قوله تعالى : { إنما التوبة على الله } قال الحسن : يعني التوبة التي يقبلها ، فيكون " على " بمعنى عند ، وقيل : من الله .
قوله تعالى : { للذين يعملون السوء بجهالة } . قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي به الله فهو جهالة ، عمداً كان أو لم يكن . وكل من عصى الله فهو جاهل . وقال مجاهد : المراد من الآية العمد ، قال الكلبي : لم يجهل أنه ذنب لكنه جهل عقوبته . وقيل : معنى الجهالة : اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية .
قوله تعالى : { ثم يتوبون من قريب } . قيل : معناه قبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها ، وقال السدي والكلبي : القريب : أن يتوب في صحته قبل مرض موته . وقال عكرمة : قبل الموت ، وقال الضحاك : قبل معاينة ملك الموت .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نغير عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) .
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنا أبو جعفر محمد ابن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنا حميد بن زنجويه ، أنا أبو الأسود ، أنا ابن لهيعة ، عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الشيطان قال : وعزتك يا رب ، لا أبرح أغوي عبادك مادامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب عز وجل : وعزتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني .
وبعد أن وصف - سبحانه - ذاته بأنه هو التواب الرحيم عقب ذلك ببيان من تقبل منهم التوب ، ومن لا تقبل منهم فقال : { إِنَّمَا التوبة . . . . . عَذَاباً أَلِيماً } .
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 17 ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 18 )
والتوبة : هى الرجوع إلى الله - تعالى - وإلى تعاليم دينه بعد التقصير فيه مع الندم على هذا التقصير والعزم على عدم العودة إليه .
والمراد بها قبولها من العبد . فهى مصدر تاب عليه إذا قبل توبته .
والمراد من الجهالة فى قوله { يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ } : الجهل والسفه بارتكاب مالا يليق بالعاقل ، لا عدم العلم ، لأن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة .
قال مجاهد : كل من عصى الله عمداً أو خطأ فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .
وقال قتادة : اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شئ عسى الله به فهو جهالة عما كان أو غيره .
قال - تعالى - حكاية عن يوسف - عليه السلام - : { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين } وقال حكاية عن موسى - عليه السلام - { أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } وقال - سبحانه - مخاطبا نوحا - عليه السلام - { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } ووجه تسمية العاصى جاهلا - وإن عصى عن علم - أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما عصى ربه ، فلما لم يستعمل هذا العلم صار كأنه لا علم له ، فسمى العاصى جاهلا لذلك ، سواء ارتكب المعصية مع العلم بكونها معصية أم لا .
والمعنى : إنما قبول التوبة كائن أو مستقر على الله - تعالى - لعباده الذين يعملون السوء ، ويقعون فى المعاصى بجهالة أى يعملون السوء جاهلين سفهاء ، لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة ، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل .
وصدر - سبحانه - الآية الكريمة بإنما الدالة على الحصر ، للإِشعار بأن هؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، هم الذين يقبل الله توبتهم ، ويقيل عثرتهم .
وعبر - سبحانه - بلفظ على فقال : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } للدلالة على تحقق الثبوت ، حتى لكأن قبول التوبة من هؤلاء الذين { يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } من الواجبات عليه ، لأنه - سبحانه - قد وعد بقبول التوبة ؛ وإذا وعد بشئ أنجزه ، إذ الخلف ليس من صفاته - تعالى - بل هو محال فى حقه - عز وجل - .
ولفظ { التوبة } مبتدأ . وقوله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف خبر . وقوله { عَلَى الله } متعلق بمحذوف صفة للتوبة .
أى : إنما التوبة الكائنة على الله للذين يعملون السوء بجهالة . . .
وقوله { بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل { يَعْمَلُونَ } أى : يعملون السوء جاهلين سفهاء . أو متعلق بقوله { يَعْمَلُونَ } فتكون الباء للسببية أى : يعملون السوء بسبب الجهالة .
وقوله { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } أى ثم يتوبون فى زمن قريب من وقت عمل السوء ، ولا يسترسلون فى الشر استرسالا ويستمرئونه ويتعودون عليه بدون مبالاة بإرتكابه .
ولا شك أنه متى جدد الإنسان توبته الصادقة فى أعقاب ارتكاب للمعصية كان ذلك أرجى لقبولها عند الله - تعالى - وهذا ما يفيده ظاهر الآية . ومنهم من فسر قوله { مِن قَرِيبٍ } بما قبل حضور الموت . وإلى هذا المعنى ذهب صاحب الكشاف فقال : قوله : { مِن قَرِيبٍ } أى : من زمان قريب . والزمان القريب : ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } . فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذى لا تقبل فيه التوبة ، فبقى ما وراء ذلك فى حكم القريب . وعن ابن عباس : قبل أن ينزل به سلطان الموت . وعن الضحاك : كل توبة قبل الموت فهى قريب . وفى الحديث الشريف : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " - أى ما لم تتردد الروح فى الحلق .
والذى نراه أن ما ذكره صاحب الكشاف وغيره من أن قوله { مِن قَرِيبٍ } معناه : من قبل حضور الموت ، لا يتعارض مع الرأى القائل بأن قوله { مِن قَرِيبٍ } معناه : تم يتوبون فى وقت قريب من وقت عمل السوء ، لأن ما ذكره صاحب الكشاف وغيره بيان للوقت الذى تجوز التوبة فيه ولا تنفع بعده ، أما الرأى الثانى فهو بيان للزمن الذى يكون أرجى قبولا لها عند الله .
والعاقل من الناس هو الذى يبادر بالتوبة الصادقة عقب المعصية بلا تراخ ، لأنه لا يدرى متى يفاجئه الموت ، ولأن تأخبرها يؤدى إلى قسوة القلب ، وضعف النفس ، واستسلامها للأهواء والشهوات .
وقوله : { فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } بيان للوعد الحسن الذى وعد الله به عبادة الذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من قريب .
أى : فأولئك المتصفون بما ذكر ، يقبل الله توبتهم ، ويأخذ بيدهم إلى الهداية والتوفيق ، ويطهر نفوسهم من أرجاس الذنوب ، وكان الله عليما بأحوال عباده وبما هم عليه من ضعف ، حكيما يضع الأمور فى مواضعها حسبما تقتضيه مشيئته ورحمته بهم .
وقوله { فأولئك } مبتدأ . وقوله { يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } خبره .
وأشار إليهم بلفظ { أولئك } للإِيذان بسمو مرتبتهم ، وعلو مكانتهم ، وللتنبيه على استحضارهم باعتبار أوصافهم المتقدمة الدالة على خوفه من خالقهم عز وجل - وقوله { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها .
يقول تعالى : إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ، ثم يتوب ولو قبل معاينة المَلَك [ لقبض ]{[6792]} روحه قَبْلَ الغَرْغَرَة .
قال مجاهد وغير واحد : كل من عصى الله خطأ أو عَمدًا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب .
وقال قتادة عن أبي العالية : أنه كان يحدث : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة . رواه ابن جرير .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عُصي به فهو جهالة ، عمدًا كان أو غيره{[6793]} .
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : كل عامل بمعصية الله{[6794]} فهو جاهل حين عملها . قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوَه .
وقال أبو صالح عن ابن عباس : مِنْ جَهالته عمل السوء .
وقال علي بن أبي طَلْحَة ، عن ابن عباس { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت ، وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب . وقال قتادة والسدي : ما دام في صحته . وهو مروى عن ابن عباس . وقال الحسن البصري : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } ما لم يُغَرْغر . وقال عكرمة : الدنيا كلها قريب .
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عَيَّاش{[6795]} وعصام بن خالد ، قالا حدثنا ابن ثَوْبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جُبَير بن نُفَيْر{[6796]} عن ابن عُمَرَ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله يَقْبلُ تَوْبَةَ العبدِ ما لم يُغَرغِر " .
[ و ]{[6797]} رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، به{[6798]} وقال الترمذي : حسن غريب . ووقع في سنن ابن ماجه : عن عبد الله بن عَمْرو . وهو وَهْم ، إنما هو عبد الله بن عُمَر بن الخطاب .
حديث آخر{[6799]} عن ابن عُمَر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر{[6800]} حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي{[6801]} حدثنا أيوب بن نَهِيك الحلبي قال : سمعت عطاء بن أبي رباح قال : سمعت عبد الله بن عُمَر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِن يَتُوبُ قَبْلَ الموتِ بشهر إلا قَبِلَ الله منه ، وأدْنَى من ذلك ، وقَبْل موته بيوم وساعة ، يعلم الله منه التوبة والإخلاصَ إليه إلا قَبِل منه " {[6802]} .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرنا إبراهيم بن ميمون ، أخبرني رجل من مِلْحَان{[6803]} يقال له : أيوب - قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بشهر تِيب عليه ، ومن تاب قَبْلَ موته بجمعة تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه . فقلت له : إنما قال الله : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } فقال : إنما أُحدِّثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . {[6804]}
وهكذا رواه أبو داود{[6805]} الطيالسي ، وأبو عمر الحَوْضي ، وأبو عامر العَقدي ، عن شعبة .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حُسين بن محمد ، حدثنا محمد بن مطَرَّف ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البَيْلماني{[6806]} قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهم : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يَقْبَلُ تَوْبَة العبدِ قبل أن يموتَ بيومٍ " . فقال الآخر : أنتَ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بِنِصْفِ يوم " فقال الثالث : أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضَحْو " . قال{[6807]} الرابع : أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله [ تعالى ]{[6808]} يقبل توبة العبد ما لم{[6809]} يُغَرغر بنفسه " . وقد رواه سعيد بن منصور عن الدَرَاوَرْدي ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البيلماني{[6810]} فذكر قريبًا منه{[6811]} .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا عمران بن عبد الرحيم ، حدثنا عثمان بن الهيثم ، حدثنا عَوْف ، عن محمد بن سِيرِين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يَقبل تَوْبَة عَبْدِهِ ما لم يُغَرْغِرْ " {[6812]} .
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن عَوْف ، عن الحسن قال :
بلغني أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الله يَقْبلُ توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ " هذا مرسل حسن{[6813]} . عن الحسن البصري ، رحمه الله .
آخر : قال ابن جرير أيضًا ، رحمه الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بشير بن كعب ؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ " {[6814]} .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر مثله{[6815]} .
أثر آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قِلابة ، فحدث أبو قِلابة فقال : إن الله تعالى لما لَعَنَ إبليس سأله النَّظرة فقال : وعِزَّتِك وجلالك لا أَخْرُجُ من قَلْبِ ابن آدمَ ما دام فيه الروح . فقال الله : وعزتي{[6816]} لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .
وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوارِي كلاهما عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال إبليس : وعِزَّتِك لا أزَالُ أُغْوِيهم ما دامت أرْوَاحهُمْ في أجسادهم . فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ، لا أزال{[6817]} أغْفِرُ لهم ما اسْتَغْفَرُوني " {[6818]} .
فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة ، فإن توبته مقبولة [ منه ]{[6819]} ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } فأما متى وقع الإياس من الحياة ، وعاين الملك ، وحَشْرَجَتِ الروح في الحلق ، وضاق بها الصدر ، وبلغت الحلقوم ، وَغَرْغَرَتِ النفس صاعدة في الغَلاصِم - فلا توبة متقبلة حينئذ ، ولات حين مناص ؛
ولهذا قال [ تعالى ]{[6820]} { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ }
{ إنما } حاصرة ، وهو مقصد المتكلم بها أبدا ًفقد تصادف من المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر ، كقوله تعالى : { إنما الله إله واحد }{[3894]} وقد تصادف من المعنى ما لا يقتضي العقل فيه الحصر ، كقوله : إنما الشجاع عنترة فيبقى الحصر في مقصد المادح ، ويتحصل من ذلك لكل سامع تحقيق هذه الصفة للموصوف بمبالغة ، وهذه الآية مما يوجب النظر فيها أنها حاصرة للتوبة{[3895]} ، وهي في عرف الشرع : الرجوع من شر إلى خير ، وحد التوبة : الندم على فارط فعل ، من حيث هو معصية الله عز وجل ، وإن كان الندم من حيث أضر ذلك الفعل في بدن أو ملك فليس بتوبة ، فإن كان ذلك الفعل مما يمكن هذا النادم فعله في المستأنف فمن شروط التوبة العزم على ترك ذلك الفعل في المستأنف ، وإلا فثم إصرار لا توبة معه ، وإن كان ذلك الفعل لا يمكنه ، مثل أن يتوب من الزنا فيجب بأثر ذلك ونحو ذلك ، فهذا لا يحتاج إلى شرط العزم على الترك ، والتوبة فرض على المؤمنين بإجماع الأمة ، والإجماع هي القرينة التي حمل بها قوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعاً }{[3896]} على الوجوب ، وتصح التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه ، خلافاً للمعتزلة في قولهم : لا يكون تائباً من أقام على ذنب ، وتصح التوبة وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب ، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت ، وهو محتاج بعد موافقة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة ، والإيمان للكافر ليس نفس توبته ، وإنما توبته ندمه على سالف كفره .
وقوله تعالى : { على الله } فيه حذف مضاف تقديره : على فضل الله ورحمته لعباده ، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، ثم سكت قليلاً ، ثم قال : يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله ؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال : أن يدخلهم الجنة{[3897]} ، فهذا كله إنما معناه : ما حقهم على فضل الله ورحمته ، والعقيدة : أنه لا يجب على الله تعالى شيء عقلاً ، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعاً ، فمن ذلك تخليد الكفار في النار ، ومن ذلك قبول إيمان الكافر ، والتوبة لا يجب قبولها على الله تعالى عقلاً ، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب ، قال أبو المعالي وغيره : فهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن لا قطعاً على الله بقبول التوبة .
قال القاضي أبو محمد : وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى ، فإذا فرضنا رجلاً قد تاب توبة نصوحاً تامة الشروط ، فقول أبي المعالي يغلب على الظن قبول توبته ، وقال غيره : يقطع على الله تعالى بقبول توبته ، كما أخبر عن نفسه عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : وكان أبي رحمة الله عليه يميل إلى هذا القول ويرجحه ، وبه أقول ، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله تعالى : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده }{[3898]} وقوله { وإني لغفار لمن تاب وآمن }{[3899]} و { السوء } في هذه الآية يعم الكفر والمعاصي ، وقوله تعالى : { بجهالة } معناه : بسفاهة وقلة تحصيل أدى إلى المعصية ، وليس المعنى أن تكون «الجهالة » أن ذلك الفعل معصية ، لأن المعتمد للذنوب كان يخرج من التوبة ، وهذا فاسد إجماعاً ، وبما ذكرته في «الجهالة » قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر ذلك عنهم أبو العالية ، وقال قتادة : اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة ، عمداً كانت أو جهلاً ، وقال به ابن عباس ومجاهد والسدي ، وروي عن مجاهد والضحاك أنهما قالا : «الجهالة » هنا العمد ، وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها «جهالة » .
قال القاضي أبو محمد : يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله ، وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو }{[3900]} وقد تأول قول عكرمة بأنه للذين يعملون السوء في الدنيا .
قال القاضي أبو محمد : فكأن «الجهالة » اسم للحياة الدنيا ، وهذا عندي ضعيف ، وقيل { بجهالة } ، أي لا يعلم كنه العقوبة ، وهذا أيضاً ضعيف ، ذكره ابن فورك ورد عليه ، واختلف المتأولون في قوله تعالى : { من قريب } فقال ابن عباس والسدي : معنى ذلك قبل المرض والموت ، وقال أبو مجلز ومحمد بن قيس والضحاك وعكرمة وابن زيد وغيرهم : معنى ذلك قبل المعاينة للملائكة والسوق{[3901]} ، وأن يغلب المرء على نفسه ، وروى أبو قلابة ، أن الله تعالى لما خلق آدم فرآه إبليس أجوف ، ثم جرى له ما جرى ولعن وأنظر ، قال : وعزتك لا برحت من قلبه ما دام فيه الروح ، فقال الله تعالى : وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح{[3902]} .
فابن عباس رضي الله عنه ذكر أحسن أوقات التوبة ، والجمهور حددوا آخر وقتها ، وقال إبراهيم النخعي : كان يقال : التوبة مبسوطة لأحدكم ما لم يؤخذ بكظمه ، وروى بشير بن كعب والحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ويغلب على عقله »{[3903]} .
قال القاضي أبو محمد : لأن الرجاء فيه باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل في المستأنف ، فإذا غلب تعذرت التوبة لعدم الندم والعزم على الترك ، وقوله تعالى : { من قريب } إنما معناه : «من قريب » إلى وقت الذنب ، ومدة الحياة كلها قريب ، والمبادر في الصحة أفضل ، والحق لأمله من العمل الصالح ، والبعد كل البعد الموت ، ومنه قول مالك بن الريب{[3904]} : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إلاّ مَكَانِيَا ؟
وقوله تعالى : { وكان الله عليماً حكيماً } أي بمن يتوب وييسره هو للتوبة حكيماً فيما ينفذه من ذلك ، وفي تأخير من يؤخر حتى يهلك .