قوله تعالى : { أولئك في ضلال مبين* أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن } لم يعجز عن إبداعهن ، { بقادر } هكذا قراءة العامة ، واختلفوا في وجه دخول الباء فيه ، فقال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتأكيد ، كقوله : ( تنبت بالدهن ) . وقال الكسائي والفراء : العرب تدخل الباء في الاستفهام مع الجحود ، فتقول : ما أظنك بقائم . وقرأ يعقوب : ( يقدر ) بالياء على الفعل ، واختار أبو عبيدة قراءة العامة لأنها في قراءة عبد الله { قادر } بغير باء .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنّ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ بَلَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : أو لم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الله خلقه من بعد وفاتهم ، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلائهم ، القائلون لاَبائهم وأمهاتهم أفَ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلَت القرون من قبلي فلم يبعثوا بأبصار قلوبهم ، فيروا ويعلموا أن الله الذي خلق السموات السبع والأرض ، فابتدعهنّ من غير شيء ، ولم يعي بإنشائهنّ ، فيعجز عن اختراعهنّ وإحداثهنّ بِقادِرٍ على أنْ يُحْيِي المَوْتَى فيخرجهم من بعد بلائهم في قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم .
واختلف أهل العربية في وجه دخول الباء في قوله : بِقادِرٍ فقال بعض نحويي البصرة : هذه الباء كالباء في قوله : كَفَى باللّهِ وهو مثل تَنْبُتُ بالدّهْنِ وقال بعض نحويي الكوفة : دخلت هذه الباء للمَ قال : والعرب تدخلها مع الجحود إذا كانت رافعة لما قبلها ، وتدخلها إذا وقع عليها فعل يحتاج إلى اسمين مثل قولك : ما أظنك بقائم ، وما أظنّ أنك بقائم ، وما كنت بقائم ، فإذا خلعت الباء نصبت الذي كانت تعمل فيه ، بما تعمل فيه من الفعل ، قال : ولو ألقيت الباء من قادر في هذا الموضع رفع ، لأنه خبر لأن ، قال : وأنشدني بعضهم :
فَمَا رَجَعَتْ بخائِبَةٍ رِكابٌ *** حَكِيمُ بنُ المُسيّبِ مُنْتَهاها
فأدخل الباء في فعل لو ألقيت منه نصب بالفعل لا بالباء ، يقاس على هذا ما أشبهه .
وقال بعض من أنكر قول البصريّ الذي ذكرنا قوله : هذه الباء دخلت للجحد ، لأن المجحود في المعنى وإن كان قد حال بينهما بأنّ «أوَ لَمْ يَرَوْا أنّ اللّهَ قادِرٌ على أنْ يُحْيِي المَوْتَى » قال : فأنّ اسم يَرَوْا وما بعدها في صلتها ، ولا تدخل فيه الباء ، ولكن معناه جحد ، فدخلت للمعنى .
وحُكي عن البصريّ أنه كان يأبى إدخال إلاّ ، وأن النحويين من أهل الكوفة يجيزونه ، ويقولون : ما ظننت أن زيدا إلا قائما ، وما ظننت أن زيدا بعالم . وينشد :
وَلَسْتُ بِحالِفٍ لَوَلَدْتُ مِنْهُمْ *** عَلى عَمّيّةٍ إلاّ زِيادا
قال : فأدخل إلا بعد جواب اليمين ، قال : فأما «كَفَى بِاللّهِ » ، فهذه لم تدخل إلا لمعنى صحيح ، وهي للتعجّب ، كما تقول لظَرُفَ بزيد . قال : وأما تَنْبُتُ بالدهن فأجمعوا على أنها صلة . وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : دخلت الباء في قوله بقادِرٍ للجَحْد ، لما ذكرنا لقائلي ذلك من العِلل .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : بِقادِرٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار ، عن أبي إسحاق والجَحْدِريّ والأعرج بِقادِرٍ وهي الصحيحة عندنا لإجماع قرّاء الأمصار عليها . وأما الاَخرون الذين ذكرتهم فإنهم فيما ذُكر عنهم كانوا يقرأون ذلك «يقدر » بالياء . وقد ذُكر أنه في قراءة عبد الله بن مسعود «أنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَواتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ » بغير باء ، ففي ذلك حجة لمن قرأه «بقادِرٍ » بالباء والألف . وقوله : بَلى إنّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول تعالى ذكره : بلى ، يقدر الذي خلق السموات والأرض على إحياء الموتى : أي الذي خلق ذلك على كلّ شيء شاء خلقه ، وأراد فعله ، ذو قدرة لا يعجزه شيء أراده ، ولا يُعييه شيء أراد فعله ، فيعييه إنشاء الخلق بعد الفناء ، لأن من عجز عن ذلك فضعيف ، فلا ينبغي أن يكون إلها من كان عما أراد ضعيفا .
عود إلى الاستدلال على إمكان البعث فهو متصل بقوله : { والذي قال لوالديه أفَ لكما أتَعِدَانِني أن أُخرج وقد خلت القرون من قبلي } إلى قوله : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } [ الأحقاف : 17 ، 18 ] فهو انتقال من الموعظة بمصير أمثالهم من الأمم إلى الاستدلال على إبطال ضلالهم في شركهم وهو الضلال الذي جرّأهم على إحالة البعث ، بعد أن أطيل في إبطال تعدد الآلهة وفي إبطال تكذيبهم بالقرآن وتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عود على بدء فقد ابتدئت السورة بالاحتجاج على البعث بقوله تعالى : { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ الأحقاف : 3 ] الآية ويتصل بقوله : { والذي قال لوالديه أفَ لكما أتِعَدَانني أن أخرج } إلى قوله : { أساطير الأولين } [ الأحقاف : 17 ] .
والواو عاطفة جملة الاستفهام ، وهو استفهام إنكاري ، والرؤية عِلمية . واختير هذا الفعل من بين أفعال العلم هنا لأن هذا العلم عليه حجة بينة مشاهدة ، وهي دلالة خلق السماوات والأرض من عدم ، وذلك من شأنه أن يفرض بالعقل إلى أن الله كامل القدرة على ما هو دون ذلك من إحياء الأموات .
ووقعت { أنّ } مع اسمها وخبرها سادّة مسدّ مفعولي { يروا } . ودخلت الباء الزائدة على خبر { أنّ } وهو مثبت وموكَّد ، وشأن الباء الزائدة أن تدخل على الخبر المنفي ، لأن { أن } وقعت في خبر المنفي وهو { أولم يروا } .
ووقع { بلى } جواباً عن الاستفهام الإنكاري . ولا يريبك في هذا ما شاع على ألسنة المعربين أن الاستفهام الإنكاري في تأويل النفي ، وهو هنا اتصل بفعل منفي ب ( لم ) فيصير نفي النفي إثباتاً ، فكان الشأن أن يكون جوابه بحرف ( نعم ) دون { بلى } ، لأن كلام المعربين أرادوا به أنه في قوة منفي عند المستفهم به ، ولم يريدوا أنه يعامل معاملة النفي في الأحكام . وكون الشيء بمعنى شيء لا يقتضي أن يعطَى جميع أحكامه .
ومحل التعجيب هو خبر { أنّ } وأما ما قبله فالمشركون لا ينكرونه فلا تعجيب في شأنه . ووقوع الباء في خبر { أنّ } وهو { بقادر } باعتبار أنه في حيّز النفي لأن العامل فيه وهو حرف { أنّ } وقع في موضع مفعولي فِعل { يروا } الذي هو منفي فسرى النفي للعامل ومعموله ، فقرن بالباء لأجل ذلك ، وفي « الكشاف » « قال الزجاج لو قلت : ما ظننت أن زيداً بقائم جاز ، كأنه قيل : أليس الله بقادر » اهـ . وقال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله : { وكفى بالله شهيداً } [ النساء : 79 ] يريدان أنها زائدة في الإثبات على وجه الندور .
وأما موقع الجواب بحرف { بلى } فهو جواب لمحذوف دل عليه التعجيب من ظنهم أن الله غيرُ قادر على أن يحيي الموتى ، فإن ذلك يتضمن حكاية عنهم أن الله لا يحيي الموتى ، فأجيب بقوله : { بلى } تعليماً للمسلمين وتلقيناً لما يجيبونهم به .
وحرف { بلى } لما كان جواباً كان قائماً مقام جملة تقديرها : هو قادر على أن يحيي الموتى .
وجملة { ولم يَعْيَ بخلقهن } عطف على جملة { الذي خلق السماوات والأرض } . وقوله : { لم يعييَ } مضارع عَيِيَ من باب رضي ، ومصدره العِيّ بكسر العين وهو العجز عن العمل أو عن الكلام ، ومنه العيّ في الكلام ، أي عسر الإبَانِة . وتعديته بالباء هنا بلاغة ليفيد انتفاء عجزه عن صنعها وانتفاء عجزه في تدبير مقاديرها ومناسباتها ، فكانت باء الملابسة صالحة لتعليق الخلق بالعي بمعنييه .
وكثير من أيمة اللغة يرون أن العِيّ يطلق على التعب وعن عجز الرأي وعجز الحيلة . وعن الكسائي والأصمعي : العِيُّ خاص بالعجز في الحيلة والرأي . وأما الإعياء فهو التعب من المشي ونحوه ، وفعله أعيا ، وهذا ما درج عليه الراغب وصاحب « القاموس » .
وظاهر الأساس : أن أعيا لا يكون إلا متعدياً ، أي همزته همزة تعدية فهذا قول ثالث .
وزعم أبو حيان أن مثله مقصور على السماع . قلت : وهو راجع إلى تنازع العاملين .
وعلى هذا الرأي يكون قوله تعالى هنا { ولم يَعْي } دالاً على سَعة علمه تعالى بدقائق ما يقتضيه نظام السماوات والأرض ليوجدهما وافيين به . وتكون دلالته على أنه قدير على إيجادهما بدلالة الفحوى أو يكون إيكال أمر قدرته على خلقهما إلى علم المخاطبين ، لأنهم لم ينكروا ذلك ، وإنما قصد تنبيههم إلى ما في نظام خلقهما من الدقائق والحِكم ومن جملتها لزوم الجزاء على عمل الصالحات والسيئات . وعليه أيضاً تكون تعدية فعل { يَعْيَ } بالباء متعينة .
وقرأ الجمهور { بقادر } بالموحدة بصيغة اسم الفاعل . وقرأه يعقوب { يقدر } بتحتية في أوله على أنه مضارع من القدرة ، وتكون جملة { يقدر } في محل خبر { أنَّ } .
وجملة { إنه على كل شيء قدير } تذييل لجملة { بلى } لأن هذه تفيد القدرة على خلق السماوات والأرض وإحياء الموتى وغير ذلك من الموجودات الخارجة عن السماوات والأرض . وتأكيد الكلام بحرف ( أنَّ ) لرد إنكارهم أن يمكن إحياء الله الموتى ، لأنهم لما أحالوا ذلك فقد أنكروا عموم قدرته تعالى على كل شيء .
ولهذه النكتة جيء في القدرة على إحياء الموتى بوصف { قادر } ، وفي القدرة على كل شيء بوصف { قدير } الذي هو أكثر دلالة على القدرة من وصف { قادر } .