البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَٱخۡتَلَفُواْۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡ فِيمَا فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (19)

لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام ، ذكر الحامل على ذلك وهو الاختلاف الحادث بين الناس ، والظاهر عموم الناس .

ويتصور في آدم وبينه إلى أنْ وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر ، وقاله : أبي بن كعب .

وقال الضحاك : المراد أصحاب سفينة نوح ، اتفقوا على الحنيفية ودين الإسلام .

وعن ابن عباس : من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم ورد بأنه عبد في زمان نوح عليه السلام الأصنام كود ، وسواع .

وحكى ابن القشيري أنّ الناس قوم إبراهيم إلى أنْ غيّر الدين عمرو بن لحي .

وقال ابن زيد : هم الذين أخذ عليهم الميثاق يوم : { ألست بربكم } لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم .

وقال الأصم : هم الأطفال المولودون كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ ، وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد بالناس هنا آدم وحده ، وهو مروي عن : مجاهد ، والسدّي ، وعبر عنه بالأمة لأنه جامع لأنواع الخير .

وهذه الأقوال هي على أنّ المراد بأمة واحدة في الإسلام والإيمان .

وقيل : في الشرك .

وأريد قوم إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر ، فآمن بعضهم ، واستمر بعضهم على الكفر .

أو من كان قبل البعث من العرب وأهل الكتاب كانوا على الكفر والتبديل والتحريف ، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بعضهم ، أو العرب خاصة ، أقوال ثالثها للزجاج .

والظاهر أنّ المراد بقوله : أمة واحدة في الإسلام ، لأنّ هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام ، فلا يناسب أنْ يقوي عباد الأصنام .

فإنّ الناس كانوا على ملة الكفر ، إنما المناسب أن يقال : إنهم كانوا على الإسلام حتى تحصل النفرة من اتباع غير ما كان الناس عليه .

وأيضاً فقوله : ولولا كلمة ، هو وعيد ، فصرفه إلى أقرب مذكور وهو الاختلاف ، هو الوجه والاختلاف بسبب الكفر ، هو المقتضى للوعيد ، لا الاختلاف الذي هو بسبب الإيمان ، إذ لا يصلح أن يكون سبباً للوعيد ، وقد تقدم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله : { كان الناس أمة واحدة } ولكنْ أعدنا الكلام فيه لبعده .

والكلمة هنا هو القضاء ، والتقدير : لبني آدم بالآجال المؤقتة .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة ، وأنّ العقاب والثواب إنما يكون حينئذ .

وقال الزمخشري : هو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة يقضي بينهم عاجلاً فيما اختلفوا فيه ، وتمييز المحق من المبطل .

وسبقت كلمة الله بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف ، وتلك دار ثواب وعقاب .

وقال الكلبي : الكلمة أنّ الله أخبر هذه الأمة لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة ، فلولا هذا التأخير لقضى بينهم بنزول العذاب ، أو بإقامة الساعة .

وقيل : الكلمة السابقة أنْ لا يأخذ أحداً إلا بحجة وهو إرسال الرسل .

وقيل : الكلمة قوله : { سبقت رحمتى غضبى } ولولا ذلك ما أخر العصاة إلى التوبة .