب } [ النحل : 88 ] . وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها .
وروى أبو نعيم عن جابر بن عبد الله تفسير الأحوال بأنها أحوال موت وإحياء ، وحشر ، وسعادة أو شقاوة ، ونعيم أو جحيم ، كما كتب الله لكل أحد عند تكوينه رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن كثير هو حديث مُنْكَر وفي إسناده ضعفاء ، أو حالاً بعد حال من شدائد القيامة وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن مع اختلاف في تعيين الحال .
وقيل : { لتركبن } منزلة بعد منزلة على أن طبقاً اسم للمنزلة ، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتَصِيرُنَّ من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة ، أو إن قوماً كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة ، فالتنوين فيهما للتنويع .
وقيل : من كان على صلاح دعاه إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فَوقه ، لأن كل شيء يجرُّ إلى شكله ، أي فتكون الجملة اعتراضاً بالموعظة وتكون { عن } على هذا على حقيقتها للمجاوزة ، والتنوين للتعظيم .
ويحتمل أن يكون الركوب مجازاً في السير بعلاقة الإِطلاق ، أي لتحضُرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى : { إلى ربك يومئذ المساق } [ القيامة : 30 ] وهذا تهديد لمنكريه ، وأن يكون الركوب مستعملاً في المتابعة ، أي لتَتَّبِعُنَّ . وحذف مفعول : « تركبن » بتقدير : ليَتبعن بعضُكم بعضاً ، أي في تصميمكم على إنكار البعث . ودليل المحذوف هو قوله : { طبقاً عن طبق } ويَكون { طبقاً } مفعولاً به وانتصاب { طبقاً } إما على الحال من ضمير { تركبُنّ } . وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية .
وموقع { عن طبق } موقع النعت ل { طبقاً } .
ومعنى { عن } إما المجاوزة ، وإما مرادفة معنى ( بعد ) وهو مجاز ناشىء عن معنى المجاوزة ، ولذلك لما ضمَّن النابغة معنى قولهم : « ورثوا المجد كابراً عن كابر » غيَّر حرف ( عن ) إلى كلمة ( بعد ) فقال :
لآلِ الجُلاَحِ كَابِراً بعدَ كابِر
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر { لتركبن } بضم الموحدة على خطاب الناس . وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى : { يا أيها الإنسان إنك كادح } [ الانشقاق : 6 ] . وحُمل أيضاً على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء ، أي تعتريها أحوال متعاقبة من الانشقاق والطيّ وكونها مرة كالدِّهان ومرة كالمُهل . وقيل : خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية : قيل : هي عِدة بالنَّصر ، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما وجد بعد ذلك ( أي بعد نزول الآية حين قويَ جانبُ المسلمين ) فيكون بشارة للمسلمين ، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة : { إنه ظن أن لن يحور } [ الانشقاق : 14 ] وجملة : { فما لهم لا يؤمنون } [ الانشقاق : 20 ] . وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأه عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه، وابن عباس وعامة قرّاء مكة والكوفة: «لَترْكَبَنّ» بفتح التاء والباء. واختلف قارئو ذلك كذلك في معناه، فقال بعضهم: لتركَبنّ يا محمد أنت حالاً بعد حال، وأمرا بعد أمر من الشدائد...
ابن عباس كان يقرأ: «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ» يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم حالاً بعد حال ....
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين: لَترْكَبُنّ بالتاء، وبضمّ الياء، على وجه الخطاب للناس كافة، أنهم يركبون أحوال الشدة حالاً بعد حال.
وقد ذكر بعضهم أنه قرأ ذلك بالياء، وبضم الباء، على وجه الخبر عن الناس كافة، أنهم يفعلون ذلك.
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب: قراءة من قرأ بالتاء وبفتح الباء، لأن تأويل أهل التأويل من جميعهم بذلك ورد وإن كان للقراءات الأُخَر وجوه مفهومة. وإذا كان الصواب من القراءة في ذلك ما ذكرنا، فالصواب من التأويل قول من قال: «لَترْكَبَنّ» أنت يا محمد حالاً بعد حال، وأمرا بعد أمر من الشدائد.
والمراد بذلك، وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم موجها، جميع الناس، أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً. وإنما قلنا: عُنِي بذلك ما ذكرنا، أن الكلام قبل قوله: لَترْكَبُنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ جرى بخطاب الجميع، وكذلك بعده، فكان أشبه أن يكون ذلك نظير ما قبله وما بعده. وقوله: طَبَقا عَنْ طَبَقٍ من قول العرب: وقع فُلان في بنات طَبَق: إذا وقع في أمر شديد...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها: سماء بعد سماء، قاله ابن مسعود والشعبي.
الثاني: حالاً بعد حال، فطيماً بعد رضيع وشيخاً بعد شاب، قاله عكرمة...
الثالث: أمراً بعد أمر، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقراً بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسقماً بعد صحة، قاله الحسن.
الرابع: منزلة بعد منزلة، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، وقوم كانوا مرتفعين في الدنيا فاتضعوا في الآخرة، قاله سعيد بن جبير.
الخامس: عملاً بعد عمل، يعمل الآخر عمل الأول، قاله السدي.
السادس: الآخرة بعد الأولى، قاله ابن زيد.
السابع: شدة بعد شدة، حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء، وفي كل حال من هذه شدة، وقد روى معناه جابر مرفوعاً...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
جواب القسم، ومعناه منزلة عن منزلة وطبقة عن طبقة وذلك أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأن كل شيء يحن إلى شكله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{طَبَقاً عَن طَبقٍ} أي حالاً بعد حال: كل واحدة مطابقة لأختها في الشدّة والهول: ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة...
على معنى: لتركبنّ أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها. فإن قلت: ما محل عن طبق؟ قلت: النصب على أنه صفة لطبقاً، أي: طبقا مجاوزاً لطبق. أو حال من الضمير في لتركبنّ، أي: لتركبن طبقاً مجاوزين لطبق. أو مجاوزاً أو مجاوزة،...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال البخاري: أخبرنا سعيد بن النضر، أخبرنا هُشَيم، أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد قال: قال ابن عباس: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حالا بعد حال -قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم. هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ، وهو محتمل أن يكون ابن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون قوله: "نبيكم " مرفوعا على الفاعلية من " قال " وهو الأظهر، والله أعلم، كما قال أنس: لا يأتي عام إلا والذي بعده شَرٌّ منه، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لتركبن} أي أيها المكلفون -هذا على قراءة الجماعة بضم الباء دلالة على حذف واو- الجمع، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتحها على أن الخطاب للانسان باعتبار اللفظ {طبقاً} مجاوزاً {عن طبق} أي حالاً بعد حال من أطوار الحياة وأدوار العيش وغمرات الموت ثم من- أمور البرزخ وشؤون البعث ودواهي الحشر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أي لَتُعانُنَّ حالا بعد حال، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال. ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها. والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي، كقولهم: "إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه".. وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة. وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة، مقدرة كذلك مرسومة، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق. حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة: {لتركبن طبقاً عن طبق} نسج نظمها نسجاً مجملاً لتوفير المعاني التي تذهب إليْها أفهام السامعين، فجاءت على أبدع ما يُنسج عليه الكلام الذي يُرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسْج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها. فلمعاني الركوب المجازية، ولمعاني الطبَق من حقيقي ومجازي، مُتَّسَع لما تفيده الآية من المعاني، وذلك ما جعَل لإِيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإِعجاز القرآني. فأما فعل {لتركبن} فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدةٌ، منها الغلَب والمتابعة، والسلوك، والاقتحام، والملازمة، والرفعة. وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال: رَكب أمراً صعباً وارتكب خطَأ. وأما كلمة {طبق} فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئاً آخر في حجمه وقدره، وظاهر كلام « الأساس» و« الصحاح» أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشّيء لمُسَاويه فهو حقيقة في الغِطاء فيكون من الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيَّد كالخِوان والكأس، وظاهر « الكشاف» أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قَيد الاعتلاء عارضاً بغلبة الاستعمال، يقال: طابَق النعل النعل. وأيّامَّا كان فهو اسم على وزن فَعَل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عومل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق. وإما أن يكون أصله اسمَ الطبَق وهو الغطاء لُوحظ فيه التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المُساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة. ويطلق اسماً مفرداً للغطاء الذي يغطى به، ومنه قولهم في المثل: « وافَقَ شنّ طبَقه» أي غِطآءَه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساوٍ لما يغطّيه. ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طُبق عليه. ويطلق اسماً مفرداً أيضاً على شيء متخذ من أدم أوْ عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها، وكأنه سمي طبقاً لأن أصله أن يستعمل غِطَاءَ الآنية فتوضع فيه أشياء. ويطلق اسمَ جمعٍ لطبقة: وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثلَه في المقدار إلا أنه مرتفع عليه. وهذا من المجاز يقال: أتانا طَبق من الناس، أي جماعة. ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى {عن} من مجاوزة وهي معنى حقيقي، أو من مرادفةِ كلمة (بعد) وهو معنى مجازي. وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقاً بين المفعول به والحال، وتزداد هذه المحامل إذا لم تُقْصَر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية: {يا أيها الإنسان إنك كادح} [الانشقاق: 6] الآيات. ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد، ومن اقتضاء فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل. فتتركب من هذه المحامل معانٍ كثيرة صالحة لتأويل الآية. فقيل المعنى: لتركُبن حالاً بعد حال، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم والأظهرُ أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين « طبق» في الموضعين للتعظيم والتهويل و {عن} بمعنى (بعد) والبعدية اعتبارية، وهي بعدية ارتقاء، أي لَتُلاقُنَّ هَوْلاً أعظم من هول، كقوله تعالى: {زدناهم عذاباً فوق العذاب} [النحل: 88]. وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها...
وقيل: {لتركبن} منزلة بعد منزلة على أن طبقاً اسم للمنزلة، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتَصِيرُنَّ من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة، أو إن قوماً كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، فالتنوين فيهما للتنويع. وقيل: من كان على صلاح دعاه إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فَوقه، لأن كل شيء يجرُّ إلى شكله، أي فتكون الجملة اعتراضاً بالموعظة وتكون {عن} على هذا على حقيقتها للمجاوزة، والتنوين للتعظيم. ويحتمل أن يكون الركوب مجازاً في السير بعلاقة الإِطلاق، أي لتحضُرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى: {إلى ربك يومئذ المساق} [القيامة: 30] وهذا تهديد لمنكريه، وأن يكون الركوب مستعملاً في المتابعة، أي لتَتَّبِعُنَّ. وحذف مفعول: « تركبن» بتقدير: ليَتبعن بعضُكم بعضاً، أي في تصميمكم على إنكار البعث. ودليل المحذوف هو قوله: {طبقاً عن طبق} ويَكون {طبقاً} مفعولاً به وانتصاب {طبقاً} إما على الحال من ضمير {تركبُنّ}. وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية. وموقع {عن طبق} موقع النعت ل {طبقاً}. ومعنى {عن} إما المجاوزة، وإما مرادفة معنى (بعد) وهو مجاز ناشىء عن معنى المجاوزة، ولذلك لما ضمَّن النابغة معنى قولهم: « ورثوا المجد كابراً عن كابر» غيَّر حرف (عن) إلى كلمة (بعد) فقال: لآلِ الجُلاَحِ كَابِراً بعدَ كابِر...