التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ} (11)

- التحدث بنعمة الله كناية عن ذكر نعمة الله وشكر الله عليها وأداء الواجب على صاحبها نحو الله والناس .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ والضُّحَى ( 1 ) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى 1 ( 2 ) مَا وَدَّعَكَ 2 رَبُّكَ وَمَا قَلَى3 ( 3 ) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى( 4 ) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى( 5 ) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى( 6 ) وَوَجَدَكَ ضَالًّا 4 فَهَدَى ( 7 ) وَوَجَدَكَ عَائِلًا 5 فَأَغْنَى( 8 ) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ 6 ( 9 ) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ 7 ( 10 ) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 8 ( 11 ) } [ 1- 11 ] .

جميع آيات السور موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعانيها واضحة . وفي آياتها الخمس الأولى قسم رباني في معرض التوكيد والتطمين . وفي آياتها الثلاث الأخيرة تعليمه ما يجب عليه إزاء نعم الله من الشكر وإزاء اليتيم من الرعاية وإزاء السائل من كلمة الخير والمساعدة .

ومع احتمال انصراف الآية الرابعة إلى الحياة الأخروية ، فإن من المحتمل أيضا أن يكون قصد بها تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتبشيره بنجاح الدعوة ، وبأن مستقبلها سيكون خيراً من بدئها وقد تساعد الآية الخامسة على تدعيم هذا التوجيه ؛ حيث تلهم أن ما احتوته من الوعد والبشرى بإعطاء الله له حتى يرضى ، هما بالنسبة لظروف الحياة الدنيا أقوى منهما بالنسبة للحياة الأخروية .

ومع أن الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأوامر الربانية الواردة في الآيات الثلاث الأخيرة متسقة مع المبادئ والأهداف التي احتواها القرآن منذ بدء تنزيله ، وتلقينها شامل لجميع المؤمنين . ويلحظ أن الفصول القرآنية السابقة قد احتوت ما يماثل هذه الأوامر ، وقد استمرت الفصول القرآنية على ذكرها مما له مغزى جليل ينطوي على عظمة أهداف الرسالة المحمدية في صدد البرّ بالفقراء والرأفة بالضعفاء والتحدث بنعمة الله قولاً وفعلاً . ويتبادر لنا أن هذا كان من الأسباب القوية التي جعلت أغنياء مكة وزعماءها يتحالفون ضدّ الدعوة ويشتدون في مناوأتها ، ويستمرون في ذلك طيلة العهد المكي والشطر الأكبر من العهد المدني .

نشأة النبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته إلى نبوته

وفي الآيات [ 6و 7و 8 ] إشارة إلى ما كانت عليه ظروف النبي صلى الله عليه وسلم في نشأته الشخصية والروحية وحاله الاقتصادية منذ طفولته إلى أن أكرمه الله بالنبوة ، فأشير فيها إلى يتمه في عهد طفولته ، وفقره في عهد فتوته وشبابه ، ثم حيرته الروحية في الاتجاه الذي يتجه إليه في دينه وعبادته ومبادئه . وقد قررت أن الله قد حماه في عهد يتمه حيث كان اليتيم معرضاً للإرهاق والقهر والضياع فجعل له مأوى أميناً ، ويسر له في عهد شبابه من بسطة العيش واليسر ما جعله في غنى عن التكسب وفي راحة من عناء المعيشة وهمها ، ونقّى نفسه ووجّهه إلى سبيل الهدى القويم فأنقذه من حيرته .

والروايات تكاد تكون متواترة إلى حد اليقين{[2424]}بأنه كان له من جده عبد المطلب أولاً ومن عمه أبي طالب بعده من البرّ والرأفة والحماية والعناية في طفولته وشبابه ، ثم من عمّه بعد بعثته من النصر والعطف ما ضمن له النشأة الصالحة ثم الحرية والمنعة .

كذلك ، فإن الروايات تكاد تكون متواترة إلى حدّ اليقين{[2425]} بأن حاله الاقتصادية قد تحسنت وانتهى ما كان يعانيه من متاعب العيش بزواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها الشريفة في قومها ، الغنية في مالها القوية في خلقها وعقلها وروحها ، المتنعمة في معيشتها ، وكان من أثر ذلك أن اطمأنت نفسه وأخذ يفرغ قلبه وذهنه لما كانت نفسه مستعدة له من الاستغراق في آلاء الله ومظاهر الكون والتفكير فيما عليه قومه من ضلال في التقاليد والعقائد ، وتمكن من القيام باعتكافات روحية كانت خديجة رضي الله عنها تشجعه عليها وتهيئ له ما يحتاج إليه فيها على ما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة والذي أوردناه في سياق سورة العلق ، حتى كان مظهر اختصاص الله إياه بالرسالة العظمى حينما بلغ أشده واستوى .

ولقد كانت السيدة خديجة رضي الله عنها عطوفة عليه بارة به ، ومن أقوى المشجعين المثبتين له الذابّين عنه المصدقين به ، مما يمكن أن يدل على أنها قد أدركت بفراستها القابليات العظمى التي تميز بها والاستعداد الروحي الذي ظهرت آثاره عليه ، والأخلاق الكريمة التي تحلى بها فلم يكد يخبرها بأمر الوحي حتى تيقنت صدقه ونفت ما طاف في ذهنه من خوف ، وهتفت بذلك الكلمات المأثورة الخالدة : ( كلا إن الله لن يخزيك ، فإنك تفعل المعروف ، وتقري الضيف ، وتحمل الكل ، وتعين على نوائب الدهر ) على ما أوردناه من حديث للبخاري في سياق سورة القلم .

وأما عن حيرته فقد كان إزاء ما عليه قومه من تقاليد وطقوس وأخلاق وعادات وعقائد في موقف المنقبض المتشكك منذ عهد شبابه على ما ذكرته الروايات{[2426]} كما أن في مثل هذا الموقف إزاء ما كان عليه أهل الكتاب من اختلاف ونزاع وشذوذ من دون شك ولاسيما حينما كان يسمع اليهود يقولون : ليست النصارى على شيء ، وحينما كان يسمع النصارى يقولون ليست اليهود على شيء ، ويرى الخلاف والنزاع يشتدان بينهم إلى درجة الاقتتال مما أشارت إليه آية البقرة هذه : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ( 113 ) } وآية البقرة هذه أيضا : { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }{[2427]} [ 253 ] . فكانت تعتلج في نفسه الأفكار ، وتقوم في صدره الشكوك في صواب ما يرى ، ويسلم نفسه إلى التفكير في آلاء الله وعظمة الكون والاعتكافات الروحية ، فلم يلبث أن صفت نفسه وشع في قلبه نور الحقيقة الإلهية العظمى واهتدى إليها بإلهام الله فجعلها الهدف الذي يستهدفه والاتجاه الذي يتجه إليه .

ولقد روت الروايات{[2428]} أنه أخذ ينشأ في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم طبقة من العقلاء داخلهم الشك مثله في صواب ما عليه العرب والكتابيون ، وأخذوا يبحثون مثله عن الطريق الأقوم والسبيل الحق ويتجهون مثله إلى الحقيقة الإلهية العظمى وحدها ، ومنهم من كان اعتزم الطواف للبحث عن ملّة إبراهيم ليسير عليها وأن النبي صلى الله عليه وسلم التقى ببعض هؤلاء قبل البعثة .

فمن الممكن أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في عهد حيرته هذا من هذه الطبقة ، وإنه كان مثل أفرادها يود أن يتعرف على حدود ملة إبراهيم ويسير في سبيلها عن يقين ، ثم كان له من صفاء النفس وذكاء العقل وقوة القلب وعظيم الخلق وعميق الاستغراق ما جعله يمتاز عليهم فكان مصطفى الله من بينهم ، فأتم الله إيمانه وأنار بصيرته وأنقذه من حيرته إلى اليقين واختصه بالنبوة وانتدبه للمهمة العظمى التي أوحي إليها فيما بعد بآيات الأحزاب هذه : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا( 46 ) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا( 47 ) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا( 48 ) } .

ولقد نصت الآيات القرآنية على أن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد لم يكن يدري من أمر نبوته ومهمته شيئا ، ولم يكن يرجو أن ينزل عليه كتاب كما جاء في سورة القصص هذه : { وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك } [ 86 ]وفي آية سورة الشورى هذه : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم( 52 ) } وفي آية سورة يونس هذه : { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون( 16 ) } . وهذا يجعلنا نقول : إن هذا الدور الذي قضاه منذ شبابه إلى اكتمال نضجه ونزول الوحي عليه كان دور استعداد وتأهل روحي ، وهو الدور الذي يمكن أن يطلق عليه دور الحيرة والذي عنته الآية الكريمة : { ووجدك ضالا فهدى } فيما يتبادر لنا مما يجعلنا نعتقد أن كلمة { ضَالاً } لم تعن السير في سبيل الضلالة والشرك والتقاليد الجاهلية والوثنية التي كان عليها العرب ، وأن كلمة { فَهَدَى } لم تعن أن الله أخرجه من هذا النطاق بعد أن ارتكس فيه ، وإنما عنت الأولى ما كان في نفسه من حيرة وتململ وتوقان إلى ساحل اليقين ، كما عنت الأخرى ما كان من اليقين الذي وصل إليه فاطمأنت به نفسه .

وفي سورة الأنعام آيات يمكن الاستئناس بها لما قررناه بوجه عام ولما أشرنا إليه في صدد ملة إبراهيم والرغبة في الاهتداء إليها واتباعها بوجه خاص وهي : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 161 ) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( 162 )لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ( 163 ) } وقوة التلقين والدلالة في هذه الآيات قوية أخّاذة .

هذا ولقد روى بعض المفسرين{[2429]}في سياق آية { ووجدك ضالا فهدى( 7 ) } أنها إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تاه في طفولته في جبال مكة ، فقلق عليه جده وبحث عنه طويلاً حتى وجده ولم يصب بسوء . ونحن نشك في الرواية كل الشك ؛ لأنّ الحادث الذي ذكرته أتفه من أن يكون موضوع ذكر وتذكير ، فضلاً عن عدم وثوقها وعن التوجيه الصحيح الذي قررناه والذي تسنده آيات القرآن .

ختام السورة:

تعليق على روايات فتور الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ولقد روى المفسرون : أن هذه السورة نزلت بعد فترة من نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم والروايات متنوعة ومتعددة في ذلك . منها ما هو في مدة هذه الفترة ؛ حيث تتراوح حسب اختلاف الروايات بين يومين وبين ثلاث سنين . ومنها ما هو في أسبابها وأثرها حيث روي فيما روي أن السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت له حينما فتر عنه الوحي : ما أرى إلاّ أن ربّك قلاك ، وأن مثل هذا القول صدر عن امرأة أبي لهب في معرض السخرية والشماتة ، وأن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : ما أرى شيطانك إلاّ تركك ، فإني لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ، وأن المشركين أو بعضهم قالوا لما عرفوا خبر الفترة : إن محمداً قد وُدّع ، وأن السورة لم تلبث أن نزلت بعد هذه الأقوال ، وحيث روي أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين وأهل الكهف والروح فقال لهم : سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله ، ففتر الوحي عنه ، فلما جاءه بعد الفتور بهذه السورة قال له : يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك ، فقال : إني كنت أشد شوقا إليك ولكني عبد مأمور ، وحيث روي أنه كان للحسن أو الحسين في بيته جرو ، فلما نزل الوحي بالسورة وسأله النبي عن فتوره قال له : إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ! ومن الروايات ما هو في وقت نزول السورة حيث روي أن الفترة كانت بعد نزول آيات سورة العلق الأولى ، وأن سورة الضحى هي أول ما نزل بعد هذه الآيات . ومنها ما هو عدد فترات الوحي ؛ حيث روي أنها لم تكن مرة واحدة وإنما تكررت قصيرة حينا وطويلة حيناً . وقد روي فيما روي كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حزن حزناً شديداً من الفترة حتى همّ بأن يلقي نفسه من شاهق الجبل{[1]} .

ومعظم الروايات غير موثق ، ومنها ما لا يمكن التسليم به لتعارضه مع وقت نزول السورة خاصة ، مثل رواية الفترة بسبب عدم قول النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله حينما سأله اليهود عن المسائل الثلاث وقال لهم سأخبركم غداً ؛ لأن احتكاك النبي صلى الله عليه وسلم باليهود وأسئلتهم التعجيزية له كانت في العهد المدني ، ولم ترد رواية وثيقة عن مثل ذلك في العهد المكي فضلا عن أن نزول قصص أهل الكهف وذي القرنين والسؤال عن الروح ، وإنما كان في أواسط العهد المكي ، ومثل رواية الفترة بسبب جرو الحسن أو الحسين رضي الله عنهما في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن السبطين الشريفين من مواليد المدينة ، ومثل رواية قول خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أرى ربك إلاّ قلاك ، لأن المأثور أنها كانت تشجعه وتثبته وتبث في نفسه الثقة والقوة والعزيمة على ما أوردنا بعض ذلك في مناسبة سابقة ، ومثل رواية استمرار الفترة ثلاث سنين ؛ لأن هذا لو وقع لكان غيّر مجرى تاريخ الدعوة ؛ لأن من شأنه أن يثير القلق بل والشكّ حتى في نفوس المؤمنين المخلصين الذين استجابوا للدعوة والتفوا حول النبي صلى الله عليه وسلم .

والموثق من الروايات والتي يبدو عليها سمة الصحة وصدق الاحتمال هي رواية فتور الوحي ليلتين أو ثلاثاً ، وقول امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم إني أرى شيطانك قد تركك ، فما لبثت السورة أن نزلت وقد جاءت هذه الرواية في حديث للبخاري ومسلم والترمذي{[2]} .

وعلى كل فيمكن القول بشيء من القطيعة والجزم استلهاماً من سورة الضحى واستئناساً بالروايات الكثيرة المتواترة :

1- إن الوحي قد فتر أياما عن النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل عهد الدعوة .

2- وإن الفترة قد أثارت في نفسه حزناً وأزمة وخوفاً من أن يكون الله قد تخلّى عنه بعد أن سار في الدعوة شوطا ما .

3- وإن المشركين أو بالأحرى الذين قادوا حركة المعارضة لدعوته والذين أظهروا عداء شديداً له استغلوا ذلك وقالوا في سخرية وشماتة : إن ربّه قد قلاه وودعَه ، وإن منهم من عيّره بذلك مواجهة ، وإن ذلك قد زاد من حزنه وأزمته حتى نزلت السورة التي احتوت تثبيتاً وتطميناً ورداً على الشامتين .

ومن الجدير بالذكر أن في القرآن قرائن قد تدل على أن الوحي فتر عن النبي صلى الله عليه وسلم في أواسط العهد المكي على ما سوف ننبه عليه في مناسباته . غير أن ذلك لم يُحدث في النبي صلى الله عليه وسلم أزمة ، ولم يتعرض بمناسبة ذلك لحملة كما كان شأن هذه المرة مما هو طبيعي ؛ لأن هذه المرة كانت في مبادئ الدعوة وخطواتها الأولى .

صورة من صميمية النبي صلى الله عليه وسلم

والمتمعن في آيات السورة الأولى وهي تؤكد للنبي صلى الله عليه وسلم عدم ترك ربّه إياه يلمس صميمية رائعة تملأ النفس إعجاباً فيما أثارته الفترة من قلق في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ، وتنّم عن يقينه العميق بأنه رسول الله ، وبأن ما كان يبلغه من الآيات والفصول القرآنية هو وحي الله ، فإذا أوحي إليه بشيء وإذا فتر عنه الوحي أعلن ذلك ، وإذا لم يتل على الناس شيئا جديداً في ظرف ما فلأنه لم يوح إليه بشيء جديد . فقد علمه الله أن يعلن للناس أنه ليس عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يزعم أنه ملك كما جاء في سورة الأنعام هذه : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } [ 50 ] وآية سورة الأعراف هذه : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( 188 ) } وقد أمره الله أن يعلن أنه لا يبلغ إلا ما يوحى إليه ولا يستطيع أن يغير ويبدل فيه كما جاء في آية يونس هذه : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ( 15 ) } .


[2424]:- انظر طبقات ابن سعد ج1 ص199 وما بعدها مثلا.
[2425]:- انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 113 وما بعدها وانظر أيضا الأمرين في كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم لهيكل طبعة ثانية ص 105- 132.
[2426]:- انظر طبقات ابن سعد ج 1 ص 112و 126- 127 و136و 140.
[2427]:- الآيات تذكر أمرا واقعا قبل نزولها ممتدا إلى ما قبل البعثة ونعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعه ويعرفه.
[2428]:- انظر الفصلين الخامس والسادس من الباب الرابع في الحياة الدينية عند العرب في كتابنا عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة ص 396- 434 وانظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 215- 323 وج 2 ص 103 وص 177- 178 وطبقات ابن سعد ص 202 وتفسير الرازي ج 1 ص 369- 370 وأسد الغابة ج 327 -329.
[2429]:- انظر تفسير السورة في تفسير الكشاف للزمخشري وتفسير مجمع البيان للطبرسي والخازن. على أن هؤلاء المفسرين وجمهرة المفسرين الآخرين يؤولون الضلال بنوح ما أولناه أو في نطاقه. انظر كتب التفسير الثلاثة المذكورة وانظر أيضا تفسير الطبري والنيسابوري والبغوي وابن كثير والآلوسي الخ.

[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.