قوله تعالى : { وكيف تأخذونه } . على طريق الاستعظام .
قوله تعالى : { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } . أراد به المجامعة ولكن الله حيي يكني ، وأصل الإفضاء الوصول إلى الشيء من غير واسطة .
قوله تعالى : { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } . قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة : وهو قول الولي عند العقد : زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان . وقال الشعبي وعكرمة : هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله تعالى ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى ) .
ثم كرر - سبحانه - توبيخه لمن يحاول أخذ شئ من صداق زوجته التى خاطلته فى حياته مدة طويلة فقال : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } .
وأصل أفضى - كما يقول الفخر الرازى - من الفضاء الذى هو السعة يقال : فضا يفضو فضوا وفضاء إذا اتسع . ويقال : افضى فلان إلى فلان أى : وصل إليه وأصله أنه صار فى فرجته وفضائه .
المراد بالإِفضاء هنا : الوصول والمخالطة : لأن الوصول إلى الشئ قطع للفضاء الذى يبين المتواصلين .
والاستفهام فى قوله { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } للتعجب من حال من يأخذ شيئا مما أعطاه لزوجته بعد إنكار ذات الأخذ .
والمراد بالميثاق الغليظ فى قوله { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } هو ما أخذه الله للنساء على الرجال من حسن المعاشرة أو المفارقة بإحسان كما فى قوله - تعالى - : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وليس أخذ شئ مما أعطاه الرجال للنساء من التسريح بإحسان ، بل يكون من التسريح الذى صاحبه الظلم والإِساءة .
والمراد بالميثاق الغليظ الذى أخذ : كلمة النكاح المعقود على الصداق ، والتى بها تستحل فروج النساء ، ففى صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال فى خطبة حجة الوداع : " استوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " .
والمعنى : بأى وجه من الوجوه تستحلون يا معشر الرجال ان تأخذوا شيئا من الصداق الذى أعطيتموه لنسائكم عند مفارقتهن ؛ والحال أنكم قد اختلط بعضكم ببعض ، وصار كل واحد منكم لباسا لصاحبه ، وأخذن منكم عهدا وثيقا مؤكدا تأكيد ؛ لا يحل لكم أن تنقضوه أو تخالفوه ! ! ؟
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد منع الرجال من أخذ شئ من الصداق الذى أعطوه لنسائهم لسببين :
أحدهما : الإفضاء وخلوص كل زوج لنفس صاحبه حتى صارا كأنهما نفس واحدة .
وثانيهما : الميثاق الغليظ الذى أخذ على الرجال بأن يعاملوا النساء معاملة كريمة .
والضمير فى قوله { وَأَخَذْنَ } للنساء .
والآخذ فى الحقيقة إنما هو الله - تعالى - إلا أنه سبحانه - نسبه إليهن للمبالغة فى المحافظة على حقوقهن ، حتى جعلن كأنهن الآخذات له .
قال بعضهم : وهذا الإِسناد مجاز عقلى ، لأن الآخذ للعهد هو الله . أى : وقد أخذ الله عليكم العهد لأجلهن وبسبيهن . فهو مجاز عقلى من الإِسناد إلى السبب .
ووصف - سبحانه - الميثاق بالغلظة لقوته وشدته . فقد قالوا : صحبة عشرين يوما قرابة . فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج ؟ !
هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة ما يأتى :
1- تكريم الإِسلام للمرأة ، فقد كانت فى الجاهلية مهضومة الحق ، يعتدى عليها بأنواع من الاعتداء ، فرفعها الله - تعالى - بما شرعه من تعاليم إسلامية من تلك الهوة التى كانت فيها ، وقرر لها حقوقها ، ونهى عن الاعتداء عليها .
ومن مظاهر ذلك أنه حرم أن تكون موروثة كما يورث المال . وكذلك حرم عضلها وأخذ شئ من صداقها إلا إذا أتت بفاحشة مبينة . وأمر الرجال بأن يعاشروا النساء بالمعروف ، وأن يصبروا على أخطائهن رحمة بهن .
2- جواز الإِصداق بالمال الكثير : لأن الله - تعالى - قال : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } . والقنطار : المال الكثير الذى هو أقصى ما يتصور من مهور .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } دليل على جواز المغالاة فى المهور ، لأن الله - تعالى - لا يمثل إلا بمباح .
وخطب عمر - رضى الله عنه - فقال : ألا لا تغالوا فى صدقات النساء ، فإنها لو كانت مكرمة فى الدنيا أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتى عشرة أوقية . فقامت إليه امرأة فقال : يا عمر . يعطينا الله وتحرمنا ! ! أليس الله تعالى - يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } ؟ فقال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر . .
وفى رواية أنه أطرق ثم قال : امرأة أصابت ورجل أخطأ وترك الإِنكار .
ثم قال القرطبى : وقال قوم : لا تعطى الآية جواز المغالاة فى المهور ، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة : كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذى لا يؤتيه أحد . .
ولقد " قال النبى صلى الله عليه وسلم لإِبن أبى حدرد - وقد جاءه يستعين فى مهره فسأله عنه فقال : مائتين ، فغضب صلى الله عليه وسلم : وقال : " كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة " " أى من ذلك المكان الذى به حجارة نخرة سود - فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة فى المهور .
والذى نراه أن الآية الكريمة وإن كانت تفيد جواز الإِصداق بالمال الجزيل ، إلا ان الأفضل عدم المغالاة فى ذلك ، مع مراعاة أحوال الناس من حيث الغنى والفقر وغيرهما .
ولقد ورد ما يفيد الندب إلى التيسير فى المهور . فقد أخرج أبو داود والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير الصداق أيسره " .
3- أن الرجل إذا أراد فراق امرأته . فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا ما دام الفراق بسببه ومن جانبه : كما أنه لا ينبغى له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاه إياها إذا كان الفراق بسببها ومن جانبها .
4- اتفق العلماء على أن المهر يستقر بالوطء . واختلفوا فى استقراره بالخلوة المجردة . قال القرطبى والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . قالوا : إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة . دخل بها أو يدخل بها . لما رواه الدارقطنى عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق " وقال مالك : إذا طال مكثه معها السنة ونحوها . واتفقا على ألا مسيس . وطلبت المهر كله كان لها .
أي : وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضَتْ إليك .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وغير واحد : يعني بذلك الجماع .
وقد ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما : " الله يعلم أن أحدكما كاذب . فهل منكما تائب " ثلاثًا . فقال الرجل : يا رسول الله ، مالي - يعني : ما أصدقها{[6878]} - قال : " لا مال لك إن كنت صدَقْت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها{[6879]} .
وفي سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم{[6880]} أنه تزوج امرأة بكرًا في خدرها ، فإذا هي حامل{[6881]} من الزنا ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقضى لها بالصداق وفرَق بينهما ، وأمر بجلدها ، وقال : " الولد عبد لك " {[6882]} .
فالصداق في مقابلة البُضْع ، ولهذا قال تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }
وقوله : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } روي عن ابن عباس ومجاهد ، وسعيد بن جبير : أن المراد بذلك العَقْد .
وقال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا [ غَلِيظًا ]{[6883]} } قال : قوله : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، ومجاهد ، وأبي العالية ، والحسن ، وقتادة ، ويحيى بن أبي كثير ، والضحاك والسدي - نحو ذلك .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس في الآية{[6884]} هو قوله : أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فإن " كلمة الله " هي التشهد في الخطبة . قال : وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به قال له : جعلت أمتك لا تجوز لهم خُطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي . رواه ابن أبي حاتم .
وفي صحيح مسلم ، عن جابر في خُطبة حِجة الوداع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها : " واستوصوا بالنساء خيرًا ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فُروجهن بِكَلِمَة الله " {[6885]} .
{ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } إنكار لاسترداد المهر والحال أنه وصل إليها بالملامسة ودخل بها وتقرر المهر . { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } عهدا وثيقا ، وهو حق الصحبة والممازحة ، أو ما أوثق الله عليهم في شأنهن بقوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } أو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله .
قوله : وكيف تأخذونه استفهام تعجيبي بعد الإنكار ، أي ليس من المروءة أن تطمعوا في أخذ عوض عن الفراق بعد معاشرة امتزاج وعهد متين . والإفضاء الوصول ، مشتقّ من الفضاء ، لأنّ في الوصول قطع الفضاء بين المتواصلين والميثاق الغليظ عقدة النكاح على نيّة إخلاص النيّة ودوام الألفة ، والمعنى أنّكم كنتم على حال مودة وموالاة ، فهي في المعنى كالميثاق على حسن المعاملة .
والغليظ صفة مُشَبَّهة من غَلُظ بضمّ اللام إذا صلب ، والغلظة في الحقيقة صَلابة الذوات ، ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدّتها في أنواعها ، قال تعالى : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } [ التوبة : 123 ] . وقد ظهر أنّ مناط التحريم هو كون أخذ المال عند طلب استبدال الزوجة بأخرى ، فليس هذا الحكم منسوخاً بآية البقرة خلافاً لجابر بن زيد إذ لا إبطال لمدلول هذه الآية .