199- إن بعض أهل الكتاب يؤمنون بالله وبما أنزل على محمد وبما أنزل على الرسل من قبله ، تراهم خاضعين لله ضارعين إليه ، لا يستبدلون بالبينات الظاهرة عرضاً من أعراض الدنيا مهما عظم فهو قليل ، هؤلاء لهم الجزاء الأوفى في دار الرضوان عند ربهم والله سريع الحساب لا يعجزه إحصاء أعمالهم ومحاسبتهم عليها ، وهو قادر على ذلك وجزاؤه نازل بهم لا محالة .
قوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } . الآية ، قال ابن عباس وجابر وأنس وقتادة : نزلت في النجاشي ملك الحبشة ، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية ، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه " اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم ، النجاشي " فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات ، واستغفر له ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط ، وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال عطاء : نزلت في أهل نجران أربعين رجلاً ، اثنان وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى عليه السلام ، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن جريج : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ) .
قوله تعالى : { وما أنزل إليكم } . يعني القرآن .
قوله تعالى : { وما أنزل إليهم } . يعني : التوراة والإنجيل .
قوله تعالى : { خاشعين لله } . خاضعين متواضعين لله .
قوله تعالى : { لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً } . يعني : لا يحرفون كتبهم ، ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكلة ، كفعل غيرهم من رؤساء اليهود .
قوله تعالى : { أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب } .
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
أي : وإن من أهل الكتاب طائفة موفقة للخير ، يؤمنون بالله ، ويؤمنون بما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وهذا الإيمان النافع لا كمن يؤمن ببعض الرسل والكتب ، ويكفر ببعض .
ولهذا -لما كان إيمانهم عاما حقيقيا- صار نافعا ، فأحدث لهم خشية الله ، وخضوعهم لجلاله الموجب للانقياد لأوامره ونواهيه ، والوقوف عند حدوده .
وهؤلاء أهل الكتاب والعلم على الحقيقة ، كما قال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ومن تمام خشيتهم لله ، أنهم { لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا } فلا يقدمون الدنيا على الدين كما فعل أهل الانحراف الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنا قليلا ، وأما هؤلاء فعرفوا الأمر على الحقيقة ، وعلموا أن من أعظم الخسران ، الرضا بالدون عن الدين ، والوقوف مع بعض حظوظ النفس السفلية ، وترك الحق الذي هو : أكبر حظ وفوز في الدنيا والآخرة ، فآثروا الحق وبينوه ، ودعوا إليه ، وحذروا عن الباطل ، فأثابهم الله على ذلك بأن وعدهم الأجر الجزيل ، والثواب الجميل ، وأخبرهم بقربه ، وأنه سريع الحساب ، فلا يستبطؤون ما وعدهم الله ، لأن ما هو آت محقق حصوله ، فهو قريب .
ثم بين - سبحانه - أن أهل الكتاب ليسوا سواء . بل منهم الأشرار ومنهم الأخيار ، وقد بين - سبحانه - هنا صفات الأخيار منهم فقال : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } .
أى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب } وهم اليهود والنصارى لفريقاً { يُؤْمِنُ بالله } إيمانا حقا منزها عن الإشراك بكل مظاهره ويؤمن بما { أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن الكريم على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بحقيقة " ما أنزل إليهم " من التوراة والإنجيل ولا يزالون مع هذا الإيمان العميق { خَاشِعِينَ للَّهِ } أى خاضعين له - سبحانه - خائفين من عقابه ، طالبين لرضاه { لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } أى لا يبيعون آيات الله أو حقيقة من حقائق دينهم فى نظير ثمن هو عرض من أعراض الدنيا الفانية ، لأن هذا الثمن المأخوذ قليل حتى ولو بلغ القناطير المقنطرة من الذهب والفضة .
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد وصفهم بخمس صفات كريمة تدل على صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم ، وفى هذا إنصاف من القرآن الكريم للمهتدين من أهل الكتاب .
وقد ذكر القرآن ما يشبه هذه الآية فى كثير من سوره ومن ذلك قوله - تعالى - { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } وقوله - تعالى - { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } وقدم - سبحانه - إيمانهم بالقرآن على إيمانهم بما أنزل عليهم لأن القرآن هو المهيمن على الكتب السماوية والأمين عليها ، فما وافقه منها فهو حق وما خالفه فهو باطل وقوله { خَاشِعِينَ للَّهِ } حال من فاعل { يُؤْمِنُ } وجمع حملا على المعنى :
ثم بين - سبحانه - جزاءهم الطيب بعد بيان صفاتهم الكريمة فقال : { أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .
أى أولئك الموصفون بتلك الصفات الكريمة لهم أجرهم الجزيل فى مقابل أعمالهم الصالحة وأفعالهم الحميدة .
وقوله { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق وأنه يوفيها لكل عامل على ما ينبغى وقدر ما ينبغى .
ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر ؛ فإن سرعة الحساب تستدعى سرعة الجزاء فكأنه قيل : لهم أجرهم عند ربهم عن قريب ، لأن الله - تعالى - سريع الحساب والجزاء .
{ وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلََئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عنى بها أصحمة النجاشي ، وفيه أنزلت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عصام بن زياد بن رواد بن الجراح ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «اخْرُجُوا فَصَلّوا على أخٍ لَكُمْ ! » فصلى بنا ، فكبر أربع تكبيرات ، فقال : «هَذَا النّجاشِي أصَحمةُ » ، فقال المنافقون : انظروا هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط ! فأنزل الله : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُوْمِنُ باللّهِ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ أخاكُمْ النّجاشِيّ قَدْ ماتَ فَصَلّوا عَلَيّهِ ! » قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم ؟ قال : فنزلت : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خاشِعِينَ للّهِ } قال قتادة : فقالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة . فأنزل الله : { ولِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ } ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت في النجاشي وفي ناس من أصحابه آمنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم ، وصدقوا به . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم استغفر للنجاشي ، وصلى عليه حين بلغه موته ، قال لأصحابه : «صَلّوا على أخٍ لَكُمْ قَدْ ماتَ بِغَيْرِ بِلادِكُمْ ! » فقال أناس من أهل النفاق : يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه ! فأنزل الله هذه الاَية : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بآياتِ اللّهِ ثَمَنا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ } قال : نزلت في النجاشي وأصحابه ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، واسم النجاشي أصحمة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : قال عبد الرزاق ، وقال ابن عيينة : اسم النجاشي بالعربية عطية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، طعن في ذلك المنافقون ، فنزلت هذه الاَية : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ } . . . إلا آخر الاَية .
وقال آخرون : بل عنى بذلك عبد الله بن سلام ومن معه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : نزلت يعني هذه الاَية في عبد الله بن سلام ومن معه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن زيد في قوله : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ } . . . الاَية كلها ، قال : هؤلاء يهود .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : مسلمة أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ } من اليهود والنصارى ، وهم مسلمة أهل الكتاب .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية ما قاله مجاهد ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله : { وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ } أهل الكتاب جميعا ، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود ، ولا اليهود دون النصارى ، وإنما أخبر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله ، وكلا الفريقين ، أعني اليهود والنصارى ، من أهل الكتاب .
فإن قال قائل : فما أنت قائل في الخبر الذي رويت عن جابر وغيره أنها نزلت في النجاشي وأصحابه ؟ قيل : ذلك خبر في إسناده نظر ، ولو كان صحيحا لا شكّ فيه لم يكن لما قلنا في معنى الاَية بخلاف ، وذلك أن جابرا ومن قال بقوله إنما قالوا : نزلت في النجاشي ، وقد تنزل الاَية في الشيء ثم يعمّ بها كلّ من كان في معناه . فالاَية وإن كانت نزلت في النجاشي ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي حكما لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في اتباعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق بما جاءهم به من عند الله ، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين : التوراة والإنجيل . فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الاَية : وإن من أهل الكتاب التوراة والإنجيل لمن يؤمن بالله ، فيقرّ بوحدانيته ، وما أنزل إليكم أيها المؤمنون ، يقول : وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه ، على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إليهم ، يعني : وما أنزل على أهل الكتاب من الكتب ، وذلك التوراة والإنجيل والزبور ، خاشعين لله ، يعني : خاضعين لله بالطاعة ، مستكينين له بها متذللين . كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن زيد في قوله : { خاشِعِينَ لِلّهِ } قال : الخاشع : المتذلل لله الخائف .
ونصب قوله : { خاشِعِينَ لِلّهِ } على الحال من قوله : { لَمَنْ يُؤمِنُ باللّهِ } وهو حال مّما في «يؤمن » من ذكر «من » .
{ لا يَشْتَرُونَ بآيَاتِ اللّهِ ثَمَنا قَلِيلاً } يقول : لا يحرّفون ما أنزل إليهم في كتبه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيبدلونه ، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه ، لعرض من الدنيا خسيس ، يعطونه على ذلك التبديل ، وابتغاء الرياسة على الجهال ، ولكن ينقادون للحقّ ، فيعملون بما أمرهم الله به ، فيما أنزل إليهم من كتبه ، وينتهون عما نهاهم عنه فيها ، ويؤثرون أمر الله تعالى على هوى أنفسهم .
القول في تأويل قوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { أولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ } : هؤلاء الذين يؤمنون بالله ، وما أنزل إليكم ، وما أنزل إليهم ، لهم أجرهم عند ربهم¹ يعني : لهم عوض أعمالهم التي عملوها ، وثواب طاعتهم ربهم فيما أطاعوه فيه عند ربهم ، يعني : مذخور ذلك لهم لديه ، حتى يصيروا إليه في القيامة ، فيوفيهم ذلك { إنّ اللّهَ سريعُ الحسابِ } وسرعة حسابه تعالى ذكره ، أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها ، وبعد ما عملوها ، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك ، فيقع في الإحصاء إبطاء ، فلذلك قال : { إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن من أهل الكتاب}، يعني ابن سلام، {لمن يؤمن بالله}، يعني يصدق بالله، {وما أنزل إليكم}، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، {وما أنزل إليهم} من التوراة، ثم نعتهم، فقال: {خاشعين لله}، يعني متواضعين لله، {لا يشترون بآيات الله}، يعني بالقرآن {ثمنا قليلا}، يعني عرضا يسيرا من الدنيا كفعل اليهود بما أصابوا من سفلتهم من المأكل من الطعام والثمار عند الحصاد، ثم قال يعني مؤمني أهل التوراة ابن سلام وأصحابه، {أولئك لهم أجرهم}، يعني جزاؤهم في الآخرة {عند ربهم}، وهي الجنة، {إن الله سريع الحساب}، يقول: كأنه قد جاء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية؛
فقال بعضهم: عنى بها أصحمة النجاشي، وفيه أنزلت...
وقال آخرون: بل عنى بذلك عبد الله بن سلام ومن معه...
وقال آخرون: بل عنى بذلك: مسلمة أهل الكتاب... عن مجاهد: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَما أنْزِلَ إلَيْكُمْ} من اليهود والنصارى، وهم مسلمة أهل الكتاب.
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد، وذلك أن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ} أهل الكتاب جميعا، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود، ولا اليهود دون النصارى، وإنما أخبر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله، وكلا الفريقين، أعني اليهود والنصارى، من أهل الكتاب...
فتأويل الآية: وإن من أهل الكتاب التوراة والإنجيل لمن يؤمن بالله، فيقرّ بوحدانيته، وما أنزل إليكم أيها المؤمنون، يقول: وما أنزل إليكم من كتابه ووحيه، على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إليهم، يعني: وما أنزل على أهل الكتاب من الكتب، وذلك التوراة والإنجيل والزبور، خاشعين لله، يعني: خاضعين لله بالطاعة، مستكينين له بها متذللين...
{لا يَشْتَرُونَ بآيَاتِ اللّهِ ثَمَنا قَلِيلاً} يقول: لا يحرّفون ما أنزل إليهم في كتبه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيبدلونه، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فيه، لعرض من الدنيا خسيس، يعطونه على ذلك التبديل، وابتغاء الرياسة على الجهال، ولكن ينقادون للحقّ، فيعملون بما أمرهم الله به، فيما أنزل إليهم من كتبه، وينتهون عما نهاهم عنه فيها، ويؤثرون أمر الله تعالى على هوى أنفسهم.
{أُولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {أولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ}: هؤلاء الذين يؤمنون بالله، وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم، لهم أجرهم عند ربهم، يعني: لهم عوض أعمالهم التي عملوها، وثواب طاعتهم ربهم فيما أطاعوه فيه عند ربهم، يعني: مذخور ذلك لهم لديه، حتى يصيروا إليه في القيامة، فيوفيهم ذلك {إنّ اللّهَ سريعُ الحسابِ} وسرعة حسابه تعالى ذكره، أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها، وبعد ما عملوها، فلا حاجة به إلى إحصاء عدد ذلك، فيقع في الإحصاء إبطاء، فلذلك قال: {إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب" لنفوذ علمه في كل شيء، فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من الأجر. ويجوز أن يراد: إنما توعدون لآت قريب بعد ذكر الموعد.
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار من قبل، بأن مصيرهم إلى النار بين في هذه الآية أن من آمن منهم كان داخلا في صفة الذين اتقوا فقال: {وإن من أهل الكتاب} اعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار من قبل، بأن مصيرهم إلى النار بين في هذه الآية أن من آمن منهم كان داخلا في صفة الذين اتقوا فقال: {وإن من أهل الكتاب} واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات: أولها: الإيمان بالله، وثانيها: الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم. وثالثها: الإيمان بما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد عليه الصلاة والسلام. ورابعها: كونهم خاشعين لله وهو حال من فاعل يؤمن لأن من يؤمن في معنى الجمع. وخامسها: أنهم لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا كما يفعله أهل الكتاب ممن كان يكتم أمر الرسول وصحة نبوته.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... قال الأستاذ الإمام: إنه بعد أن بيّن حال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب، وذكر حال الكافرين وما أعدّ لهم من العقاب، ذكر فريقا من أهل الكتاب، يهتدون بهذا القرآن، وكانوا مهتدين من قبله ما عندهم من هدى الأنبياء، وذكر من وصفهم الخشوع لله، وما كل من يدعي الإيمان بالكتاب خاشع لله. وهذا الخشوع هو روح الدين وهو السائق لهم إلى الإيمان بالنبي الجديد، وهو الذي حال بينهم وبين أن يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. وهذا الثمن يعم المال والجاه؛ فإن منه التمتع بما كانوا فيه من ذلك وإن صعبا على الإنسان أن يترك ما ألفه. وخص هؤلاء بالذكر على كونهم من المؤمنين الذين وعدوا بما تقدم ذكره في مقابلة الكافرين لأجل القدوة بهم في صبرهم على الحق في الدين السابق والدين اللاحق. وذكر إيمانهم بصيغة التأكيد لأن أهل الكتاب- بغرورهم بكتابهم وتوهمهم الاستغناء بما عندهم من غيره كانوا أبعد الناس على الإيمان وكان من الغرابة بعد ذلك العناد ومكابرة النبي صلى الله عليه وسلم وحسده على النبوة والتشديد في إيذائه أن يؤمن بعضهم إيمانا صحيحا كاملا. ولهذا كان المؤمنون منهم قليلين وكانوا من خيارهم علما وفضلا وبصيرة. وإننا نرى علماءنا الأذكياء في هذا العصر قلما يرجعون عن عقيدة أو رأي في الدين جروا عليه وتلقوه عن مشايخهم وقرؤوه في كتبهم، وإن كان باطلا وخطأ ظاهرا.
وفي هذه الآية تأييد لكون حال المؤمنين على ما كانوا عليه من ضيق خيرا من حال الكافرين على ما كانوا عليه من سعة، كأنه يقول انظروا إلى حال الأخيار من أهل الكتاب كيف لا يحفلون بذلك المتاع الدنيوي. بل يؤثرون عليه ما عند الله تعالى. فهذا من باب المثل والأسوة للمسلمين.
إحداها: الإيمان بالله، يعني الإيمان الصحيح الذي لا تشوبه نزعات الشرك ولا يفارقه الإذعان الباعث على العمل، لا كمن قال فيهم (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) [البقرة: 8] ولا من قال فيهم: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) [يوسف: 106].
ثانيها: الإيمان بما أنزل إلى المسلمين وهو ما أوحاه الله إلى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقدمه على ما بعده لأنه العمدة الذي عليه العمل وله الهيمنة والحكم الفصل في الخلاف لثبوته باليقين؛ وعدم طروء الضياع عليه والتحريف.
ثالثها: ما أنزل إليهم وهو ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم. ولا ينافي ذلك ضياع بعض ونسيان بعض وطروء التحريف بالترجمة والنقل بالمعنى على البعض الآخر، فإن المراد هو الإيمان به إجمالا واتباع ما أرشد إليه القرآن فيه تفصيلا، والقرآن هو العمدة فلا يعتد بإيمان من خالفه بعد العلم به على ما سيأتي قريبا. وقد تقدم بيان حكم القرآن في التوراة والإنجيل في تفسير الآية الأولى من هذه السورة فراجعه (ج 3 تفسير).
رابعها: الخشوع وهو ثمرة الإيمان الصحيح الذي يعين على اتباع ما يقتضيه الإيمان من العمل. فالخشوع أثر خشية الله تعالى في القلب تفيض على الجوراح والمشاعر فيخشع البصر بالسكون والانكسار، ويخشع الصوت بالمخافتة والتهدج، كما يخشع غيرهما.
خامسها: وهي أثر لما قبله، عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله كما هو فاش في أصحاب الإيمان التقليدي الجنسي من علماء ملتهم، ويقع مثله من أمثالهم في سائر الملل، وقد تقدم بيانه في هذه السورة وما قبلها.
قال تعالى: (أولئك لهم أجرهم عند ربهم) أي أولئك المتصفون بما ذكر من الصفات لهم أجرهم اللائق بهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق، أي في دار الرضوان التي نسبها الرب عز وجل إليه تشريفا لها ولأهلها. بخلاف الذين ليس لهم مثل هذه الصفات من أهل الكتاب المغرورين بأنفسهم وسلفهم عنادا حملهم على كتمان الحق الذي هو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه الحق. فأولئك هم الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، فإن كل من بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وظهرت له حقيتها كما ظهرت لهم وجحد وعاند كما جحدوا وعاندوا فلا يعتد بإيمانه بالأنبياء السابقين وكتبهم. ولا يكون إيمانه بالله تعالى إيمانا صحيحا مقرونا بالخشية والخشوع، ولذلك لا يخشاه في مكابرة الحق والإصرار على الباطل. ولا ينافي هذا ما في آية: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) [البقرة: 62] من الإطلاق لأن تلك الآية فيمن لم تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقتها ولم تظهر لهم حقيتها كالذين كانوا قبله.
(فإن الله سريع الحساب) يحاسب الخلق كلهم في وقت واحد قصير بما يكشف لهم من تأثير أعمالهم في نفوسهم، بحيث يتمثل لهم فيها كل عمل سبق منهم كالصور المتحركة التي تمثل الوقائع في هذا العصر. وقد سبق تقرير ذلك.
ثم ختم سبحانه السورة بهذه الوصية للمؤمنين لأنها هي التي تتحقق بها استجابة ذلك الدعاء وإيفاء الوعد بالنصر في الدنيا وحسن الجزاء في الآخرة فقال: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقبل ختام السورة يعود السياق إلى أهل الكتاب، فيقرر أن فريقا منهم يؤمن إيمان المسلمين، وقد انضم إلى موكب الإسلام معهم. وسار سيرتهم. وله كذلك جزاؤهم:
(وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم. خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا. أولئك لهم أجرهم عند ربهم. إن الله سريع الحساب)
إنه الحساب الختامي مع أهل الكتاب. وقد ذكر من طوائفهم ومواقفهم فيما سبق من السورة الكثير. ففي معرض الإيمان، وفي مشهد الدعاء والاستجابة، يذكر كذلك أن من أهل الكتاب من سلكوا الطريق، وانتهوا إلى النهاية. فآمنوا بالكتاب كله، ولم يفرقوا بين الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله. آمنوا بما أنزل إليهم من قبل، وآمنوا بما أنزل للمسلمين -وهذه سمة هذه العقيدة التي تنظر إلى موكب الإيمان نظرة القرب والود؛ وتنظر إلى خط العقيدة موصولا بالله، وتنظر إلى منهج الله في وحدته وكليته الشاملة، ويبرز من سمات المؤمنين من أهل الكتاب: سمة الخشوع لله وسمة عدم شرائهم بآياته ثمنا قليلا.. ليفرقهم بهذا من صفوف أهل الكتاب، وسمتهم الأصيلة هي التبجح وقلة الحياء من الله. ثم التزوير والكتمان لآيات الله، لقاء أعراض الحياة الرخيصة!
ويعدهم أجر المؤمنين عند الله. الذي لا يمطل المتعاملين معه- حاشاه -!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
قلنا في ما سبق إن القرآن الكريم إِذا تطرق إِلى أُمور حول إِتباع الشرائع الأخرى لم ينظر إِلى الجميع نظرة سواء، ولم يحسب لهم حساباً واحداً، ولم تتسم أبحاثه حولهم بصفة قومية أو حزبية علائية، بل ينطلق في أحكامه من أسس اعتقادية ومبدئية، ولهذا ينتقد أعمالهم، وممارساتهم ولا يتناول بسوء قومياتهم أو أجناسهم، ولهذا لا ينسى فضل تلك القلّة المؤمنة الصالحة منهم والتي تميزت عن الأكثرية الساحقة بصلاحها وحسن عملها، ولا يتجاهل قيمتها ومكانتها.
والمقام الذي نحن فيه هو أحد تلك الموارد التي جاء فيها الكلام عن هذه القلة المؤمنة الصالحة التي استجابت لدعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخضعت للحق.
فالآية الحاضرة بعد أن وبّخت كثيراً من أهل الكتاب على كتمانهم لآيات الله، وطغيانهم وتمردهم في الآيات السابقة ذكرت هذه القلّة المؤمنة، وبينت خمساً من صفاتها الممتازة هي:
(يؤمن بالله) (أي أنهم يؤمنون بالله عن طواعية وصدق).
(وما أُنزل إِليكم) (أي يؤمنون بالقرآن).
(وما أُنزل إِليهم) أي إِيمانهم بنبيّ الإِسلام نابع في الحقيقة من إِيمانهم بكتبهم السّماوية الواقعية التي بشّرت بهذا النّبي ودعت إِلى الإِيمان به إِذا ظهر، فهم في الحقيقة يؤمنون بكتبهم.
(خاشعين لله) أي أنّهم مسلمون لأمر الله وخاضعون لإِرادته، وهذا التسليم والخضوع هو السبب الحقيقي لإِيمانهم، وهو الذي فرّق بينهم وبين العصبيات الحمقاء، وحرّرهم من التعنت والاستكبار تجاه منطق الحقّ.
(لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا) أي أنّهم ليسوا مثل بعض أحبار اليهود الذين يحرفون آيات الله حفاظاً على مراكزهم وإِبقاءاً على حاكميتهم على أقوامهم وجماعاتهم، وصولا إِلى بعض المكاسب المادية.
والإِشارة إِلى «الثّمن القليل» في الآية للتلويح بما كان عليه أُولئك الأحبار المحرفون للكلم من تفاهة الهمّة، وضعف الطموح، وقصر النظر، وحقارة النفس.
هذا مضافاً إِلى أن كل أجر دون الأجر الإِلهي حقير، وكل مكسب يحصل عليه الإِنسان عوضاً عن آيات الله فهو مكسب تافه ورخيص.
وسيكون لهذه الطائفة من أهل الكتاب بسبب هذه الصفات الإِنسانية العالية هذا الموقف الواضح الحي، أجرهم عند ربّهم (أُولئك لهم أجرهم عند ربّهم).
والتعبير هنا بلفظة «ربّهم» إِشارة إِلى غاية لطفه سبحانه ومنتهى رحمته بهم، كما أنه إشارة أيضاً إِلى أن الله هو الذي يهديهم في هذه المسيرة الخيرة، وهو يتكفل بمساعدتهم، ويعينهم في هذا الطريق.
(إِنّ الله سريع الحساب) فلا يتأخر عن إِعطاء الصالحين المؤمنين أجرهم، كما لا يبطئ عن مجازاة المنحرفين والظالمين.
وهذه العبارة بشارة إِلى الصالحين المؤمنين، كما هي أيضاً تحذير وتهديد للعصاة والمذنبين.