19- وما كان الناس في تكوينهم إلا أمة واحدة بمقتضى الفطرة ، ثم بعثنا إليهم الرسل لإرشادهم وهدايتهم بمقتضى وحى الله تعالى ، فكانت تلك الطبيعة الإنسانية التي استعدت للخير والشر سبباً في أن يغلب الشر على بعضهم ، وتحكم الأهواء ونزغات الشيطان ، فاختلفوا بسبب ذلك . ولولا حكم سابق من ربك بإمهال الكافرين بك - أيها النبي - وإرجاء هلاكهم إلى موعد محدد عنده ، لعجل لهم الهلاك والعذاب ، بسبب الخلاف الذي وقعوا فيه ، كما وقع لأمم سابقة .
قوله تعالى : { وما كان الناس إلا أمة واحدة } ، أي : على الإسلام . وقد ذكرنا الاختلاف فيه في سورة البقرة . { فاختلفوا } ، وتفرقوا إلى مؤمن وكافر ، { ولولا كلمة سبقت من ربك } ، بأن جعل لكل أمة أجلا . وقال الكلبي : هي إمهال هذه الأمة وأنه لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا ، { لقضي بينهم } ، بنزول العذاب وتعجيل العقوبة للمكذبين ، وكان ذلك فصلا بينهم ، { فيما فيه يختلفون } ، وقال الحسن : ولولا كلمة سبقت من ربك ، مضت في حكمه أنه : لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة ، لقضي بينهم في الدنيا فأدخل المؤمن الجنة والكافر النار ، ولكنه سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة .
{ 19 - 20 ْ } { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ْ }
أي : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً ْ } متفقين على الدين الصحيح ، ولكنهم اختلفوا ، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .
{ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ْ } بإمهال العاصين وعدم معاجلتهم بذنوبهم ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ْ } بأن ننجي المؤمنين ، ونهلك الكافرين المكذبين ، وصار هذا فارقا بينهم { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ْ } ولكنه أراد امتحانهم وابتلاء بعضهم ببعض ، ليتبين الصادق من الكاذب .
ثم بين - سبحانه - أن عبادة الناس لغيره - تعالى - إنما حدثت بعد أن اختلفوا واتبعوا الهوى . فقال :
{ وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا . . . }
المراد بالناس : الجنس البشرى كله في جملته ، فإنهم كانوا أمة واحدة . ثم كثروا وتفرقوا وصاروا شعوبا وقبائل .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالناس هنا : العرب خاصة ، فإنهم كانوا حنفاء على ملة إبراهيم ، إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحى الذي ابتدع لهم عبادة الأصنام .
قال الآلوسى : " قوله { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا } أى : وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف ، وروى هذا عن ابن عباس والسدى ومجاهد . . وذلك من عهد آدم - عليه السلام - إلأى أن قتل قابيل هابيل . وقيل إلى زمن إدريس - عليه السلام - وقيل إلى زمن نوح . وقيل كانا كذلك في زمنه - عليه السلام - بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر .
وقيل : من لدن إبراهيم - عليه السلام - إلى أن أظهر عمرو بن لحي عبادة الأصنام ، وهو المروى عن عطاء . وعليه فالمراد من الناس العرب خاصة ، وهو الأنسب بإبراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى عنهم من رذائل ، وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك .
وقوله : { فاختلفوا } أى ما بين ضال ومهتد ، فبعث الله إليهم رسله ، ليبشروا المهتدين بجزيل الثواب ، ولينذروا الضالين بسوء العقاب .
والفاء للتعقيب ، وهى لا تنافي امتداد زمان اتفاقهم على الحق ، لأن المراد بيان أن ووقع الاختلاف بينهم إنما حدث عقيب انتهاء مدة الاتفاق ، لا عقيب حدوثه .
والمراد بالكلمة في قوله : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ . . . } ما قضاه الله - تعالى - وأراده من تأخير الحكم بين المؤمنين وغيرهم إلى يوم القيامة .
أى : ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير القضاء بين الطائعين والعاصين إلى يوم القيامة ، لقضي بينهم - سبحانه - في هذه الدنيا . فيما كانوا يختلفون فيه وذلك بأن يعجل للكافرين والعصاة العقوبة في الدنيا قبل الآخرة ، ولكنه - سبحانه - اقتضت حكمته عدم تعجيل العقوبة في الدنيا ، وأن يجعل الدار الآخرة هي دار الجزاء والثواب والعقاب .
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة الوعيد الشديد على الاختلاف المؤدي إلى التفرقة في الدين ، وإلى الشقاق والنزاع ، كما تضمنت تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه : فكأنه - سبحانه - يقول إن الاختلاف من طبيعة البشر ، فلا تنتظر من الناس جميعا أن يكونوا مؤمنين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ النّاسُ إِلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما كان الناس إلا أهل دين واحد وملة واحدة ، فاختلفوا في دينهم ، فافترقت بهم السبل في ذلك . وَلوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ يقول : ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يقول : لقضي بينهم بأن يهلك أهل الباطل منهم وينجي أهل الحقّ .
وقد بيّنا اختلاف المختلفين في معنى ذلك في سورة البقرة ، وذلك في قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبَيّينَ وبيّنا الصواب من القول فيه بشواهده فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما كانَ النّاسُ إلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا حين قتل أحد ابني آدم أخاه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
قالت فرقة : المراد آدم كان أمة واحدة ثم اختلف الناس بعد في أمر ابنيه وقالت فرقة : المراد نسم بنيه إذ استخرجهم الله من ظهره وأشهدهم على أنفسهم وقالت فرقة : المراد آدم وبنوه من لدن نزوله إلى قتل أحد ابنيه الآخر ، وقالت فرقة : المراد { وما كان الناس إلا أمة واحدة } في الضلالة والجهل بالله فاختلفوا فرقاً في ذلك بحسب الجهالة ، ويحتمل أن يكون المعنى كان الناس صنفاً واحداً معداً للاهتداء ، واستيفاء القول في هذا متقدم في سورة البقرة في قوله { كان الناس أمة واحدة }{[6051]} . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر ونافع وشيبة وأبو عمرو «لقُضِي بينهم » بضم القاف وكسر الضاد ، وقرأ عيسى بن عمر «لقَضى » بفتحهما على الفعل الماضي ، وقوله { ولولا كلمة سبقت من ربك } يريد قضاءه وتقديره لبني آدم بالآجال المؤقتة ، ويحتمل أن يريد الكلمة ، في أمر القيامة وأن العقاب والثواب إنما كان حينئذ . {[6052]}