قوله تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } هذا مثل ضربه الله عز وجل للمؤمنين والكافرين ، فمثل المؤمن مثل البلد الطيب ، يصيبه المطر فيخرج نباته بإذن ربه .
قوله تعالى : { والذي خبث } ، يريد الأرض السبخة التي ، { لا يخرج } نباتها .
قوله تعالى : { إلا نكدًا } ، قرأ أبو جعفر بفتح الكاف ، وقرأ الآخرون بكسرها ، أي : عسرًا قليلاً بعناء ومشقة . فالأول : مثل المؤمن الذي إذا سمع وعاه وعقله ، وانتفع به . والثاني مثل الكافر الذي يسمع القرآن فلا يؤثر فيه ، كالبلد الخبيث الذي لا يتبين أثر المطر فيه .
قوله تعالى : { كذلك نصرف الآيات } نبينها .
قوله تعالى : { لقوم يشكرون } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا حماد بن أسامة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعمل ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرّفُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والبلد الطيبة تربته العذبة مشاربه ، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا بإذنه طيبا ثمره في حينه ووقته . وَالّذِي خَبُثَ فردؤت تربته وملحت مشاربه ، لا يَخْرُجُ نباته إلاّ نَكِدا يقول : إلاّ عسرا في شدّة ، كما قال الشاعر :
لا تُنْجِرُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وَإنْ ***أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تافِها نَكِدَا
يعني بالتافه : القليل ، وبالنكد ، العسر ، يقال منه : نَكِدَ يَنْكَدُ نَكَدا ونَكْدا ، فهو نَكَدٌ ونَكِدٌ ، والنكد المصدر ، ومن أمثالهم نَكْدا وجَحْدا ونُكْدا وجُحْدا ، والجحد : الشدّة والضيق ، ويقال إذا شفه وسئل قد نكدوه ينكَدونه نَكْدا ، كما قال الشاعر :
وأعْطِ ما أعْطَيْتَهُ طَيّبا ***لا خيرَ في المَنْكُودِ والنّاكِدِ
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأه بعض أهل المدينة : «إلاّ نَكَدا » بفتح الكاف . وقرأه بعض الكوفيين بسكون الكاف : «نَكْدا » . وخالفهما بعد سائر القرّاء في الأمصار ، فقرءوه : إلاّ نَكِدا بكسر الكاف . كأن من قرأه : «نَكَدا » بنصب الكاف أراد المصدر ، وكأن من قرأه بسكون الكاف أراد كسرها فسكنها على لغة من قال : هذه فخْذ وكتْد ، وكان الذي يجب عليه إذا أراد ذلك أن يكسر النون من «نكد » حتى يكون قد أصاب القياس .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه : نَكِدا بفتح النون وكسر الكاف لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه . وقوله : كذلكَ نُصَرّفُ الاَياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ يقول : كذلك نبين آية بعد آية ، وندلي بحجة بعد حجة ، ونضرب مثلاً بعد مثل ، لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية وتبصيره إياهم سبيل أهل الضلالة ، باتباعهم ما أمرهم باتباعه وتجنبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة . وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه مثل للمؤمن ، والذي خبث فلا يخرج نباته إلا نَكدا مثل للكافر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح عن عليّ عن ابن عباس قوله : وَالبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ باذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاّ نَكِدا فهذا مثل ضربه الله للمؤمن ، يقول : هو طيب وعمله طيب كما البلد الطيب ثمره طيب . ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبِخة المالحة التي لا تخرج منها البرَكة ، فالكافر هو الخبيث وعمله خبيث .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَالبَلَدُ الطّيّبُ والّذِي خَبُثَ قال : كلّ ذلك من أرض السباخ وغيرها مثل آدم وذرّيته ، فيهم طيب وخبيث .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَالبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ باذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاّ نَكِدا قال : هذا مثل ضربه الله في الكافر والمؤمن .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، يعني ابن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَالبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ باذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ هي السبخة لا يَخْرُجُ نباتها إلاّ نَكِدا . والنكِد : الشيء القليل الذي لا ينفع كذلك القلوب لما نزل القرآن ، فالقلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به ، وثبت الإيمان فيه والقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه ، ولم يثبت فيه من الإيمان شيء إلاّ ما لا ينفع ، كما لم يخرج هذا البلد إلاّ ما لا ينفع من النبات .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : وَالبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بإذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاّ نَكِدا قال : الطيب ينفعه المطر فينبت ، والذي خبث السباخ لا ينفعه المطر لا يخرج نباته إلاّ نكدا ، قال : هذا مثل ضربه الله لاَدم وذرّيته كلهم ، إنما خلقوا من نفس واحدة ، فمنهم من آمن بالله وكتابه فطاب ومنهم من كفر بالله وكتابه فخبُث .
جملة معترضة بين جملة : { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] وبين جملة : { لقد أرسلنا نوحاً } [ الأعراف : 59 ] تتضمّن تفصيلاً لمضمون جملة : { فأخرجنا به من كل الثمرات } [ الأعراف : 57 ] إذ قد بيّن فيها اختلاف حال البلد الذي يصيبه ماء السّحاب ، دعا إلى هذا التّفصيل أنّه لما مُثِّل إخراج ثمرات الأرض بإخراج المَوتى منها يوم البعث تذكيراً بذلك للمؤمنين ، وإبطالاً لإحالة البعث عند المشركين ، مُثل هنا باختلاف حال إخراج النّبات من الأرض اختلافُ حال النّاس الأحياءِ في الانتفاع برحمة هُدى الله ، فموقع قوله : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } كموقع قوله : { كذلك نخرج الموتى } [ الأعراف : 57 ] ولذلك ذُيل هذا بقوله : { كذلك نصرف الأيات لقوم يشكرون } كما ذيل ما قبله بقوله : { كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } [ الأعراف : 57 ] .
والمعنى : كذلك نخرج الموتى وكذلك ينتفع برحمة الهَدْي من خُلقت فطرته طيّبة قابلة للهُدى كالبلد الطّيّب ينتفع بالمطر ، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتاً نافعاً ، فالمقصود من هذه الآية التّمثيل ، وليسَ المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر ، لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين : العبرةَ بصنع الله ، والموعظَة بما يماثل أحواله . فالمعنى : كما أنّ البلد الطّيّب يَخرج نباته سريعاً بَهِجاً عند نزول المطر ، والبلد الخبيثَ لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبْتاً خبيثاً لا خير فيه .
والطيب وصف على وزن فَيْعِل وهي صيغة تدلّ على قوّة الوصف في الموصوف مثل : قيّم ، وهو المتّصف بالطِّيبِ ، وقد تقدّم تفسير الطيب عند قوله تعالى : { قل أحلّ لكم الطّيّباتُ } في سورة المائدة ( 4 ) ، وعند قوله : { يأيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيِّباً } في سورة البقرة ( 168 ) .
والبلد الطّيب الأرضُ الموصوفة بالطِّيببِ ، وطيبها زكاء تربتها وملاءمتها لإخراج النّبات الصّالح وللزّرع والغرس النّافع وهي الأرض النّقيّه .
وقوله : { بإذن ربه } في موضع الحال من { نباته } والإذن : الأمر ، والمراد به أمر العناية به كقوله : { لِمَا خلقتُ بيَدَيّ } [ ص : 75 ] ليدلّ على تشريف ذلك النّبات ، فهو في معنى الوصف بالزّكاء ، والمعنى : البلد الطَّيب يخرج نباته طيّباً زكياً مثلَه ، وقد أشار إلى طيب نباته بأنّ خروجه بإذن ربّه ، فأريد بهذا الإذن إذنٌ خاص هو إذن عناية وتكريم ، وليس المراد إذن التّقدير والتّكوين فإنّ ذلك إذن معروف لا يتعلّق الغرض ببَيانه في مثل هذا المقام .
{ والذي خبث } حملهُ جميع المفسّرين على أنّه وصف للبلد ، أي البلد الذي خبث وهو مقابل البلد الطّيب ، وفسّروه بالأرض التي لا تنبت إلاّ نباتاً لا ينفع ، ولا يسرع إنباتها ، مثل السّباخ ، وحملوا ضمير يَخْرج على أنّه عائد للنّبات ، وجعلوا تقدير الكلام : والذي خبث لا ( يخرج ) نباتُه إلاّ نَكِداً ، فحُذف المضاف في التّقدير ، وهو نبات ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو ضمير البلد الذي خبث ، المستترُ في فعل يخرج .
والذي يظهر لي : أن يكون { الذي } صادقاً على نبات الأرض ، والمعنى : والنّبت الذي خبث لا يخرج إلاّ نَكِداً ، ويكون في الكلام احتباك إذ لم يذكر وصف الطّيب بعد نبات البلد الطّيب ، ولم تذكر الأرض الخبيثة قبل ذكر النّبات الخبيث ، لدلالة كِلا الضدّين على الآخر . والتّقدير : والبلد الطّيب يخرج نباته طيّباً بإذْن ربّه ، والنّبات الذي خبث يخرج نكداً من البلد الخبيث ، وهذا صنع دقيق لا يهمل في الكلام البليغ .
وقرأ الجميع { لا يَخْرُج } بفتح التّحتيّة وضمّ الراء إلاّ ابنَ وردان عن أبي جعفر قرأ بضمّ التّحتيّة وكسر الرّاء على خلاف المشهور عنه ، وقيل إنّ نسبة هذا لابن وردان توهم .
والنّكد وصف من النكَد بفتح الكاف وهو مصدر نَكِدَ الشّيءُ إذا كان غير صالح يَجُرّ على مستعمله شراً . وقرأ أبو جعفر { إلا نكداً } ، بفتح الكاف .
وفي تفصيل معنى الآية جاء الحديث الصّحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " مثَلُ ما بَعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ قبِلَتْ الماءَ فأنبتت الكلأ والعُشْب الكثيرَ ، وكانت منها أجَادِبُ أمسكت الماء فنفع بها الله النّاسَ فشربوا وسَقَوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنّما هي قِيعَانٌ لا تُمْسك ماء ولا تنبتُ كَلأ فذلك مثَل مَن فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني اللَّهُ به فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، ومَثَل من لم يَرْفَعْ لِذلك رأساً ولم يَقْبَل هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ به " . والإشارة بقوله : { كذلك نصرف الأيات } إلى تفنّن الاستدلال بالدّلائل الدّالة على عظيم القدرة المقتضية الوحدانيّة ، والدّالة أيضاً على وقوع البعث بعد الموت ، والدّالة على اختلاف قابليّة النّاس للهدى والانتفاع به بالاستدلال الواضحِ البيّن المقِرّب في جميع ذلك ، فذلك تصريف أي تنويع وتفنين للآيات أي الدّلائل .
والمراد بالقوم الذين يشكرون : المؤمنون : تنبيهاً على أنّهم مورد التّمثيل بالبلد الطّيب ، وأنّ غيرهم مورد التّمثيل بالبلد الخبيث ، وهذا كقوله تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلاّ العالِمُون } [ العنكبوت : 43 ] .