{ وأما بنعمة ربك فحدث } قال مجاهد يعني النبوة ، روى عنه أبو بشر واختاره الزجاج وقال : أي بلغ ما أرسلت به ، وحدث بالنبوة التي آتاك الله . وقال الليث عن مجاهد : يعني القرآن وهو قول الكلبي ، أمره أن يقرأه . وقال مقاتل : اشكر لما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من جبر اليتيم والهدى بعد الضلالة والإغناء بعد العيلة ، والتحدث بنعمة الله شكراً .
أخبرنا أبو سعيد بكر بن محمد بن البسطامي ، حدثنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه ، أنبأنا عبد الله بن محمد ابن الحسين النصرابادي ، حدثنا علي بن سعيد النسوي أنبأنا سعيد بن عفير ، حدثنا يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية عن شرحبيل مولى الأنصاري ، عن جابر بن عبد الله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من صنع إليه معروف فليجزه ، إن وجد ، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن عليه فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره ، وإن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبين من زور " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا الحسين بن محمد ابن الحسين ، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق ، حدثنا أبو القاسم بن منيع ، حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا وكيع عن أبي عبد الرحمن يعني القاسم بن الوليد ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، التحدث بنعمة الله شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة والفرقة عذاب " .
والسنة -في قراءة أهل مكة- أن يكبر من أول سورة { والضحى } على رأس كل سورة حتى رأس كل سورة حتى يختم القرآن ، فيقول : الله أكبر . كذلك قرأته على المقرئ أبي نصر محمد بن علي الحامدي بمرو ، قال : قرأت على أبي القاسم طاهر بن علي الصيرفي ، قال : قرأت على أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران ، قال : قرأت على أبي علي محمد بن أحمد بن حامد الصفار المقرئ ، قال : قرأت على أبي بكر محمد بن موسى الهاشمي ، قال : قرأت على أبي ربيعة والحسين بن محمد الحداد ، وهما قرأ على أبي الحسين بن أبي بزة وأخبرهما ابن أبي بزة أنه قرأ على عكرمة بن سليمان بن كثير المكي ، وأخبره عكرمة أنه قرأ على شبل بن عباد وإسماعيل بن قسطنطين ، وأخبراه أنهما قرأ على عبد الله بن كثير ، وأخبرهما عبد الله أنه قرأ على مجاهد ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب . وأخبرنا الإمام المقرئ أبو نصر محمد ابن أحمد بن علي وقرأت عليه بمرو ، وقال : أنبأنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد بن الزيدي بالتكبير ، وقرأت عليه بثغر حران ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد الموصلي المعروف بالنقاش ، وقرأت عليه بمدينة السلام ، حدثنا أبو ربيعة محمد بن إسحاق الربعي ، وقرأت عليه بمكة ، حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله ابن أبي بزة ، وقرأت عليه قال لي : قرأت على عكرمة بن سليمان ، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد فلما بلغت { والضحى } قالا لي : كبر حتى تختم ، مع خاتمة كل سورة ، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك ، وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك ، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك وأخبره أبي أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك . وكان سبب التكبير أن الوحي لما احتبس قال المشركون هجره شيطانه ، وودعه ، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ، فلما نزل { والضحى } كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بنزول الوحي ، فاتخذوه سنةً .
أمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ : يقول : فاذكره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، في قوله : وَأمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ قال : بالنبوّة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا سعيد بن إياس الجريريّ ، عن أبي نضرة ، قال : كان المسلمون يرون أن من شُكْرِ النعم أن يحدّثَ بها .
وأمره الله تعالى بالتحدث بالنعمة ، فقال مجاهد والكسائي : معناه : بث القرآن وبلغ ما أرسلت به ، وقال آخرون بل هو عموم في جميع النعم ، وكان بعض الصالحين يقول : لقد أعطاني الله كذا وكذا ، ولقد صليت البارحة كذا وذكرت الله كذا ، فقيل له : إن مثلك لا يقول هذا ، فقال إن الله تعالى يقول : { وإما بنعمة ربك بحدث } ، وأنتم تقولون لا تحدث ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التحدث بالنعم شكر ){[11878]} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من أسديت إليه يد نعمة فذكرها فقد شكرها ومن سترها فقد كفرها ){[11879]} ونصب [ اليتيم ] ب [ تقهر ] والتقدير : مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني: اشكر الله على ما ذكر في هذه السورة ، وما صنع الله عز وجل بك من الخير ، إذ قال : ألم تكن كذا ، ففعلت بك كذا ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"أمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ" : يقول : فاذكره ... عن مجاهد ، في قوله : "وَأمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ" قال : بالنبوّة ...
عن أبي نضرة ، قال : كان المسلمون يرون أن من شُكْرِ النعم أن يحدّثَ بها .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يقول : حدثهم بنعم الله تعالى التي أنعم الله عليك ، وهو هذا القرآن ، إذ القرآن من أعظم ما أنعم الله عليه ، فأمره بالتحدث بما عليه من النعم ليعرفوا عظيم ما أنعم الله عليه من الاختصاص لهم حين جعلهم من أمته ومن قومه ، أو أمره أن يقرأه ، ويحدث بما فيه ...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وحكم الآية [ عام ] في جميع الإنعام ....
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها : النبوة ، قاله ابن شجرة ، ويكون تأويل قوله فحدث أي ادعُ قومك .
الثاني : أنه القرآن ، قاله مجاهد ، ويكون قوله : فحدث أي فبلّغ أمتك ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
التحديث بنعمة الله : شكرها وإشاعتها ، يريد : ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وأما بنعمة ربك }... أي فاذكر النبوة وبلغ الرسالة فاذكر جميع نعمه عليك فإنها نعم على الخلق كافة.... ..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأما التحدث بنعمة الله - وبخاصة نعمة الهدى والإيمان - فهو صورة من صور الشكر للمنعم . يكملها البر بعباده ، وهو المظهر العملي للشكر ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله : { وأما بنعمة ربك فحدث } مقابل قوله : { ووجدك عائلاً فأغنى } [ الضحى : 8 ] .
فإن الإغناء نعمة فأمره الله أن يظهر نعمة الله عليه بالحديث عنها وإعلان شكرها .
وليس المراد بنعمة ربك نعمة خاصة وإنما أريد الجنس فيفيد عموماً في المقام الخطابي ، أي حدث ما أنعم الله به عليك من النعم ، فحصل في ذلك الأمر شكر نِعمة الإِغناء ، وحصل الأمر بشكر جميع النعم لتكون الجملة تذييلاً جامعاً .
فإن جعل قوله : { وأما السائل فلا تنهر } مقابل قوله { ووجدك عائلاً فأغنى } على طريقة اللف والنشر المشوش، كان قوله : { وأما بنعمة ربك فحدث } مقابل قوله : { ووجدك ضالاً فهدى } [ الضحى : 7 ] على طريقة اللف والنشر المشوش أيضاً .
وكان المراد بنعمة ربه نعمة الهداية إلى الدين الحق .
والتحديث : الإِخبار ، أي أخْبِر بما أنعم الله عليك اعترافاً بفضله ، وذلك من الشكر ، والقول في تقديم المجرور وهو { بنعمة ربك } على متعلَّقه كالقول في تقديم { فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر } .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم فمقتضى الأمر في المواضع الثلاثة أن تكون خاصة به ، وأصل الأمر الوجوب ، فيعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واجب عليه ما أمر به ، وأما مخاطبة أمته بذلك فتجري على أصل مساواة الأمة لنبيها فيما فرض عليه ما لم يدلّ دليل على الخصوصية ، فأما مساواة الأمة له في منع قهر اليتيم ونهر السائل فدلائله كثيرة مع ما يقتضيه أصل المساواة .
وأما مساواة الأمة له في الأمر بالتحدث بنعمة الله، فإن نعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم شتّى، منها ما لا مطمع لغيره من الأمة فيه، مثل نعمة الرسالة ونعمة القرآن ونحو ذلك من مقتضيات الاصطفاء الأكبر ، ونعمة الرب في الآية مُجملة .
فنعم الله التي أنعم بها على نبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة منها ما يجب تحديثه به وهو تبليغه الناس أنه رسول من الله وأن الله أوحى إليه وذلك داخل في تبليغ الرسالة وقد كان يُعلم الناسَ الإِسلام فيقول لمن يخاطبه أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .
ومنها تعريفه الناس ما يجب له من البر والطاعة كقوله لمن قال له : " اعدل يا رسول الله فقال : أيأمنُني الله على وحيه ولا تأمنوني " ومنها ما يدخل التحديث به في واجب الشكر على النعمة فهذا وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم خالص من عُروض المعارض لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من عروض الرياء ولا يظن الناس به ذلك فوجوبه عليه ثابت .
وأما الأمة فقد يكون التحديث بالنعمة منهم محفوفاً برياء أو تفاخر . وقد ينكسر له خاطر من هو غير واجد مثل النعمة المتحدث بها . وهذا مجال للنظر في المعارضة بين المقتضي والمانع ، وطريقة الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح لأحدهما ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وختمت هذه السورة الكريمة بالدعوة إلى كفالة اليتيم والإحسان إليه ، وإكرام السائل والعطف عليه ، والتحدث بنعم الله التي أنعم بها على رسوله والمؤمنين ، وعلى رأسها نعمة الإيمان والإسلام ، والذكر الحكيم الذي أنزله الله رحمة للعالمين ، وذلك قوله تعالى : { فأما اليتيم فلا تقهر9 } ، أي : اكفله وقربه وأصلح أمره ، { وأمّا السائل فلا تنهر10 } ، أي : إما أن تعطيه مما أعطاك الله ، أو تعده ، أو ترده ردا جميلا بكلمة طيبة، ويندرج تحت هذه الآية السائل عن دينه من أجل البيان والمعرفة . { وأما بنعمة ربك فحدث11 } ، أي : اشكر إحسان الله إليك وإنعامه عليك ، بالجوارح واللسان والجنان .