144- ولقد رأينا كيف كنت تتطلع إلى السماء عسى أن ينزل الوحي بتغيير قبلة بيت المقدس إلى الكعبة التي تحبها لأنها قبلة إبراهيم أبى الأنبياء ، وأبى اليهود والعرب ، وبها مقام إبراهيم ، فهي - لهذا - القبلة الجامعة وإن كانت تخالف قبلة اليهود ، فها نحن أولاء نؤتيك سؤلك فاستقبل في صلاتك المسجد الحرام ، واستقبلوه كذلك أيها المؤمنون في أي مكان تكونون ، وإن أهل الكتاب الذين ينكرون عليكم التحول عن قبلة بيت المقدس قد عرفوا في كتبهم أنكم أهل الكعبة ، وعلموا أن أمر الله جار على تخصيص كل شريعة بقبلة ، وأن هذا هو الحق من ربهم ، ولكنهم يريدون فتنتكم وتشكيككم في دينكم ، والله ليس غافلا عنهم وهو يجزيهم بما يعملون .
قوله تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } . هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في المعنى فإنها رأس القصة ، وأمر القبلة أول ما نسخ من أمور الشرع ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة إلى الكعبة ، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة ، فصلى بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ، وقال مجاهد : كان يحب ذلك لأجل اليهود لأنهم كانوا يقولون يخالفنا محمد صلى الله عليه وسلم في ديننا ويتبع قبلتنا ، فقال لجبريل عليه السلام : وددت لو حولني الله إلى الكعبة فإنها قبلة أبي إبراهيم عليه السلام ، فقال جبريل : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك ، فسل أنت ربك فإنك عند الله عز وجل بمكان . فعرج جبريل عليه السلام وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة . فأنزل الله تعالى ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) .
قوله تعالى : { فلنولينك قبلة } . فلنحولنك إلى قبلة .
قوله تعالى : { ترضاها } . أي تحبها وتهواها .
قوله تعالى : { فول } . أي حول .
قوله تعالى : { وجهك شطر المسجد الحرام } . أي نحوه وأراد به الكعبة والحرام المحرم .
قوله تعالى : { وحيثما كنتم } . من بر أو بحر شرق أو غرب .
قوله تعالى : { فولوا وجوهكم شطره } . عند الصلاة أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا إسحاق بن نصر ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : سمعت ابن عباس قال : لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه ، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد ابن يوسف ، أخبرنا محمد ابن إسماعيل ، أخبرنا عمرو بن خالد ، أخبرنا زهير ، أخبرنا أبو إسحاق ، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر ، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد قباء وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت ، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب ، فلما تولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك ، وقال البراء في حديثه هذا : إنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم ؟ فأنزل الله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) . وكان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين ، قال مجاهد وغيره : نزلت هذه الآية و رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر ، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال ، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين ، وقيل : كان التحويل خارج الصلاة بين الصلاتين ، وأهل قباء وصل إليهم الخبر في صلاة الصبح .
أخبرنا أبو الحسن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي ، أخبرنا أبو إبراهيم عبد الصمد الهاشمي السامري ، أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري عن مالك بن أنس عن عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر قال : بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت وقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة . فلما تحولت القبلة قالت اليهود : يا محمد إلا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره ؟ فأنزل الله تعالى :
قوله تعالى : { وإن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه } . يعني أمر الكعبة .
قوله تعالى : { الحق من ربهم } . ثم هددهم فقال :
قوله تعالى : { وما الله بغافل عما تعملون } . قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء ، قال ابن عباس يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم . وقرأ الباقون بالياء يعني ما أنا بغافل عما يفعل اليهود فأجازيهم في الدنيا والآخرة .
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }
يقول الله لنبيه : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } أي : كثرة تردده في جميع جهاته ، شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة ، وقال : { وَجْهِكَ } ولم يقل : " بصرك " لزيادة اهتمامه ، ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر .
{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ } أي : نوجهك لولايتنا إياك ، { قِبْلَةً تَرْضَاهَا } أي : تحبها ، وهي الكعبة ، وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم ، حيث إن الله تعالى يسارع في رضاه ، ثم صرح له باستقبالها فقال : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } والوجه : ما أقبل من بدن الإنسان ، { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ } أي : من بر وبحر ، وشرق وغرب ، جنوب وشمال . { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي : جهته .
ففيها اشتراط استقبال الكعبة ، للصلوات كلها ، فرضها ، ونفلها ، وأنه إن أمكن استقبال عينها ، وإلا فيكفي شطرها وجهتها ، وأن الالتفات بالبدن ، مبطل للصلاة ، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، ولما ذكر تعالى فيما تقدم ، المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم ، وذكر جوابهم ، ذكر هنا ، أن أهل الكتاب والعلم منهم ، يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر ، لما يجدونه في كتبهم ، فيعترضون عنادا وبغيا ، فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك ، فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه ، إذا كان الأمر مشتبها ، وكان ممكنا أن يكون معه صواب .
فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه ، وأن المعترض معاند ، عارف ببطلان قوله ، فإنه لا محل للمبالاة ، بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية ، فلهذا قال تعالى : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } بل يحفظ عليهم أعمالهم ، ويجازيهم عليها ، وفيها وعيد للمعترضين ، وتسلية للمؤمنين .
ثم خاطب الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ووعده بأن القبلة التي سيؤمر بالتوجه إليها هي التي يحرص عليها ويرغب فيها .
قال الإِمام ابن كثير : قال علي بن أبي طلحة قال ابن عباس : كان أول ما نسخ في القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً ، وكان يجب قبلة أبيه إبراهيم ، فكان يدعو الله ، وينظر إلى السماء ، فأنزل الله - تعالى - { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } .
والمعنى - قد شاهدنا - يا محمد - وعلمنا تردد وجهك ، وتسريح نظرك إلى السماء تطلعا إلى نزول الوحي عليك ، وتوقعاً لما ألقى في روعك من تحويل القبلة إلى الكعبة سعياً منك وراء استمالة العرب إلى الدخول في أحضان الإِسلام ، ومخالفة اليهود الذين كانوا يقولون : إنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ، وها نحن قد أجبناك إلى ما طلبت وأعطيناك ما سألت ، ووجهناك إلى قبلة تحبها وتميل إليها { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
أي : فاصرف وجهك وحوله نحو المسجد الحرام وجهته .
ثم عمم القرآن الكريم هذا التشريع على الأمة الإِسلامية جميعها . فقال تعالى :
{ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } .
أي : وحيثما كنتم وأينما وجدتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم تلقاء المسجد الحرام ونحوه .
وقد جاءت هذه الجملة موجهة إلى الأمة قاطبة لدفع توهم أن يكون الخطاب في الأول خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطره ، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك آكد وأبلغ .
فالآية الكريمة فيها أمر لكل مسلم أن يجعل الكعبة قبلة له ، فيتوجه بصدره إلى ناحيتها وجهتها حال تأديته الصلاة لربه ، سواء أكان المصلي بالمدينة أم بمكة أو بغيرهما .
وفي ذكر المسجد الحرام دون الكعبة ، ما يؤذن بكفالة مراعاة جهتها ولذلك لم يقع خلاف بين العلماء في أن الكعبة قبلة كل أفق . وأن من عاينها فرض عليه استقبالها ومن غاب عنها فعليه أن يستقبل جهتها . فإن خفيت عليه تحرى جهتها ما استطاع .
وقد سقنا في مطلع هذا البحث بعض الأحاديث الصحيحة التي صرحت بأن الصحابة عندما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتحويل إلى الكعبة استداروا إليها وهم في صلاتهم فجعلوهها قبلتهم .
ومما يشهد بقوة إيمانهم وعظيم امتثالهم لشرع الله ما جاء عن نويلة بنت مسلم أنها قالت .
" وصلينا الظهر - أو العصر ط في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيلياء - أي بيت المقدس - فصلينا ركعتين ، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال . والرجال مكان النساء . فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام . فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أولئك رجال يؤمنون بالغيب " .
ثم بينت الآية الكريمة أن أهل الكتاب يعلمون أن التحويل إلى الكعبة هو الحق الذي لا ريب فيه فقال تعالى : { وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } .
أي : وإن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة ، وانصرافكم عن بيت المقدس ، ليعلمون أن استقبالكم الكعبة حق ؛ لأن الذي أخبر به قد قامت الآيات البينات عندهم على أنه رسول من عند الله ، أو أنه يصلي إلى القبلتين ، وما وقفوا من تحويل القبلة هذا الموقف إلا لعنادهم ، وما الله بغافل عن أعمالهم بل هو محيط بها وسيحاسبهم عليها يوم القيامة حساباً عسرياً " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : قد نرى يا محمد نحن تقلب وجهك في السماء . ويعني بالتقلب : التحوّل والتصرّف . ويعني بقوله : في السّماء نحو السماء وقِبَلها .
وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا ، لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ قال : كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء يحبّ أن يصرفه الله عزّ وجلّ إلى الكعبة حتى صرفه الله إليها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ فكان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، يَهْوَى ويشتهي القبلة نحو البيت الحرام ، فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثني إسحاق ، قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ يقول : نظرك في السماء . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس ، وكان يَهْوَى قبلة البيت الحرام ، فولاه الله قبلة كان يهواها .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كان الناس يصلون قِبَل بيت المقدس ، فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره ، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر ، وكان يصلي قبل بيت المقدس . فنسختها الكعبة ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يصلي قِبَل الكعبة ، فأنزل الله جل ثناؤه : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ الآية .
ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة .
قال بعضهم : كره قبلة بيت المقدس ، من أجل أن اليهود قالوا : يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : قالت اليهود : يخالفنا محمد ، ويتبع قبلتنا فكان يدعو الله جل ثناؤه ، ويستفرض للقبلة ، فنزلت : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وانقطع قول يهود : يخالفنا ويتبع قبلتنا في صلاة الظهر ، فجعل الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعته ، يعني ابن زيد يقول : قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ الله قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَؤُلاَءِ قَوْمُ يَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتا مِنْ بُيُوتِ اللّهِ » لبيت المقدس «لو أنا اسْتَقْبَلْنَاهُ » ، فاستقبله النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فبلغه أن يهود تقول : والله ما درى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم . فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء ، فقال الله جل ثناؤه : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ الآية .
وقال آخرون : بل كان يَهْوَى ذلك من أجل أنه كان قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله عزّ وجل أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عزّ وجل : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ . . . الآية .
فأما قوله : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فإنه يعني : فلنصرفنك عن بيت المقدس إلى قبلة ترضاها ، تهواها وتحبها .
وأما قوله : فَوَلّ وَجْهَكَ يعني اصرف وجهك وحوّله . وقوله : شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني بالشطر : النحو والقصد والتلقاء ، كما قال الهذلي :
إنّ العَسِير بِهَا دَاءٌ مُخامِرُها فَشَطْرَها نَظَرُ العَيْنَيْن مَحْسُورُ
يعني بقوله شطرها : نحوها . وكما قال ابن أحمر :
تَعْدُو بِنا شَطْرَ جَمْعٍ وهْيَ عاقِدَةٌ قَدْ كارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَادِها الحَقَبا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبيّ ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن ابن أبي العالية : شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَام يعني تلقاءه .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ نحوه .
حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ أي تلقاء المسجد الحرام .
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : نحو المسجد الحرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ أي تلقاءه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قال : شطره : نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال : قِبَله .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : شَطْرَهُ ناحيته جانبه ، قال : وجوانبه : شطوره .
ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه من المسجد الحرام .
فقال بعضهم : القبلة التي حوّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم وعناها الله تعالى ذكره بقوله : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا عثمان ، قال : أنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة ، عن عبد الله بن عمرو : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة ، قال : رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب ، وتلا هذه الآية : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا قال : هذه القبلة هي هذه القبلة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم بإسناده عن عبد الله بن عمرو نحوه ، إلا أنه قال : استقبل الميزاب فقال : هذا القبلة التي قال الله لنبيه : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا .
وقال آخرون : بل ذلك البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : البيت كله قبلة ، وهذه قبلة البيت ، يعني التي فيها الباب .
والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ فالمولّي وجهه شطر المسجد الحرام هو المصيب القبلة . وإنما على من توجه إليه النية بقلبه أنه إليه متوجه ، كما أن على من ائتمّ بإمام فإنما عليه الائتمام به وإن لم يكن محاذيا بدنه بدنه ، وإن كان في طرف الصف والإمام في طرف آخر عن يمينه أو عن يساره ، بعد أن يكون من خلفه مؤتما به مصليا إلى الوجه الذي يصلي إليه الإمام . فكذلك حكم القبلة ، وإن لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوجه إليها ببدنه غير أنه متوجه إليها ، فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلها فهو مستقبلها بعد ما بينه وبينها ، أو قرب من عن يمينها أو عن يسارها بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووجهه . كما :
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عميرة بن زياد الكندي ، عن عليّ : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : شطره قِبَله .
قال أبو جعفر : وقبلة البيت : بابه . كما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، والفضل بن الصباح ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء قال : قال أسامة بن زيد : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب فقال : «هَذِهِ القِبْلَةُ ، هَذِهِ القِبْلَةُ » .
حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : حدثني أسامة بن زيد ، قال : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من البيت ، فصلى ركعتين مستقبلاً بوجهه الكعبة ، فقال : «هذه القِبْلَةُ » مرّتين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن أسامة بن زيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا أبيّ ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : سمعت ابن عباس يقول : إنما أمرتم بالطواف ، ولم تؤمروا بدخوله . قال : لم يكن ينهى عن دخوله ، ولكني سمعته يقول : أخبرني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ، ولم يصلّ حتى خرج ، فلما خرج ركع في قبل القبلة ركعتين وقال : «هذه القِبْلَةُ » .
قال أبو جعفر : فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة ، وأن قبلة البيت بابه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .
يعني جل ثناؤه بذلك : فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوّلوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه . والهاء التي في «شطره » عائدة إلى المسجد الحرام .
فأوجب جلّ ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى . وأدخلت الفاء في قوله : فَوَلّوا جوابا للجزاء ، وذلك أن قوله : حَيْثُمَا كُنْتُمْ جزاء ، ومعناه : حيثما تكونوا فولّوا وجوهكم شطره .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ .
يعني بقوله جل ثناؤه : وإن الذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وعلماء النصارى . وقد قيل إنما عنى بذلك اليهود خاصة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ أنزل ذلك في اليهود . وقوله : لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب ، يعلمون أن التوجه نحو المسجد الحقّ الذي فرضه الله عزّ وجلّ على إبراهيم وذرّيته وسائر عباده بعده .
ويعني بقوله : مِنْ رَبّهِمْ أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره ، وهو الحقّ من عند ربهم فرضه عليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .
يعني بذلك تبارك وتعالى : وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون في اتباعكم أمره وانتهائكم إلى طاعته فيما ألزمكم من فرائضه وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام ، ولا هو ساهٍ عنه ، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدّخره لكم عنده حتى يجازيكم به أحسن جزاء ، ويثيبكم عليه أفضل ثواب .